الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


والعالم يتغير من حولي

علي دريوسي

2018 / 12 / 28
الادب والفن


كلنا يعرف أننا لن نحتاج إلى لوحة المفاتيح في السنوات القليلة القادمة، ولن نحتاج إلى دراسة اللغات الأجنبية بل إلى الإلمام بقواعدها بالحد الأدنى. سأشارك في مطلع السنة القادمة بمؤتمر علمي عالمي في مدينة فلورنسا في إيطاليا، العنوان العريض للمؤتمر هو: وجهات نظر جديدة في التعليم. أما موضوع البحث الذي سأشارك به فهو: استخدام تقنية تتبع العين/النظر في علوم التصميم الهندسي. أثناء التحضيرات التنظيمية بدءاً من التسجيل في المؤتمر واختيار الأمسيات التي يجب أن أحضرها وصولاً إلى حجز غرفة الأوتيل وما شابه، رحت أكتب الإيميلات باللغة الألمانية الصحيحية قواعدياً، ثم بكبسة زر صرت أترجمها آلياً إلى اللغة الإيطالية بدلاً من الإنكليزية بدقة تتجاوز 95%. ردت المشرفة على شؤون التنظيم على رسائلي بالإيطالية وسألتني فيما إذا كنت قد عشت سابقاً في إيطاليا كي أجيد لغتها. باختصار أقول: الترجمة الآلية تتطور بطريقة مدهشة بينما نحن منشغلون بأمور تبكي الحجر!

العالم يتغير من حولنا بطريقة سريعة ومرعبة: نحن اليوم على أبواب الغوص - ولا أعني الدخول لأننا قد دخلنا - في مرحلة مجتمعية جديدة ومائزة جداً قوامها إنترنيت الأشياء، بروتوكول الإنترنت، الثورة الصناعية الرابعة، الذكاء الصنعي، التقنيات الرقمية المعقدة، المعلوماتية والاتصالات المتطورة، الواجهات التكاملية بين الإنسان والأنظمة وبين الأنظمة والأشياء مع بعضها البعض ... بكلمة أخرى سيتقلص الدور البشري في المجتمع القادم إلى حدوده الدنيا، لأن الأشياء (أي الآلات والأجهزة والمعدات وما شابه) ستتفاهم مع بعضها البعض دون الحاجة للإنسان!

العالم يتغير من حولنا بطريقة مذهلة وما زلت أرغب في إيقاظ ذاكرتي وتركها تنشغل بأمور تافهة، ولا أكتفي بهذا بل أحاول إشغال أصدقائي، كما حصل معي على سبيل المثال لا أكثر حين رجوتهم تذكيري بالحدث التالي: في سبعينيات القرن الماضي كان قد تم بين الحين والآخر توزيع علب صفائحية - سقارق - من الجبنة الصفراء الغامقة قليلاً على العمال والموظفين. كانت تلك الجبنة طيبة المذاق جداً، بغض النظر فيما إذا كانت قد فقدت صلاحيتها أو محتواها الغذائي أم لا. ما زالت رائحتها عالقة في أنفي حتى اليوم، رغم كل أنواع الجبن الأخرى التي جربتها لاحقاً! من يعرف ما اسم تلك الجبنة؟ حينها وصلني منهم مشكورين الجواب: إنها جبنة البطريق.

