الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأحبة أبناء إنتفاضة آذار 1991 شموع لاتنطفئ

خالد يونس خالد

2003 / 3 / 23
اخر الاخبار, المقالات والبيانات


               

أعيش في المنفى وفي قلبي تتفجر آلاف القنابل كل يوم. أسير بين الطرقات وعلى جانبيها اشجار السرو وأعياد الميلاد، والحرية ترقص بين أغصانها فلا أجد لها طعما لأنها هجرت وطني الجميل، وعراقي الحزين الذي كان قبلة تتمناها كل العقول لتتعلم فيها معنى الحياة، وتنظر من خلال جمالها إلى المستقبل بأمل ومحبة.
   أنهض صباحا، فأجد قنينة العطر تنبعث منها رائحة كريهة، والورود تأبى أن تغمرني بعطرها. والأشواك من بعيد تناديني بعصبية: إذهب إلى وطنك السليب فأنت عنا غريب غريب. فتذرف الدموع من العينين، وتأبى العينان بفخر أن تسقط دموعها، فيقول لي القلب الجريح: كيف لي أن أتحمل إنفجار القنابل التي تحصد أطفال شعبي المشرد في وطنهم المأسور. وأزهار عراقي تذبل كل يوم وتُداس كل لحظة، وتموت تحت عقلية العسكرة البعثية في عراق لم ير النور منذ شباط الأسود اللعين قبل أربعين سنة، وسنابل القمح لا تنبت، والقلوب لا تعرف كناية الحب في بلد الحب الذي هجر إلى الغور البعيد البعيد. وتقول الشمس لا خيط نور قبل رحيل صدام من أرض الرشيد.
  في صبيحة الخامس من آذار الجميل، قبل إثنا عشر عاما من عمر الورود المبعثرة، شعرت بقنينة العطر تفوح برائحة عطر الورود، ووجدت أوراق الأشجار تنتعش بقطرات الندى، والاشواك في الغربة تحتضر، والاشواق تشدني إلى الوطن الجميل، إلى بغداد حيث تعلمت من جامعتها المحبة والقلم والقرطاس، وبابل حيث الحضارة كانت تبكي البارحة، وأربيل حيث المجد واسوارها التي لا تزال تحتضن الحياة بين الخير والشر منذ خمسة آلاف عام. اليوم تحتضنني الغربة، وتغني لي اغنية الحرية، حيث تأتيني من بلاد الرافدين، من أجمل عالم بين العوالم، والذي كان بالأمس أتعس فتاة بين الحسناوات، تغتصبها الخمارون البعثيون من الرئيس إلى خدام الرئيس. اليوم رجع الحسن للحسناء، والمنتفضون يريدون أن يثأروا من المغتصبين، ويُطهروا الجمال من الرجس والخبث. اليوم إنتفاضة آذار في أرض الحدائق والياسمين، حيث الشعب الذي صنع حضارة التاريخ الإنساني النبيل، ثائرا على الطواغيت.
    اليوم يوم الربيع، في آذار، وكل أيام آذار، نهضت البلابل ترقص مع خيوط الشمس المشرقة على الجبال والوديان والصحارين وبين الحقول والجنائن التي أثمرت بعد موتها الطويل. اليوم وجدت ساعتي على الجدار تسير من اليسار إلى اليمين، حيث الوقت الثمين، بعد أن كانت تسير من اليمين إلى اليسار. اليوم أفرغت البطارية التي كانت تدير عقول المأجورين حمولتها من الحمل الثقيل، حيث إنتفاضة الشعب العراقي العظيم، وبداية نهاية الفرعون الطاغي، وحوله المرتزقة السكارى. الإنتفاضة أرعبت قتلة الشعب بنورها وضيائها، فاختفى صدام وراء الجُدُر، وهرب الأزلام  من المنتفضين وذهبوا تحت الأرض إلى الظلام.
