الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


[3]. عبور في عوالم واهِم، قصّة قصيرة

صبري يوسف

2018 / 12 / 31
الادب والفن


3. عبور في عوالم واهِم

كنتُ ألتقيهِ كلّما أصعدُ الباصَ وأنا في طريقي إلى العملِ، يتحدّثُ معَ نفسِهِ بصوتٍ مسموع، يحرّكُ يديهِ وهوَ يخاطبُ محدّثَهُ الوهمي، يرفعُ نظرَهُ نحوَ الأعلى وكأنَّه يرى مَنْ يتحدَّثُ معهُ، يبدو واضحاً أنَّهُ مريض بالاِنفصامِ، اِنفصام من العيارِ الثَّقيل. جذبتْني طريقةُ تواصلَهُ معَ الشَّخصيّة الوهميَّة، ينزلُ في نفسِ موقفِ الباصِ الَّذي أنزلُ فيهِ، نسيرُ معاً، أتركُهُ يتقدَّمُ بضعةَ خطواتٍ أمامي، تبيّنَ لي لاحقاً أنّهُ يخاطبُ فتاةً بودٍّ كبير، يضعُ يدَهُ وكأنّها سكِّين على رقبتِهِ موجّهاً كلامَهُ لفتاتِهِ المحلَّقة في أوهامِهِ، قائلاً لها، قصّي رقبتي هكذا بالسّكّينِ لو أخلفْتُ معكِ بوعدي.
آلمني هذا المشهد، شاب على مشارفِ العقدِ الرَّابع من العمرِ، حاولْتُ أكثر من مرّةٍ أنْ أدردشَ معَهُ لكنِّي تريّثْتُ قبلَ أنْ أخوضَ معَهُ هذهِ المغامرة، إنّها بالنِّسبة إليّ فعلاً مغامرة غريبة من نوعِها، لم يسبقْ لي أنْ خضْتُ مثيلاً لها.
أجل، أنْ تعبرَ عوالم هكذا شخصيّة، مغامرة من نوعٍ خاص، لكنِّي أحبُّ الدُّخولَ في هكذا مغامرات، فهي تفتحُ لي آفاقاً جديدة، غير معروفة من قبل، وبدأتُ أهتمُّ بهِ كلَّما صادفْتُه، وفي إحدى لقاءاتِنا، تركتُهُ يسيرُ قبلي ثمَّ مرَرْتُ بجانبِهِ وسلَّمْتُ عليهِ، لم يجِبْ على سلامي فسلَّمْتُ عليه ثانيةً، فلم يردّ عليَّ، ثمّ لامَسْتُ كتفَهُ قائلاً لهُ إنَّني أسلّمُ عليكَ فلماذا لا تردُّ عليّ؟ فأجابني بانفعالٍ لا تقاطعْ سلسلةَ أفكاري، اتركْني أكمِّلُ حديثي معَ صديقتي، عندَها تيقَّنْتُ تماماً أنَّهُ يتواصلُ مع فتاتِهِ في خيالِهِ، وتبيّنَ لي أنَّهُ ربّما كانَ غائصاً يوماً ما في قصّةِ حبٍّ غراميّة وحصلَ ما حصلَ له إلى أنْ وصلَ إلى هذا الاِنفصام المرير! تركتُهُ على راحتِهِ، إلى أنْ وصلْنا الدَّرجَ، صعدْنا الدَّرجَ الَّذي يقودُ إلى ساحةِ المحلِّ الَّذي أعملُ فيهِ، عَبَرَ دارَ رعايةِ المرضى والمعاقين، وأنا عبرْتُ محلِّي المقابل لدارِ الرِّعاية.
ظلّتْ طريقته الحواريّة مع فتاتِهِ معلّقةً في ذهني طويلاً، هزَزْتُ رأسي متمتماً، الإنسانُ ضعيفٌ أمامَ أزماتِ الحياةِ، وكلّ إنسانٍ معرّضٌ لهكذا نكسات! كنتُ ألتقيهِ مرّة في الأسبوع، وهكذا تشكَّلَ لديّ نوع من العلاقة والألفة ثمَّ تولَّدَتْ لديَّ رغبة عميقة لمعرفةِ عوالمِهِ الوهميّة، فكّرْتُ طويلاً بطريقةٍ أستطيعُ من خلالِها أنْ أدخلَ معَهُ في حوارٍ، لعلّي أعرفُ خبايا أوهامِهِ الَّتي يتجاذبُ معَها أطرافَ الحديثِ، لربَّما أستطيعُ أنْ أخفِّفَ ولو قليلاً من اِنكساراتِهِ.