العالم يتغير من حولنا بجنون وأنا منشغل بحشرة الفاسياء ذات الرائحة الكريهة: مثل هذه الحشرات لم تكن مألوفة في السنوات الأخيرة في ألمانيا، لكنها ظهرت بكثرة هذا الصيف الحار خاصة على جدران المنازل الخارجية، عند حلول برودة المساء تأخذ بالبحث عن إمكانية الدخول إلى المنازل لتتمتع بالمزيد من الدفء. البارحة مساء وبينما نحن نتسامر نهض صديقي الدكتور حنّا بهدوء وثقة جميلتين، تناول منديلاً ورقياً واستأذنني أن يلتقط الخنفساء الملعونة التي حطّت على قميصي، أمسكها بين إصبعيه وسحبها كأنّه يسحب العصب من سن مريض. هذا الصباح لمحت من النافذة تراكتوراً في الحديقة القريبة من منزلي، تنطلق منه أبخرة - قد تكون مبيدات حشرية، لكن أشك في ذلك بسبب النظرة البيئية للحشرات - المهم ذكّرني هذا المشهد بذاك التراكتور الذي يجر خلفه صهريجاً صغيراً ويتنقل على مهل بين شوارع القرى والمدن في سوريا وعامل النظافة المرافق يعلق جهاز الضخ على كتفه ويحمل بيديه القويتين خرطوماً بقطر كبير نسبياً، يبدأ الرجل بالتراقص كبندول ساعة حائط يميناً ويساراً بينما تتصاعد من خرطوم المضخة غيوم بيضاء مدهشة برائحة غريبة، نستنشقها ونحن سعداء ثم نركض خلف الغيوم لنختبئ فيها ولنمسك بتلابيب الأدخنة قبل أن تتلاشى، تعلو صرخات الأمهات في البيوت: يا أولاد، اِفتحوا نوافذ الغرف والأبواب ليصل الدواء إلى الداخل! ما أن يبتعد التراكتور - طبيب النظافة والتعقيم - من حقل الرؤية حتى نهدأ وشعور بالنظافة والأمان الوقائي يخيّم من حولنا.

العالم يتغير من حولنا بطريقة غير مفهومة بينما يتفلسف صديقي - ونحن نشرب كأس نبيذ ونأكل التبولة التي حضرتها بمفردي - في سياق حديثنا عن دعوة الأحزاب السياسية اليمينية من جميع أنحاء أوروبا لمقاطعة الشوكولاتة السويسرية "توبليرون" بعد أن حصلت على "شهادة حلال" في عام 2018، فيقول: والله يا جماعة، أنا - وأقولها لكم بكامل الصدق - من أنصار أحزاب وتجمعات اليسار في بلدان العالم الثالث حتى الصميم لكني في الوقت نفسه من مشجعي أحزاب اليمين في العالم الرأسمالي قولاً واحداً، هل تجدون ثمة تناقض في كلامي!؟ قبلها قال نفس الصديق ونحن نحتسي البيرة في بار لاوبينليندي: ما زال للمرأة - الألمانية حصراً - دوراً ريادياً في تحويل القرد العربي إلى إنسان.

العالم يتغير من حولنا وتفاحة آدم تشغلني: كنت أعتقد لفترة طويلة جداً أنّ شكل وملمس تفاحة آدم البارزة جذّاب وجميل، وظللت على يقيني الضمني هذا إلى أن سمح لي أحد أصدقائي بملامستها ومعاينتها، حينها أدركت كم هي تشبه الشوك والصبّار ونبات العليق، فتعاطفت مع صديقي الذي يرغب لو يستأصلها.

العالم يتغير من حولنا وأنا أفكر بالمشاعر البشعة: أبشع ما يمكن أن يحدث لك على الإطلاق هو أن تكون تلميذاً نجيباً في مدرسة، محباً لمعلمك، محترماً له وواثقاً به وبأخلاقه، معتقداً في الآن نفسه أنه يبادلك بدوره المشاعر عينها بحكم نباهتك وانضباطك ووعيك، وفجأة تكتشف أنه يسلّم عليك بيده اليمنى وباليسرى يناول صبيان أجهزة المخابرات تقريراً عن هفواتك بحق دراويش الحزب وانتقاداتك للفساد والفوضى وكم الأفواه.

