الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


[5]. حنين إلى ديريك بعقلائها ومجانينها، قصّة قصيرة

صبري يوسف

2018 / 12 / 27
الادب والفن


5. حنين إلى ديريك بمجانينها وعقلائها

إهداء: إلى روح درو دينو

حقيقةً أحبُّ حتّى مجانين ديريك! وليسَ من بابِ المجاملة لأنَّهم ولأنّي من ديريك، صحيح أنَّ لديريك مكانة خاصّة في كياني لأنَّها أنجبتني للحياة لكنَّ الَّذي يجعلني أنْ أحبَّ مجانين بلادي هو أنَّ المجانين بسببِ مَرَضٍ ما، هم مجانين لا حول لهم ولا قوّة، مساكين! لهذا أتعاطفُ معهم تعاطفاً عميقاً منذُ أنْ كنْتُ طفلاً في ديريك، .. ترعرعْتُ وترعَرَتْ في ذاكرتي هذه المشاعر، فلا أنسى أبداً، مثلاً: "درو دينو" .. كانَ الأولادُ يركضونُ خلفَهُ قائلين: "درو دينو نجا كاسانِه" أي درو دينو لا تذهب إلى كاسان! .. وحتّى هذه اللَّحظة لا أعلمُ ماذا كانَ يقصدُ الأولادُ بهذهِ العبارة؟! كان يؤلمُني عندما كنتُ أرى الأطفالَ يرمونَ عليهِ حجارتهم الصَّغيرة بأيديهم الصَّغيرة فيهربُ منهم تارةً، وتارةً أخرى يدافعُ عن نفسِهِ ويرمي هو حجارته باتجاههم لكنَّه ما كانَ قادراً على تصويبِها، وقد دفعتني هذه المشاهد المؤلمة أكثر من مرّة بالتدخُّلِ وأنا طفل بحدود العاشرة ثمَّ وأنا يافعٌ ثمَّ وأنا في مقتبلِ الشَّباب، وغالباً ما كانَ الأطفالُ يتدخَّلون بشكلٍ فظّ قائلين، أنتَ ليس لكَ علاقة بنا، إنَّنا نلعبُ معهُ!
أجل! وللأسفِ الشَّديدِ هكذا يلعبُ أطفالُنا معَ مجانينِنا، يلعبونَ بجنونٍ أكثر من جنونِ المجنونِ نفسَهُ لأنَّنا لا نولي لأطفالنا اهتماماً ولا نقدِّمُ لهم ألعاباً تخفِّفُ من نشاطِهِم وميولِهِم وطاقاتِهِم الطُّفوليّة الجامحة فنتركُهم في العراءِ يلعبونَ معَ مجانينِنا كي يزدادَ المجنونُ جنوناً ويزدادوا هم خشونةً وهم كأغصانِ الدُّوالي قبلَ أنْ يشتدَّ عودُهُم ..
دارَتِ الأيام وجاءَتِ الأيام وإذ بي أتلقّى إيميلاً من شاعرة رقيقة كانَتْ إحدى طالباتي في الحلقةِ الإعداديّة والثَّانويّة، تسألُني فيما إذا أنا أستاذُها "صبري شلو" ما غيره؟! لأنَّها كانَتْ قد قرأتْ لي نصّاً سرديَّاً بعنوان: "ديريك يا شهقةَ الرّوح"، في موقعِ تيريز الَّذي يشرفُ عليه الصَّديق الشَّاعر محمَّد عفيف الحسيني، وقد طلبَ منّي عفيف خصيصاً عبر مكاملة هاتفيّة أن أكتبَ نصّاً غير منشور من وحي عوالم ديريك خاصّ لموقع تيريز! فكنْتُ قد كتبْتُ سرداً عن ديريك من خلالِ مشاهدتي لبعضِ الصُّورِ عن ديريك وأزقّتها، منشورة في الشّبكة العنكبوتيّة، وعندما شاهدْتُ الصُّورَ وتراءَتْ لي معالمَ ديريك، طفَرَتْ من عينيّ دمعتان ساخنتان وإذ بي أردُّ عليها بسردٍ شفيفٍ من أعماقِ الرُّوحِ، وعندما طلبَ منّي عفيف نصَّاً عن ديريك قلْتُ لهُ لديَّ نصّ عن ديريك لكنّهُ يحتاجُ إلى بعضِ التَّعديلات والرُّتوشات، فقالَ عدّلهُ على مزاجِكَ، فعدَّلتُهُ ونقَّحتُهُ ثمَّ أرسلْتُ لهُ النَّصّ بعدَ أن طلبَ صورةً لوالدي ولديريك ولي كي ينشرَها معَ النَّصّ، عندما قرأ عفيف النَّصّ، أضافَ للنصِّ عنواناً فرعيَّاً: "في معراجِ الحنين"، فوقعَ انتباه الشَّاعرة الطالبة على هذا النصّ، لكن صورتي كانت قد تغيَّرتْ عن أيّام زمان، وأحبّتْ أن تعرفَ فيما إذا أنا أستاذُها الشُّلويّ أم لا؟ وعندما عرفَتْ أنَّها وجدَتْ ضالّتها، فرحَتْ كثيراً وتواصلنا بين الحينِ والآخر عبر الشَّبكة العنكبوتيّة! وبعدَ فترة طيّبة تلقَّيْتُ منها هاتفاً وإذ بها تقول لي:
