الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الطابور الخامس

زياد بوزيان

2019 / 1 / 4
الادب والفن


فجأة رفع اللثام عن وجهه ليقول لفتاة كانت مارة من أمامه : « يجب ﺃن تبتعدي عن طريقي‎ ‎‏.. ‏فأنتِ قد خنتِ وطنكِ ، أما أنا فمازلت أحبُ وطني وقائدُه الشهم .. ثم ماذا تريدين من شخص ‏متورط في السياسة و ألاعيبها إلى الأذنين؟ إنَّ عليكِ الابتعاد حتى لا ينكشف أمر طابورنا الخامس ‏‏» ، وإذ بالفتاة وكأنها لم تفهم شيئاﹰ تتوارى من أمام عينيه وهي تتأمل الحي الذي يقيم فيه صديقها ‏عمر بدون أن تنبس ببنت شفة، حتى إذْ كادت أن تختفي من على تلك الطريق الطويلة الخالية ، ‏الملأة بالمتاريس و العجلات المحترقة ناداها بأعلى صوت : « هاااااي ، أتمنى أن تتعلمي الفرنسية ‏بدل الإيطالية ، وتهتفي باسم مُشربكِ من زلال ماء النهر الصناعي الصافي كل صُبح وكل مساء ‏متى أغارت طائرات العدو» ثم انصرف مسرعاﹰ حاملاﹰ في يده قرصا مضغوط وقد كُتب عليه " تعلم ‏الفرنسية في أسبوعين".‏

‏ ما إن وصل البيت حتى جرَّب القرص ، ليستمع إلى تلك اللغة الفخمة الأنيقة التي طالما أسرته ‏‏.. لكنه لم يفهم شيء فالمحادثة كانت سريعة ولم يستوعب أي شيء .‏
ــ « لا بد من متابعة الصوت بقراءة النص المكتوب حتى أعي ما يقوله » قالَ ثم عاد أدراجه ‏للحصول على نسخة المُسجَّل مكتوبا ، لكنه لم يكن محظوظاﹰ فقد نفذت جميع النسخ ، فعاد لتوه ، ‏و بينما هو يعبُر أحياء المدينة حياﹰ بعد حي باتجاه البيت ، كانت تتناهى إلى مسامعه أصوات ‏المُكبِّرات وهي تُشيد بالقوات الأجنبية المغيرة و بالمتمردين فأسرع خطوَهُ وهو يبصُق هنا وهناك ، وما ‏إن وصل حتى خفّت الأصوات وصُدَّت الأبواب و هجعت الأرواح على أزيز سِرب آخر جديد من ‏غارات الحِلف وهي تستبيح العاصمة وتدك معالمها كما تشاء ، و كأن الأمر لا يعدو أن يكون حلماﹰ ‏، حاول صمَّ أُذنيه على السّماع ، ﺃو ﺃن يلعن قدره ، ﺃو يخرج إلى شباب الحي يحرِّضهم على رمي ‏العدو بكل ما يُرمى .. لكنه هجع وسكن هو الآخر، وهو فاقدٌ للإدراك. حرَّك قُفل الراديو مصغياﹰ ‏ﻷخبار محطات راديو الإفرنجة و حلفائهم حيناﹰ و المحطات العربية حيناﹰ آخر، فلم يسمع غير ‏تدخلات الخونة و المتمردين وهم يحيُّون أسيادهم و يشتمون قائدهم ، فلم يدري في وقت تسارع فيه ‏الصراخ بعد قنبلة طائرات العدو للعاصمة طرابلس و ازدياد ضجيج الأصوات المخترقة بأصوات ‏المكبِّرات و هي تتلو أخبارا تشبه الأكاذيب إلاًّ و هو يضرب الراديو ضربة أسكتته إلى الأبد. ‏
ــ « أتُرى صحيح ما تقوله دعاياتهم ؟ أصحيح يكون المتمردون سيطروا على أطراف العاصمة؟ لِماَ ‏لا أتأكد من ذلك بنفسي؟ » ‏