العالم يتغير من حولنا وأنا ما زلت أشك في كل شيء كي أفهم أكثر: حدث أن تعرفت ذات يوم إلى إمرأة روسية في السابعة والعشرين من عمرها، زوجة أحد معارفي، تجيد اللغة العربية - وخاصة العامية - بشكل مذهل، حين سألتها من أين لها هذه القدرة المميزة على تكلم العربية، أجابتني ببساطة بأنها قد أمضت في الماضي حوالي سنتين في إحدى الحارات الدمشقية. لم أقتنع! سألتها مجدداً فيما إذا كانت سابقاً - عندما كانت في روسيا - متزوجة من سوري، أجابتني بالنفي، وبقيت غيرمقتنع. أعتقد أن هناك من تعلم اللغة العربية وأتقنها - وفق برنامج خاص وُضِعَ له - بغية تحقيق أغراض أخرى غير تلك التي يدّعيها كالترويج لبضاعة ما، الكوكائين مثلاً. باختصار أقول: من المستحيل إتقان لغة ما ولا في خمس سنوات.

العالم يتغير من حولنا دون أن ينتظرنا بينما مُنْهَمِك أنا حتى قحفة رأسي بتناقضات صديقي: حين وصل ابن مدينة القامشلي - قبل أكثر من ربع قرن - إلى محطة قطار برلين قادماً من محطة قطار ميونيخ الرئيسية، وقف في بهو المحطة لاِستراحةٍ قصيرةٍ، كان عمره آنذاك عشرين ربيعاً، اِشترى لنفسه فنجان قهوة وراح يتأمل حشود المسافرين والعائدين، وجوه المودعين والمستقبلين، حركة القطارات القادمة والمسافرة، دقة مواعيدها، النظام الذي تسير وفقه المحطة بعمالها وموظفيها وسائقي قطاراتها، راح يتذكَّر المحطات الرئيسية والفرعية التي مرَّ بها قطاره من ميونيخ إلى برلين ونظام السكك الحديدية المُعقَّد وتشعباته. وبحركةٍ عصبية رافقته منذ طفولته ولم تفارقه حتى الآن شرب ثُمالة فنجانه ولعن الحكومات العربية وكتب الجغرافيا ومعلميها ومؤلِّفيها، ثم ضرب بكفه القوية على سطح الطاولة التي وقف بجانبها وقال: علّمونا في كتب الجغرافيا أنَّ سوريا تمتلك شبكة خطوط حديدية ضخمة ومُعقَّدة ولأنَّنا فقراء أكثر من مؤلِّف الكتاب المدرسيّ صدَّقناهم!

في هذه اللحظة تماماً والعالم يتغير من حولنا مع كل دقيقة، في هذه اللحظة وأنا أُقطِّع حبات البندورة لأخلطها مع زميلاتها من الخضار كي يحبل الصحن بسلطة شهية، انتابتني رَعْشَة شوق ساخن إلى صبَّار الوادي الأحمر، شمّمت رائحته هكذا بوضوح وصفاء، وكأنني كنت في بسنادا وقد أحضرت لتوّي من الثَّلاَّجة صحن الصَّبَّار المُقشَر رغم أني لم أتذوقه منذ حوالي خمسة عشر عاماً. في هذه اللحظة تماماً خطر على بالي الشاعر الألماني شيلر وهو يتناول من درج مكتبه تفاحة مُعَفَّنة يشم رائحتها الكريهة لثوانٍ ثم يبدأ بالكتابة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بايدن عن أدائه في المناظرة: كدت أغفو على المسرح بسبب السفر


.. فيلم ولاد رزق 3 يحقق أعلى إيرادات في تاريخ السينما المصرية




.. مصدر مطلع لإكسترا نيوز: محمد جبران وزيرا للعمل وأحمد هنو وزي


.. حمزة نمرة: أعشق الموسيقى الأمازيغية ومتشوق للمشاركة بمهرجان




.. بعد حفل راغب علامة، الرئيس التونسي ينتقد مستوى المهرجانات ال