الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


[1]. حيصة وسلال العنب، قصّة قصيرة

صبري يوسف

2018 / 12 / 29
الادب والفن


المجموعة القصصيّة الثَّالثة
العلّوكة والطَّبّكات

الإهداء:
إلى روح أمّي مرّة ثانية وثالثة وألف
إلى روح والدي الَّذي زرع في قلبي روح الفكاهة والبساطة والتَّعاون مع البشر كلّ البشر!
إلى بيتي القديم في ديريك العتيقة، مسقط رأسي
إلى ديريك الَّتي قدّمتني للحياة بين أحضان السَّنابل!

1. حيصة وسلال العنب

إهداء: إلى كروم العنب

كانَ لنا أيام زمان، حمارة تعرجُ قليلاً، اِشتراها والدي بعشرةِ ليرات سوريّة من أحدِ الفلَّاحين الوافدين من القرى المجاورة لديريك، فيما كانَ والدي يتفاوضُ على سعرها مع صاحبِها، نظرَ إليها ولاحظَ أنَّ "صمّكتها" حافرها الأيسر طويل إلى حدٍّ ما، لهذا حسمَ صاحبها لنا من قيمتها، كانَتْ تعرجُ لأنَّ حافرَها ما كانَ يساعدُها على الاِرتكازِ على الأرضِ بشكلٍ جيّد، هزَّ والدي رأسَه متمتماً، عندَها مشكلة في "صمّكتِها" لكنّي سأحلُّ هذه المشكلة خلال فترة قصيرة، أفضل من أن أشتري حمارة بعشرين ليرة.
حالما أصبحَتْ ملكنا، خطَّطَ الوالدُ في اليومِ الثَّاني أنْ يلملمَ عدّتَهُ الَّتي يحتاجُها كي يبدأً بحفِّ نهاياتِ حافرِها، يقصُّهُ ويبْردُهُ على مراحل بهدوءٍ غير مسبوق في عالمِ الفلَّاحين، كنتُ أنظرُ إلى والدي من بعيد، كم كانَ شغوفاً في قصِّ ظلفِها بشكلٍ دقيقٍ وبصبرٍ منقطعِ النَّظير، وكلّما كانَ يجدُ لهُ وقتاً كانَ يحفُّهُ برغبةٍ متواصلة، كأنّهُ يكتبُ أبهى ما لديهِ من نفائسِ الأدبِ، جميلٌ أنْ يكونَ الإنسانُ مخلصاً، وفيَّاً معَ أهدافِهِ وعوالمِهِ في الحياةِ.
الآن! عندما أتذكَّرُهُ وأتذكَّرُ هذهِ الأحداث والمواقف بكلِّ تفاصيلِها، أهمسُ في سرّي قائلاً، يبدو أنَّ هذه الطَّاقات الصَّابريّة والتَّحمُّليّة اِستمدَّيتُها من ذلكَ الوالد الَّذي كانَ هادئاً وصبوراً وقادراً على الوصولِ إلى أهدافِهِ من خلالِ صبرِهِ واِستمراريَّتِهِ الدَّؤوبةِ في العملِ، شخصيّة عصاميّة فلّاحيّة بسيطة، عشقَ عمله وكل ما قامَ بهِ برغبةٍ عميقة وباستمراريّة مدهشة، وبعدَ فترةٍ أصبحَتْ حمارتنا تسيرُ من دونِ أنْ تعرجَ، فجمَعَنا والدي في حوشِنا الكبير في بيتِنا العتيقِ، وقالَ لنا اليوم سأطلقُ إسماً على حمارتِنا.
نظرْتُ إليهِ قائلاً: ماذا ستسمِّيها يا بابا؟
سأطلقُ عليها إسم "حيصة".
وماذا تقصدُ بهذا الإسم، وهلْ لهُ معنى ما لديكَ؟
ضحكَ والدي وبدأ يسخرُ منّي، قائلاً أنا أدخلتُكَ في المدارسِ كي تتعلَّمَ شيئاً ما وتفيدُنا بهِ، لا أنْ تسألَني عن معنى حيصة؟!
يا بابا أنا الآن في الصَّف الأوَّل وهذه الكلمة جديدة علي، فنوّرنا أنتَ ما تعنيه بـ "حيصتِكَ؟!
نظر والدي نحوي وهو يضحكَ ضحكة خفيفة وقالَ، حيصة يا ابني تعني سريعة مثل الحصاية، أي كالحصى.