   إنتفاضة آذار 1991 قنبلة بلا بارود، وصاروخ ملئ بالعطر، وحديقة جميلة طالما إنتظرها العراقيون كي يتجولوا بين سبلها وورودها. ففي صبيحة يوم الإنتفاضة وجدت البلابل تغرد، والموسيقى تعزف من قريب وبعيد.
   أنباني المذياع، وقال لي التلفاز، ورن الهاتف، ونهضت أرواح شهدائنا على ألحان الحرية وعزف الاوتار، بأن الجماهير العراقية من عرب وكرد وأقليات في إنتفاضة شعبية، في كردستان واهوار الجنوب، وفي بغداد وكربلاء والكوفة، وفي القرى المحرقة التي تحولت إلى بساتين، وفي السماء والأرض. الشمس مشرقة لأول مرة وزال الظلام وانقشعت الآلام. الإبتسامات العريضة على الشفاه في كل مكان، والأطفال بدؤوا يجرؤون أن يدخلوا الغابات الكثيفة المظلمة بعد أن دخلت فيها خيوط الشمس البنفسجية الساحرة. العواصف توقفت في الصحاري العربية، والثلوج رقصت فوق سفح جبال كردستان الرائعة، وأبناء الشعب تحولوا إلى أحرار فحطموا أسوار الظلم والقهر، وكسروا أبواب السجون بعد هروب السجانين من صدام وأبنائه وخدامه بخذلان.
   بعض السجناء ماتوا لعجزهم من رؤية الشمس بعد خمسة وثلاثين سنة من الإرهاب في الظلام. وبعضهم إستفسروا: هل مات الرئيس أحمد حسن البكر؟ لم يكونوا يعلمون بأن الضحاك وفرعون قد أزاح عمه وقتل خاله، وعذب إبنته، وأغتصب العذراء، ونكب شعبه، ليحكم العراق. لم يكن السجانون يعرفون أن القابض على السلطة هو صدام، هوالجلاد نفسه بعد أن خلع سيده البكر عام 1979. إمرأة عجوز كانت قد دخلت السجن وهي باكرة، جميلة، ووردة يانعة، أصبحت عجوز، وولدت سبعة أطفال في سجن الآلام، ولم تكن تعلم مَن هم آباءهم في الظلام.
   إنتفاضة آذار جاءت لمحو المآسي وغسل الآثام، ودماء تسير في العروق لتصفي الاوهام، وأفكار تُدغدغ العقول لتنظفها من الضياع. الإنتفاضة شعبية، والمحبة مقدسة، والحرية مسؤولية. والسؤال يقول: كيف بدأت وكيف إنتهت. لماذا سكت الأمريكان لقمع صدام في إجهاض الإنتفاضة بالحديد والبارود في شهرها الرضيع والمنتفضين لا يعرفون الإرهاب غير الحب والحرية والسلام؟ ولماذا سكتت الأنظمة العربية والإسلامية والنصرانية واليهودية من حملات الإبادة الجماعية الصدامية، وملاحقة دعاة الحرية، وتصفية عقول الإنتفاضة؟ أين أنتم أيها الشرفاء في مائتي دولة حين أشرقت الشمس وغابت؟ الولايات المتحدة تخلت عن الأحرار بعد أن حققت مصالحها وباعت الحرية بالدولار، والشهداء أصبحوا شموعا لاتنطفئ.
   سافرتُ إلى الوطن في الإنتفاضة وبعد الإنتفاضة.  في "المنطقة الآمنة" إلتقيت بأولئك الذين كانوا صغارا فظهر الشيب على ملامحهم في سنين القهر والجوع والخوف، لكن بسمة الإنتفاضة جعلتهم بعد كل تلك السنين أكثر وقارا وأحسن هيبة.
    شعب العراق، شعب الكرامة والحرية، لا يهدأ لك بال في العبودية إلا بعد تثور. ما اعظمك وما أكثر جراحك وآلامك. كم ناضلتَ من أجل وطنك ليكون حرا، ولتكون حرا؟ لماذا تجمع طواغيت الأرض كلهم حولك ليقهروك ويستعبدوك؟ وانت تأبى أن تطفئ شموعك لأنك تكره العبودية وتأبى أن تعيش في الظلام.
   في كل شرائع السماء والأرض يعاقب الجاني فلماذا لا يعاقب قاتل شعب العراق صدام؟ لماذا لا يمكن تنفيذ حكم العدالة بالغاصب وإحالته إلى محكمة الشعب لفحص دماغه ليثبت العلم أنه ليس من صنف إنسان؟
   اليوم بعد أن مرت من العمر الحزين إثنا عشر عاما، يقف العراق على أبواب الحرب لعزل صدام. مَن يعلم أن صدام يقتل الشعب ويهرب إلى الصحاري كي ينام؟ والقنابل الأمريكية والتركية والبريطانية ووو تحصد الارواح من أجل مصلحتها بين الركام. لمعارضة الحرب وجه أخلاقي ووجه لاأخلاقي في حالة العراق. الوجه الاخلاقي هو قتل صدام والفساد والخبث في كل مكان، وعدم قتل النساء والأطفال والشيوخ وكل الأبرياء من الناس. لكن الوجه اللاأخلاقي هو بقاء صدام حسين في السلطة مما يجعل الحرب أكثر ضراوة وقساوة على شعب العراق كله، ومنه يموت كل يوم الكثير، وهنا يكون الموت بطيئا للناس بدلا من أن يكون الموت شديدا على صدام.
   لن نريدك أيها الغريب عن شعب العراق فارحل عنه، ولن نريدك على أرض العراق ولا تحت الشمس في كل مكان فأنت عدو الأرض كلها وقاتل الناس كلهم. ليبلعك الطوفان فالأرض للصالحين من البشر. إن بقاء صدام لا يخدم السلام، ولا يخدم الإنسان.
   العراق للعراقيين، لا لصدام وطائفته، ولا لأمريكا وعسكرتها، ولا لتركيا وجنودها، ولا للإحتلال والعبودية. العراق نريده حرا أبيا، ديمقراطيا تعدديا فدراليا برلمانيا موحدا ينعم فيه العراقيون من عرب وكرد وأقليات بحريتهم وكرامتهم وبأمن ومحبة وسلام مع بعضهم البعض ومع دول الجوار ومع العالم على أساس العدالة والمساواة.
   يابلادي ياحبيبة العالم، الكل يعشقك، ويأتون إليك، فيتحول عشق الأعداء إلى حسد فينهبون ثرواتك. ويتحول عشق الأبناء إلى محبة تضفي العالم بالجود والكرم. أنت العراق بلد الرشيد وبلد الرشاد، حين كان الرشيد يقول للغيوم إذهبي أينما تكوني فسياتيني خراجك. إنه العراق الذي يحبه كل العراقيين الشرفاء في إنتفاضته في آذار 1991، وفي أيام عرس حريته، وفي أنينه من ظلم الظالمين في إغتصابه. كلنا نحبك لأنك مصِر أن تكون حرا، وكلنا معك، وكل الأحرار معك، فإلى الحرية فأرضك الطاهرة تبتلع الطواغيت والمعتدين، وتنجب أعلام الحرية الأبدية غدا، غدا. والغد لناظره لقريب.

* باحث وكاتب  صحفي عراقي مقيم في السويد  
  
  

 

 

 
 








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رهان ماكرون بحل البرلمان وانتخاب غيره أصبح على المحك بعد نتا


.. نتنياهو: سنواصل الحرب على غزة حتى هزيمة حماس بشكل كامل وإطلا




.. تساؤلات بشأن استمرار بايدن بالسباق الرئاسي بعد أداءه الضعيف


.. نتائج أولية.. الغزواني يفوز بفترة جديدة بانتخابات موريتانيا|




.. وزير الدفاع الإسرائيلي: سنواصل الحرب حتى تعجز حماس عن إعادة