‏ هيَّأ دراجته للخروج إلى الأحياء التي قالت الأخبار أنها سقطت في أيدي "الثوار" ولكم كانت دهشتُه ‏عظيمة عندما دخل و كثير من أبناء العاصمة الغاضبين إليها ، وأعينهم تشع بنور أشبه بالنور الذي ‏يعتري عادة أرامل المجاهدين في سبيل الله ، لا وجود إلاّ لطوابير طويلة من النور مُنبعث من أعين ‏شباباﹰ وكهول ، شيوخاﹰ و أطفال صاروا في أمس الحاجة للماء.. والنور وبس، منهم من كان يحمل ‏السلاح ، فعرف حقيقة أن زعيمهُم قد وزَّعها عليهم قبل أن يتوارى ، لكن هل سيثبُت هؤلاء أمام ‏الخونة المُحيطين بالمدينة وهم عطشى؟ إن المتمردين وآلياتهم باتت تحاصر ممرّات العاصمة ‏مستعدة للانقضاض ككلاب مكلوبة أو خنازير جائعة ، بل دخلت بعضَها إلى المدينة و سيطرت ‏على مصادر المياه ، و تشدقت لتوها و نظَّمت طوابير كانت و أخرى ستكون لملأ قوارير المياه و ‏توزيع سِلال الطعام.. وكان كل هم عـمـر هو أن يرفع صوته كمكبـر صوت أو كبرّاح شعبي إلى ‏عنان السماء قائلا : « الأهالي جاءوا غاضبين حانقين لا مُبتهلين فرحين ، جاءوا لملء حاجاتهم ‏من المياه ، لا الترحيب بفلول الخونة كما ادَّعت المحطات الاذاعية » لكنه لم يقدر أو لم يجد ذات ‏اليد التي تعاونه.‏
‏ في أثناء عودة عمـر إلى المنزل تسترعي انتباهه كاتدرائية مُهشّمة ، كأنها مهجورة ، تقع بين أحياء ‏راقية تعج بالحركة فاستغرب عدم استعمالها من طرف المتمردين ، وهم الذين من عاداتهم تسخير ‏كل شيء للإطاحة ﺑ " الديكتاتور" حسب زعمهم ، حتى دور العبادة ، حاول دخول الكنيسة وما كاد ‏يفعل حتى هاجمته مجموعة من الكلاب الضالة و الجرذان الضّخمة كانت محتمية داخلها ، صار ‏عمر متلهفاﹰ بدافع الفضول لاكتشاف رُدهة الكنيسة التي لم يرها إلاّ في التلفزيون ، أو اكتشاف سر ‏ما من أسرار حياة القساوسة يكونوا قد تركوها فيها قبل أن يرحلوا ولِماَ لا اغتنام فرصة القلاقل لغنم ‏ما يمكن غنمُه‎ ‎؛ برغم الظلام المُطبق الذي يضيع فيه الطريق ، تحوّل بين مقاعد الكنيسة المُغبرة ‏وبين الرُّدهة ثم إلى غرف صغيرة قُبالتها ، فلم يشاهد غير الحُطام والخراب والأوراق المُبعثرة في كل ‏ركن ، إذ كل ما بقي من خزائن وأدرج كانت ملتصقة بالحيطان ، لا وجود لأي أثاث حر، فلا بد ‏من أن تكون كل مقتنيات الكنيسة كلها قد سُلبت.‏
‏ بينما بدﺃ عمر ينفض الغبار عن حزمة مكدّسة من الأوراق ، إذْ به ينتشل كتاباﹰ متوسط الحجم ، ‏ما بقي فيه من حروف توحي أنه الكتاب المقدس ، فمسحه و وضعه تحت إبطه و راح يفتش عن ‏المزيد، غير أنّ مُواء القطط المجرَّحة المتصارعة مع الجرذان الضخمة قد أدخل الرعب في نفسه. ‏ولكنه تعاطف كثيرا مع القطط المُكابدة بدون جدوى. إذْ لم تقدر على النيل منها لنحافتها و سمن ‏الجرذان التي كانت تعيش في رغد عند الأوروبيين ، تلك المشاهد الدرامية المُرعبة جعلته يفكر في ‏المغادرة لكنه ما كاد يفعل حتى ناداه أحدهم ، بادياﹰ في هيئة مسلح كالمتمردين تماما ، سائلاﹰ إياه :‏
‏ " ــ هاي توقف ماذا تفعل هنا؟ ــ من أنت تكلم؟ ـــ ماذا تُخبأ تحت ذراعك؟
‏ ــ هيَّ انبطح بسرعة.‏

‏ ومن حسن حظ عمر قبل ﺃن يواجِهَه بالكتاب المقدس ، بدأت طوابير مُختبئة خلف الكاتدرائية ‏تصوب نيرانها على غير هدى .. « إنها خلايا المقاومة يا لحظي. سأحاول الإفلات من هذا ‏المجرم » قال عمر، بينما سارعت مجموعة من المتمردين إلى مصدر الطلقات هرول هو عكس ‏مصدر الطلقات وهو يلهث أخرج الكتاب ؛ إنه زاده الغريب الذي لا يدري ماذا يفعل به ، فلغته ‏الفرنسية مازالت ضعيفة حتى يقرأه. ‏
‏ أدرك أنه يجب أن يتخلى عنه حتى لا يثير شكوك المتمردين فيرمُونه ، بيد أنه قاوم على طريقته ‏، ودخل بين المباني مختصرا المسافات جُهده حتى وصل سالماﹰ ، ولم يبطئ وشغَّل راديو هاتفه ‏متناسيا أن شبكة الإنترنت مقطوعة منذ أمد، فتوجه للراديو فوجد أن دعايات المحطّات قد زادت ‏وهي تبث أنواع من الشهادات ؛ عن "معارك حامية الوطيس" يُقال أن أبطالها اعتقلوا "جرذان النظام" ‏كانت مختبئة بكنيسة القديس فرنسيس وسْطَ العاصمة ، فتعكر مزاج عمر لاعنا أبواق الطواغيت ثم ‏بصق. ولم يوجه ضربته للراديو لكنه غير المحطَة بسرعة لينأى بنفسه عن كل تلك الأكاذيب و ‏السفسطات الإعلامية بالاسترخاء على سريره‎ ‎، وأخذ قسط من الراحة.. وبينما هو كذلك تتناول يداه ‏المتعبتان ذينك الكتاب المقدس من على الرَّفوف مطلقاﹰ تنهيدة عميقة ، ثم ما لبثت أن عادت لتُلقي ‏به لكن على الصدر ، على الجسد المتهاوي ، فاستعذب اغماءته متمططا تمططا روحيا فيهما بشارة ‏ونعيم لم يزل. ولم يكن في حل من أمره سوى التمتع بلذتهما.‏