دخلْتُ على الخطِّ، في أوجِ إحدى حواراتِهِ معَ فتاتِهِ، رأسُهُ نحوَ الأعلى، كأنَّ حبيبته معلّقة في السَّماءِ وهو يناجيها، سلَّمْتُ عليهِ، لامسْتُهُ من كتفِهِ كي ينتبهَ إلى صوتي، تابعَ حديثَهُ معَ فتاتِهِ وكأنّهُ لمْ يسمعْ صوتي ولم يشعرْ بملامستي لكتفِهِ، ثمَّ هزَزْتُ كتفَهُ بهدوء قائلاً، لماذا توجّهُ أنظارَكَ نحوَ الأعلى؟ إنَّني هنا، أتحدّثُ معكَ، دعني وشأني أتحدَّثُ معَ صديقتي، أنا صديقتُكَ الَّتي تتحدّثُ معها دائماً! مَنْ أنتِ، صديقتي؟ معقول! لكنَّكِ دائماً كنتِ هناكَ في الأعالي، كيف نزلْتِ إلى الأرضِ؟
كي تستطيعَ أنْ تراني وتتحدَّثَ معي عن قرب وجهاً لوجه، ضحَكَ بعفويّةِ وفرحِ المصابين بالاِنفصام، ما كانَ ينظرُ نحوي بدقّة، عيناهُ تتحرَّكان بطريقةٍ غير مركَّزة على جهةٍ ما، يبدو وكأنّهُ لا يرى بشكلٍ جيّد، سلَّمْتُ عليهِ باليدِ، ففرحَ وقالَ لي، هذه أوَّل مرة تسلِّمينَ عليَّ منذُ أنْ غبْتِ عنّي وعبرْتِ زرقةَ السَّماءِ.
حاولْتُ أكثرَ من مرّة أنْ ألتقيكَ وجهاً لوجه، لكنَّكَ كنتَ تصرُّ أن توجِّهَ أنظارَكَ نحوَ الأعلى، لهذا أحببْتُ هذهِ المرّة أنْ أنزلَ من عليائي إليكَ، لأنَّني بشوقٍ أنْ أتحدَّثَ معكَ، بشوقٍ كبير أنْ أتناولَ معكَ قليلاً من الطَّعامِ، أنْ أشربَ معكَ قهوة بعدَ الغذاءِ، نتناولُ آيس كريم، هل تتذكَّرُ عندما كنّا نعبرُ الغابات، ونتجوَّلُ في أزقَّةِ المدينةِ حتَّى أنصاصِ اللَّيالي، نسهرُ، نرقصُ نغنِّي وكأنَّنا نملكُ الدُّنيا وما فيها؟!
نعم، أتذكَّرُ هذا، لكن لماذا اِختفيتِ فجأةً عنّي وتواريتِ بعيداً، وعبرْتِ ثنايا السُّحاب؟!
كي تشتاقَ إليَّ أكثر من قبل، تفضَّلْ، أنَّني أريدُ أنْ أقدِّمَ لكَ الآيس كريم الَّتي كنتَ تحبُّها.
فيما كنتُ أمسكُ يدَهُ، متوجّهاً إلى محلّي، كانَتِ المشرفةُ عليه، طبيبتهُ الخاصّة، تراقبُني من بعيد، مذهولة من النَّتائجِ الَّتي حقَّقتُها معهُ، همسَتْ في سرِّها، كيفَ اِستطاعَ هذا البائع أنْ يتكلَّمَ معَ مريضي، وكيفَ أقنعَهُ أنْ يسيرَ معَهُ إلى محلِّهِ، ها قد دخلا المحلَّ سويَّةً، قدّمَ إليهِ البوظة الَّتي يحبُّها، فتحَ لهُ البوظة، ثمَّ قدَّمَها لهُ كي يتناولَها، خرجا من المحلِّ، الشَّمسُ دافئة، ترسلُ أشعَّتَها الذَّهبيّة فتضفي على المكانِ دفئاً، جلسَ على المقعدِ تحتَ شجرةٍ كبيرة، ثمَّ تركَهُ يتناولُ بوظَتَهُ، بعدَ أنْ ودَّعَهُ، وواعداً إيّاه أنْ يعودَ إليه بينَ الحينِ والآخر، كانَتِ البسمةُ مرتسمةً على وجهِهِ وهوَ يتناولُ البوظةَ بشهيّةٍ مفتوحة.