لكنَّها ليسَتْ سريعة مثلَ الحصاية.
بالنِّسبةِ لي هي مثلَ الحصاية فهيَ أسرع منّي ومنكَ ومن إخوتكَ ومن نساءِ ورجالِ الحيِّ وهي محمَّلة بأربعةِ سلالٍ من العنب!
نظرْتُ إلى والدي مندهشاً بأفكارِهِ، وطريقةِ تحليلِهِ، أتذكَّرُ جيّداً أنَّني كنتُ أركبُ على حمارتِنا عندما كنّا نذهبُ إلى كرمِنا، نلمُّ عناقيد العنب بمتعةٍ كبيرة في الصَّباح الباكر، ونملأُ أربعةَ سلالٍ خلال وقتٍ قصير، وعندما كنّا نعودُ إلى سوقِ المدينة كي نبيع العنب، ما كانَ والدي يسمحُ لي أنْ أركبَ عليها، لأنَّها كانت محمّلة بسلالِ العنبِ، فكنْتُ أقولُ لهُ، لماذا يا بابا لا تسمحُ لي أنْ أركبَ عليها؟ فكانَ يجيبُني: خطيّة، الدّابة حيوان الله، تتعبُ هي أيضاً، فأربعُ سِلالٍ مملوءة بالعنبِ وأنتَ لو ركبْتَ عليها، سيصبحُ حملها ثقيلاً، ثمَّ أنّكَ تستطيعُ أنْ تمشي أكثرَ منّا، فلماذا لا تمشي وتتركُها مرتاحةً في حملِها؟! أعجبني تعاطف والدي معها، فما كانَ يحمِّلُها فوقَ طاقتِها كي تسيرَ مرتاحة بحملِها وتكونَ مُهيَّأة للعملِ في كلِّ الأوقات!
أتساءَلُ، كم من السِّلالِ حملَتْ حيصتُنا على اِمتدادِ سنواتٍ وسنوات، وكمْ مِنَ الخدماتِ الجانبيّة قدّمته لنا ولغيرنا، وما كانَتْ تتأفَّفُ أبداً، تكتفي بقليلٍ من العشبِ والعلفِ، بينما الآن أجدُ بعضَ قادة العصرِ ونحنُ في بدايةِ القرنِ الحادي والعشرين، يهطلونَ وابلَ سمومِهم على البلادِ والعبادِ، ولا يقلقونَ على موتِ آلافِ بل ملايين البشر في هذا الكونِ الفسيحِ. أنا متأكِّدٌ أنَّ حمارتَنا حيصة ذات الحافر المتطاول قدَّمَتْ خدمات لنا، للإنسانِ أكثر ممّا يقدِّمُهُ بعض هؤلاء القادة، لأنَّي أرى جنون الحروب والصِّراعات تتفاقمُ خلال حكمهم عاماً بعد عام! وسؤالي المفتوح، ماذا تفيدُنا تقنيّاتهم وتكنولوجيَّاتهم وعلومهم وطائراتهم، طالما يهطلونَ سمومَهم على أطفالِ وكهولِ وشيوخِ بلدانٍ مشتعلةٍ بالنّارِ، دونَ أنْ يرمشَ لهم جفن؟! مع أنّهم يستطيعوا بكلِّ بساطة إيقاف هذه الحروب ووضع حدٍّ لهذه الويلات.
أنا أرى أنَّ حمارتنا حيصة، نعم حيصة تقدِّمُ خدمات أفضل من هكذا سياسات ومن كلّ مَنْ يفكِّر بهذا الشَّكل الوحشي الأهوج في دمار البشر في الكثير من بلدان العالم، لأنَّ الكثير من توجّهاتهم تصبُّ في تناحراتٍ وصراعاتٍ مميتة، تنتهي بشكلٍ مخيف في بُركِ الدَّم، وكأنَّهم من فصائل وحوشِ البراري!

ستوكهولم: 7 . 8 . 2006








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أحمد حلمى من مهرجان روتردام للفيلم العربي: سعيد جدا بتكريمي


.. مقابلة فنية | الممثل والمخرج عصام بوخالد: غزة ستقلب العالم |




.. احمد حلمي على العجلة في شوارع روتردام بهولندا قبل تكريمه بمه


.. مراسل الجزيرة هاني الشاعر يرصد التطورات الميدانية في قطاع غز




.. -أنا مع تعدد الزوجات... والقصة مش قصة شرع-... هذا ما قاله ال