الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


[12]. رحلة المئة سؤال وجواب، حوار صبري يوسف مع د. أسماء غريب حول تجربتها الأدبيّة والنّقديّة والتّرجمة والتَّشكيل الفنّي

صبري يوسف

2019 / 1 / 14
الادب والفن


رحلة المئة سؤال وجواب، حوار صبري يوسف مع د. أسماء غريب حول تجربتها الأدبيّة والنّقديّة والتّرجمة والتَّشكيل الفنّي

صبري يوسف

12. بعد مُناقشَتِكِ في جامعةِ الدّراساتِ والأبحاث بمدينة باليرمو لأطروحتَيْ الإجازة والماجستير اللّتَان كانتَا عن الحروف النّورانيّة في القرآن الكريم، وعن رحلة الإسراء والمعراج المحمّدية، أتتْ مرحلةُ تخرّجكِ في جامعة المعرفة بمدينة روما والتّي حصلتِ منها على شهادة الدكتوراه بميزة جيّد جدّاً مع مرتبة الشّرف عن أطروحتكِ الّتي تمّتْ مناقشتها سنة 2012 وكانتْ بعنوان [الحداثة في المغرب من التّاريخ إلى الأدب: محمد بنّيس أنموذجا للدّراسة والبحث]: هلْ يُمكنكِ أن تحدّثي قُرّاءَكِ عن هذه المرحلة وعن ما بقي عالقاً في ذاكرتِكِ منها؟

د. أسماء غريب

روما هي مقام وجدانيّ لهُ مكانة عظيمة بقلبي، وهي من أرقى وأسمى المقامات الّتي ارتبطتُ بها روحيّاً منذ نعومة أظافري، أيْ قبل سنوات عدّة من قدومي إلى إيطاليا بهدف إكمال دراساتي الجامعيّة العليا.

أتذكّرُ جيّداً، أنّني في طفولتي رأيتُ روما بعينِ القلب، ولم أكُ قد سافرتُ إليها من قبل أبداً، ولا كنتُ أعرف آنذاكَ حتّى أين توجدُ. كنتُ أبلغ من العمر 12 سنة وكان الفصلُ صيفاً، وكان اليومُ خميساً، لكنّي لا أتذكّرُ بالضّبط الشّهر، وأعتقدُ أنّه كان شهر آب، لأنّ والدي كان في عطلة مطوّلة. أذكُرُ أنّني في ليلة الخميس تلكَ رأيتُني هكذا وبدون مقدّمات في ساحة كبيرة جدّاً ببلدٍ لا أعرفهُ، وإلى جانبي جموع غفيرة من النّاسِ لا أعرفُ منهم أحداً، وأذكُرُ أيضاً أنّني كنتُ أحاول ما أمكن أن أتقدّم وسط هؤلاء النّاسِ من أجل الاستماعِ إلى خطابِ رجل متقدّم في السّنّ كان يلبسُ رداءً أبيض واسعاً، وفوق رأسه تاج أبيض كذلكَ، ويزيّنُ بِنصره بخاتم ذهبيّ كبير، لكنّ الرّجل ما إن وقعَ بصرُه عليّ حتّى ناداني من بين الجمع بحركة من إبهامه، وقرّبني إليه، ثمَّ رشّني بقطرات من ماء كان بـ"طاسة ذهبيّة" بين يديه، ونقرَ فوق رأسي بعصا خفيفة، ومسح على شعري بيديه، وابتسمَ لي وهو يدعوني إلى العودة إلى مكاني دون أن ينبس بحرف، لا هو ولا حتّى أنا.