تقدَّمَتْ نحوَهُ المشرفة الَّتي ترعاهُ، حاولَتْ أنْ تتحدّثَ معَهُ، لكنَّهُ لم يستجِبْ إليها، رفعَ رأسَهُ عالياً، يتحدّثُ معَ فتاتِهِ، لا تغيبي عنّي طويلاً. وبعدَ عدِّةِ محاولاتٍ من المشرفةة، وقفَ متوجّهاً نحوَ دارِ العجزة والمعاقين، أمسكَتْ يدَهُ، تساعدُهُ على الدُّخولِ إلى دارِ الرِّعاية، الَّتي قضى فيها سنيناً طويلة! .. وبعدَ لحظاتٍ جاءَتْ تسألُني بفضولٍ كبير، كيفَ اِستطعْتَ أن تتحدَّثَ معَ مريضي، كيفَ اِستطعْتَ أنْ تقنعَهُ بالإصغاءِ إليكَ وكيفَ تمكَّنْتَ أنْ تجعلَهُ يشعرُ بوجودِكَ؟! فأنا أشرفُ عليهِ منذُ سنوات، ولم أستطِعْ أنْ أحقِّقَ ما حقَّقْتَهُ أنتَ خلالَ فترةٍ وجيزةٍ، لأنَّهُ يعيشُ خارجَ الواقعِ، يعيشُ معَ اِنفصامِهِ وأوهامِهِ منذُ سنين!
لا أخفي عليكِ، لفَتَ اِنتباهي عالمُهُ منذُ أنْ شاهدْتُهُ أوَّلَ مرّةٍ، وبعدَ مشاهدتي إيَّاه عدَّة مرّات من خلالِ دورةِ الباصِ الَّتي تنتهي بنا إلى هنا، اِستطعْتُ أنْ أعرفَ محورَ تركيزهُ الموهوم، حيثُ وجدْتُهُ يحاورُ فتاتَهُ الوهميّة الّتي غابَتْ عنهُ، فأوهمْتُهُ أنَّني الفتاة الَّتي يتواصلُ معَها، وهكذا نقلْتُ حوارَهُ مَعَ فتاتِهِ الوهميّة إلى الحوارِ معي، على أنَّني هي بعينِها، مبيّناً له أنَّني بشوقٍ كبير للحديثِ معَهُ وجهاً لوجه، ففرحَ بنزولي من الأعالي إلى عوالمِهِ، لهذا تواصلَ معي وتحدّثَ معي على أنَّني صديقته الوهميّة، وإلَّا فمن المستحيلِ اِقناعه الحديث معي أو معَ غيري، لأنَّ محورَ تركيزه أصبحَ موَجَّهاً على أوهامِهِ، فلا بدَّ من إدخالِهِ إلى عالمنا عبرَ منحى أوهامِهِ، كي نحقِّقَ لهُ عبرَ هذا العبور نوعاً من التَّواصلِ معه، ورويداً رويداً ربَّما نستطيعُ الولوجَ إلى عوالمِهِ السَّحيقة ونضعُ أيدينا على جراحِهِ الغائرة، لعلَّنا نعثرُ على بعضِ الخيوطِ الَّتي تقودُنا إلى بَلْسَمَةِ اِنكساراتِهِ وأوجاعِهِ الخفيِّة!

ستوكهولم: كانون الأول (ديسمبر) 2007








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان عبدالله رشاد: الحياة أصبحت سهلة بالنسبة للفنانين الشب


.. الفنان عبدالله رشاد يتحدث لصباح العربية عن دور السعودية وهيئ




.. أسباب نجاح أغنية -كان ودي نلتقي-.. الفنان الدكتور عبدالله رش


.. جزء من أغنية -أستاذ عشق وفلسفة-.. للفنان الدكتور عبدالله رشا




.. الفنان عبدالله رشاد يبدع في صباح العربية بغناء -كأني مغرم بل