أنّني أودُّ اللِّقاء بكَ في سماءِ ستوكهولم بعد ساعات فأنا هنا لإجراء حوار تلفزيوني معي، وأودُّ مقابلتكَ بعدَ الحوار.
بكلّ سرور يا عزيزتي، مَن سيجري معكِ الحوار؟
أحمد الحسيني.
هل هو موجود.
نعم، إنّه بجانبي.
اعطَنِي إيّاه!
سلّمَ الحسيني عليّ ثمَّ دخلْتُ على الخطِّ بقرويّةٍ ديريكيّة، انتبه يا أحمد، إنْ لم تدلِّلوا هذه الضَّيفة الشَّاعرة الرَّائعة، سأرفعُ عليكم "فردة الرّحان" و"أشرشحكم" في بقاعِ الدُّنيا.
ضحكَ أحمد قائلاً: إنَّنا مجرّد أن دعيناها إلى ستوديوهاتنا، هذا يعني أنَّنا سندلِّلُها.
دلال عن دلال يختلف.
شعرَ أنّني من المهتمِّين بها حقّاً، فقالَ لي أنَّها تريدُ أن تلتقي بكَ بعد اللِّقاءِ.
وأنتَ أين ستهربُ بعدَ اللِّقاءِ يا أفندي؟
سألتقيكم بعدَ أن أنتهي من تسجيلِ برامجي!
ألغيْتُ كل مواعيدي في ذلكَ اليوم، كانَ لديَّ فعلاً مواعيد في غاية الأهمِّيّة لكنّي اتصلتُ معَ الأطرافِ الموعود معهم واعتذرْتُ منهم لأسبابٍ طارئة، فقالوا لي هل هي أسباب مرضيّة؟ فقلتُ لهم لا، إنّها أقوى من الأسباب المرضيّة، إنَّها أسباب حنينيّة وشوقيّة خالصة!
عندما ودّعْتُ ديريك، كنْتُ قد ودّعتُ هذه الطَّالبة، لأنَّني كنْتُ أكنُّ لها اِحتراماً خاصّاً، متوقِّعاً لها مستقبلاً كبيراً في عالمِ الشِّعرِ، حيثُ ركبْتُ دراجة أخي لأنّني ما كنتُ أملكُ دراجةً، متوجِّهاً نحوَ دارهم الكائن في الرّقعة الشِّماليّة الشَّرقيّة من وهجِ الحنينِ، وداعاً مبلسماً بدمعةٍ لا تنسى! وهكذا دارت الأيام بنا والتقينا في سماءِ ستوكهولم بعد غيابٍ طويل، كان اللِّقاءُ طيّباً ومفرحاً وحميميّاً للغاية، ربّما يتساءلُ القارئ العزيز، ولِمَ أدرجْتُ كلّ هذه التَّفاصيل في سياقٍ سردي؟!
توغَّلتُ في هذه التَّفاصيل، من أجلِ الوصولِ إلى السّؤالِ التَّالي، حيثُ أنَّني فيما كنتُ أدردشُ مع الشَّاعرة حولَ ديريك وآخر أخبارها وأوضاعها قفزَ إلى ذهني سؤالٌ لا يخطرُ على بالِ الجنِّ!
ما هي أخبار "درو دينو"، صحَّتُه وضعُهُ؟!
شهقَتْ بحزنٍ ثمَّ قالَتْ يا أستاذ، والله درو دينو أعطاكَ العمر، مات! شعرْتُ بوخزةٍ مؤلمة تجتاحُ بحيراتِ ستوكهولم الغافية فوقَ جليدِ غربتي، ثمَّ تماوجَتْ في ذهني تساؤلات عديدة، هلْ ماتَ درو دينو من الحزنِ، من الألمِ، من حجرِ طفلٍ، من مطاردةِ الأطفالِ لهُ، وهم يردِّدونَ: "درو دينو نجا كاسانه؟!" وهلَ ذهب إلى كاسان؟!
ماتَ درو دينو، وأخذَ معَهُ أحزانَهُ وأسرارَهُ، ماتَ وتركنا نشعرُ أنَّنا الآن وفي كلِّ حين أحوجُ ما نكونُ إلى كلمةٍ طيّبة نزرعُها في قلوبِ أطفالنا ومراهقينا كي لا يرموا الحجارةَ على مجانينِنا ولا على مجانينِ العالم، لأنَّ المجنون الكبير هو ذلكَ العاقل الَّذي يرمي حجارتَهُ على المجانين! وكم من العقلاء في بلادي وفي بلادِ الأرضِ قاطبةً هم مجانين وكم من المجانين هم عقلاء لكن دارَ بهم الزّمن وأصبحوا بطريقةٍ أو بأخرى من فصيلةِ المجانين!
باقةُ وردٍ أنثرُها على قبر درو دينو، وباقةُ حبٍّ أنثرُها على وجنةِ ديريك وقراها بعقلائِها ومجانينِها!

ستوكهولم: 6 ـ 5 ـ 2006








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مقابلة فنية | الممثل والمخرج عصام بوخالد: غزة ستقلب العالم |


.. احمد حلمي على العجلة في شوارع روتردام بهولندا قبل تكريمه بمه




.. مراسل الجزيرة هاني الشاعر يرصد التطورات الميدانية في قطاع غز


.. -أنا مع تعدد الزوجات... والقصة مش قصة شرع-... هذا ما قاله ال




.. محمود رشاد: سكربت «ا?م الدنيا 2» كان مكتوب باللغة القبطية وا