‏ لم تمضي برهة قصيرة حتى تناهت إلى أسماعهِ أصوات و شوشرات الراديو من جديد ، فقد عادت ‏فيه الروح من جديد، يبدو أنه كان بعيد كفاية لكي يُصمتَهُ إلى الأبد ثانيةﹰ ، لذلك تمنى أن يفهم ‏الراديو نفسه في وقت هو وقت قيلولته ، بيد أن الأصوات المنبعثة منه ما لبثت أن استحالت قراءات ‏متقطِّعة كأنها حشرجات إنسان ثم استوت خطاباﹰ بلغة جميلة أنيقة هي لغة الشعر و الرومانسية ، ‏لغة موليير التي طالما استهوته، فأدرك بالخصب في نفسه بكل ما بقي لديه من وعي، عندما لاح ‏في ذِهنه طيف تلك الصديقة الخائنة وخيال ذلك القرص المسجل فاستجمع قِواه محاولاﹰ فك طلاسم ‏تلك القراءات المتتالية.. كأنها محطة إذاعية تبشيرية .. أضحى يستمع بتمعن وتركيز شديدين ويداه ‏تعبث بالكتاب المُلقى على صدره ، و تقلِّبه دون وعي حتى تبين له أن المُذيع يقرﺃ من نفس الكتاب ‏المُلقى بين يديه ؛ فأرسل تنهيدة أخرى كأنها تنهيدة عودة الروح إليه بعد موات فزاد أمله في صبر ‏أغوار تلك القراءات للكتاب المقدس ، ثم ظل على مداومته تلك حتى تمكن من فك طلاسم لغة ‏موليير نطقاﹰ وكتابة.‏
‏ ..و ليته لم يفعل ، فقد عاودت عمر أوجاع ذكريات القطط و الجرذان و الكنائس المحطّمة و ‏البلاد الخَرِبة حتى بلغت بهِ الحلقوم ، حيث ما برحت آلام الظّلم متقدة كجذوة تلازمه كلما لاح ‏ببصره صوب الشباك ، كأنه وقع في مرض لا يعرفه . ربّما هو مرض الوطن المستبد به ، بعد أن ‏فقه اللغة الفرنسية وصار يفهم ما يُذيعه الغزاة ، أو كأنه مرض تلك التعاليم التي جاءت جسداﹰ لثوب ‏اللغة لتُحطمه وتقوّض كيانه بل تزلزله غير ما مر؟ ؛ « ليتني لم أقرأه و ليتني لم أْحْبِبه و ليتني لم ‏ألتقطه ، كأني أصِبتُ بطاعون تلك الجرذان السمينة القذرة في لحظات من غبن وطمع وانقطاع عن ‏الوعي..!» تمتم في نفسه. ‏

‏ لقد أدخلتهُ تلك التساؤلات متاهات الأرض و الوطن و الله مستبعدا على غير عادته مسألة الثورة! ‏إنه مدخل وهم جديد ، ليس بوهم اللغة هو، لكنه وهم الفكر المسيحي بوساوسِهِ جسدتهُ تعاليم ما ‏قرﺃ، فأضحى كالمجنون لا يدري ما أصابهُ ، بيد أن كل شيء أضحى يجذبه و يستدرجه لامعان ‏النظر، ثم التأمل و التفكير بجد في : الحي قبالة الكنيسة المهدّمة أو قرب شوارع الطوابـير الـخمس ‏المندسة بِأحكام أو قرب نعوش الشهداء المسجّاة أو قرب القرب. أجل، قرب ضميره و فكره المتحول ‏المناجي لذاته بأعلى صوت ؛ أن أترك لغة الحرب و الطوابير و أقبل على لغة السلم و السلام.‏








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري


.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض




.. تقنيات الرواية- العتبات


.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05




.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي