الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل من طبقية بين البشر؟

عقيل عيدان

2006 / 4 / 17
مواضيع وابحاث سياسية


قرأت يوماً قصة للأديب الروسي انطون تشيكوف (1860ـ1904م) يصوّر فيها »أسقفا« يمارس عمله ليلة عيد الفصح وقد تجمّع الناس من حوله في الكنيسة وهو يردّد الصلوات ويوزع البركات يقف على قدميه ساعات وساعات حتى أصبح لا يكاد يميز ما يراه من شدة التعب والإرهاق، وخيّل إليه أنه يرى بين المصلين أمه العجوز التي لم يرها منذ عشر سنوات .
وانتهت المراسيم وذهب الأسقف إلى بيته وهناك أخبره خادمه العجوز بأن أمه قد وصلت وأنها تقضي الليلة عند بعض أقاربهم، كانت هي أمه إذن التي رآها في الكنيسة، ونظر الأسقف في ساعته ولكن كان الوقت متأخراً ولا يليق به الخروج، فخلع ملابسه وآوى إلى فراشه، حاول النوم ولكن جسمه يئن من التعب وكان شوقه إلى أمه يستولي على كل مشاعره، فبات ليلته يحلم بأيام طفولته وصباه وقريته، وشعر بأنه وحيد وأن الوحدة تقتله . وفي الصباح المبكر جاءت أمه، وكم كان سعيداً بها، أحس أنه بحاجة إلى أن يرتمي في أحضانها، أن يضع رأسه على صدرها وينام، وحدّثها عن شوقه إليها طوال هذه السنوات التي لم يرها فيها وكيف أنه كان يتمنى لو أنه بدلاً من أن يصبح أسقفا كان فلاحاً بسيطاً يعيش في قريته مع أسرته ويرى أمه كلما شاء، وأجابت الأم في حياء (( ما أنا إلاّ امرأة فقيرة لا قيمة لها، وهذا الكلام تنازل كبير من قداستك )) .
ودهش الأسقف، لم يكن هذا صوت أمه، بل صوت واحدة من عشرات النساء اللاتي يلجأن إليه كل يوم، وأحس أن أمه ما زالت بعيدة عنه وأن هذه المرأة التي أمامه ليست أمه على الإطلاق، وزادت دهشته بعد ذلك إذ لاحظ أنها تتحاشى الكلام معه وأنها عندما تنظر إليه تنظر خلسة، وأنها لا تجلس في حضرته . وذهب الأسقف إلى عمله وعاد في المساء وجلس يتناول العشاء مع أمه وحاول أن يجرّها في الحديث معه، ولكن كانت لهجتها هي نفس اللهجة، وأصبح واضحاً أنه لم يعد في نظرها ولدها (بيتر) بل سيادة الأسقف . وعندما آوى إلى فراشه تلك الليلة كان جسمه مازال يئن من التعب وكان موقف أمه منه يحيره ويؤلمه، لم يكن يعرف ماذا يفعل لكي يجعلها تحس أنه ابنها، كي يشعر أنها أمه، وسمعها بعد لحظات تتحدث إلى خادمه العجوز في الحجرة المجاورة حديثاً طويلاً لا كلفة فيه، عن بناتها وأحفادها وحياتها وحياتهم في القرية، تروي القصص وتمزح وتعلّق، كانت هذه هي أمه التي عرفها طول حياته، ولكن لًمَ لم تكن هكذا معه؟! ما الذي غيّرها؟ آه كم تمنى تلك الليلة لو أنه كان خادمه العجوز (ايليا اليافتش)!! ومرض الأسقف بعد فترة قصيرة، مرض فجأة وبشدة، فلم يستطع أن يبارح الفراش، ودخلت أمه حجرة نومه لترى ما الخبر، وهالها منظره، لقد امتلأ وجهه بالتجاعيد، وشحب لونه وأصبح جسده ضئيلاً كجسد طفل . وفجأة صاحت (بيتروشكا) ابني حبيبي، ماذا جرى؟ وانهالت تقبّل وجهه ويديه وصعدت إلى الفراش ووضعت رأسه في حجرها وراحت توَلول وقد انهمرت دموعها بغزارة على وجهها، وابتسم الأسقف ابتسامة عريضة، ولكنه لم يقل شيئاً، فلم يكن يقوى على الكلام، وجاء الطبيب وبعد أربعة أيام مات الأسقف ودفنوه في احتفال مهيب يليق بمكانته . ولم يمض بعد ذلك زمن طويل حتى كانوا قد عيّنوا مكانه »أسقفا« جديداً ونسي الناس الأسقف (بيتر بيتروفيتش). وعادت الأم إلى قريتها، وسارت الحياة سيرها، كانت الأم أحياناً تروي لمعارفها كيف كان أحد أبنائها »أسقفا« عظيماً ولكنه مات وكان البعض يصدقونها والبعض الآخر لا يصدق، ومع مرور الأيام بدأت الأم تدرك ما يدور برؤوس الناس ولذلك عندما كانت تشعر برغبة ملحّة في أن تتحدث عن ابنها الأسقف كانت أحياناً تتردّد قبل أن تفتح فمها وأحياناً أخرى كانت تكبح رغبتها فلا تفتح فمها على الإطلاق لأنها كانت تعرف أن أحداً لن يصدقها .
هذه هي الحياة على حقيقتها، أول خاطر أثارته هذه القصة في نفسي، وهذه هي وظيفة الأدب، أن يكشف لنا عن حقيقة الحياة، يجعلنا نواجهها لا أن نهرب منها، وخاطر أخير، أن الطبقات من صنع الإنسان، أما الإنسان فمن صنع الله تعالى، ولذلك أينما وجد، وأياً كان شأنه غنياً أو فقيراً، عظيماً أو حقيراً، حاكماً أو محكوماً، عالماً أو جاهلاً، عندما تشتد الأزمة يزول الغطاء وينكشف الجوهر، فإذا الإنسان هو دائماً نفس الإنسان .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تطبيق يتيح خدمة -أبناء بديلون- لكبار السن الوحيدين ! | كليك


.. تزايد الحديث عن النووي الإيراني بعد التصعيد الإسرائيلي-الإير




.. منظمة -فاو-: الحرب تهدد الموسم الزراعي في السودان و توسع رقع


.. أ ف ب: حماس ستسلم الإثنين في القاهرة ردها على مقترح الهدنة ا




.. متظاهرون مؤيدون لفلسطين يلاحقون ضيوف حفل عشاء مراسلي البيت ا