هكذا انتهت الرّؤيا دون أن أفهمَ منها شيئاً، وفي الغدِ رويتُها لأبي، لكنّه لم يأخذها على محمل الجدّ، وظنّها ككلّ تلك الرّؤى الّتي كنتُ أحكيهَا لهُ من حينٍ لآخر. ومرّت قرابة عشرة أيّام على هذا الأمر، وبينما كنتُ جالسةً بالقرب من والدي بعد أن انتهينا من تناولِ وجبة الغداء، و(أذكر أنّ اليوم كان أحداً)، إذا بي أرى رجلَ الرُّؤيا صاحب الرّداء والتّاج الأبيضيْن على شاشة التّلفزيون، فهتفتُ بأعلى صوتي قائلة لوالدي: "إنّه هُوَ يا أبي". "هُو من؟" ردّ مستغرباً، "الرّجلُ الّذي رشّ على رأسي الماء، وتلك هي السّاحة الّتي كنتُ فيها يوم الخميس الماضي". وضعَ أبي حاكوم جهاز التّلفزيون فوق الطّاولة ثمّ التفتَ إليّ وكأنّه يراني لأوّل مرّة وقالَ: "هل أنت متأكّدة من الأمر؟"، "نعم"، "أوّلاً يا ابنتي، هذه القناة الإخباريّة فرنسيّة واسمها TV5، وهذا الّذي رأيتِ هو تقرير إخباريّ موجز باللّغة الفرنسيّة عن نشاطات الرّجل الّذي يبجّلهُ الكثيرُ من المسيحيين، واسمه جوفاني، وهو بابا الفاتيكان، وتلك السّاحة يا ابنتي هي ساحة القدّيس بطرس، أمّا وكونكِ رأيتِ نفسكِ هناكَ، فهذا هو العجبُ العجاب!"، قال أبي وهو يدقّق فيّ النّظر أكثر وأكثر، ثمّ أخذ بيديّ الصَّغيرتين وحملقَ فيّ مرّة ثالثة وقال بصوت خافت:"لا تُخبري أحداً برؤياك يا ابنتي، وانسَيِ الأمرَ، فعلى الغالب هيَ مجرّد أضغاث أحلام ليس إلّا". وتركتُهُ وخرجتُ من الغرفة أركضُ ببراءة وعفويّة وقد نسيتُ كلّ شيء، وصعدتُ إلى الطّابق العلويّ من البيت، وأخذتُ أقرأ إحدى القصص الّتي كانت قد اشترتها لي والدتي وأعتقدُ أنّها كانت بعنوان (البنت والأسدُ) من سلسلة المكتبة الخضراء.
مرّتِ السّنونُ طويلة عريضة، وشاء اللهُ لي أن أرحل من مغربي الحبيب إلى إيطاليا، طبعا لم أتذكّر تلك الرُّؤيا أبداً، بلْ كنت قد نسيتُها تماماً، وبدأتُ أدرسُ في الجامعة وأنجحُ بتفوّق سنةً بعد أخرى، إلى أن حدثت فاجعة مرض ثمَّ وفاة البابا جوفانّي أو يوحنّا باولو الثّاني سنة 2005، أذكُرُ أنّني أحسستُ بألمٍ كبير في قلبي، وأذكر أيضاً أنّني تتّبعتُ مراسيم الجنازة والوداع عبر التّلفزيون كاملة، وقبلَ ذلك بأيّامٍ كتبتُ لهُ رسالةً حينما كانَ على فراش المرض، وأرسلتُها إلى مقرّ سكرتارية الفاتيكان، ولا أعرفُ إذا كانت قد وصلته أم لا. أجل، فلقد تذكّرتُ رؤيا الطّفولة، وفهمتُ سببها، وكيف أنّهُ كان مُقدّراً لي في الغيب أنْ آتي إلى هذا البلد دونا عن غيره من بلدان العالم. أحببتُ جدّاً هذا البابا، وقرأتُ عنه الكثير فيما بعد، وأذكر أنّني كتبتُ قصيدة أتحدّثُ في مطلعها عنهُ وهي بعنوان (مقامات روما)، وقد نشرتُهَا في ديوان (99 قصيدةً عنكَ) الّذي صدرَ بطبعتين في العراق عن دار الفرات للثقافة والإعلام (2015/2016)، وقصيدة أخرى بعنوان (12) نشرتُها في ديوان (مالمْ تبُحْ بهِ مريمُ لأحدٍ، ويليه متونُ سيّدة) والّذي صدر هو الآخر عن دار الفرات للثقافة والإعلام سنة (2016).

انتهت مرحلةُ الدّراسة الجامعيّة الأولى وحصلتُ على الإجازة وعلى الماجستير الدّوليّ بدرجة جيّد جدّاً مع مرتبة الشَّرف، ثمَّ أتت مرحلة الدّكتوراه، وشدَدْتُ الرّحال إلى روما سنة 2007، هناك حيثُ قصدتُ جامعةَ المعرفة (La Spaienza )، وتقدّمتُ من أجلِ امتحان القبول، وفي المساءِ تمّ الإعلانُ عن النّتائج ولم يكُنْ اسمي بين النّاجحين، فانقبض قلبي وخرجتُ من الجامعة وذهبتُ إلى الفندق، وحزمتُ حقائبي وعدتُ في الغدِ إلى بيتي وقد بلغ منّي الحزنُ مداه. ومرّ أسبوع على الأمر، وبينما كنتُ "نائمةً" إذا بي أراهُ كما لم أرَهُ من قبل: صاحبي في حرف العشق؛ جوفانّي باولو الثّاني (أو كارول فويتيلا كما أحبّ أن أناديه) بردائه الأحمر العريض، وقبّعته الحمراء أيضاً: اقتربَ منّي كثيراً بحيثُ لم تُصبح بيني وبينه أيّة مسافة، وقال: "ما بكِ يا ابنتي؟ وما سببُ كلّ هذا الحزن؟"، "متعبةٌ جدّاً، لم يتمّ قبولي في امتحان الدّكتوراه على الرّغم من سهر اللّيالي والتّضحيات الجِسام"، "لا عليكِ، قدّمي في العام المقبل وستنجحين" ردّ مبتسماً، وأخد وجهي بين يديه، وطبع قبلة فوق جبيني وقال وهو يضمّني إليه بشدّة : "لا تحزني بعد اليوم يا صغيرتي: سيكونُ لكِ شأن كبير، ستصبحين كاتبة مرموقة". انتهتِ الرّؤيا، وانتشرتْ في غرفة نومي رائحة زكيّة كأنّما أحد دخل وأفرغ قارورة عطر في بيتي بأكمله. يا إلهي أيعقلُ هذا: أن تنعم عليّ برؤية صاحبي كارول بعد 25 سنة من هذا العُمر الواسع العريض منْ حياتي!

لم أتساءَلْ ولو ليومٍ واحد كيفَ أنّني المسلمةُ لي رؤى شفيفة يتجلّى لي فيها أصحابي من أهل الدّيانة المسيحيّة: لم يكُن يعنيني كثيراً التَّوصّلُ إلى جواب حاسمٍ ومُطلق، ويكفيني قلبي العامرُ لليومِ بقولهِ جلّتْ قدرتُهُ: بسم الله الرّحمن الرّحيم: ((آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ، كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا، غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)) (البقرة: 285). صدق الله العظيم.

وفي سنة 2008 قدّمتُ من جديد لامتحان الدّكتوراه ونجحتُ هذه المرّة، وبدأتْ أسفاري ورحلاتي بين المغرب وإيطاليا، ذلك أنّ أطروحتي كانت عن الحداثة في المغرب من التَّاريخ إلى الأدب. وكمْ ركبتُ من الطّائرات، والقطارات والحافلات وسيّارات الأجرة، وكم أقمتُ في فنادق مختلفة وعديدة؛ فهذا فندق باليما بالرّباط، وذاك فندق مارسالا بروما، وفنادق أخرى لا تحضرني سوى أسماء بعضها مثلاً فندق (داي ميلِّه) وكذا (باركر) و(كابتول) و(بلير). وكانت تكاليف الأسفار والكتب والأبحاث كلّها على نفقتي الخاصّة، ذلك أنّني كنتُ الوحيدةُ الّتي لمْ تحظَ بمنحة دراسيّة كما بقيّة الطّلبة الآخرين!

كانت فترة الدّراسة هذه فرصةً أيضاً للتعرّف أكثر وأكثر على العاصمتيْن روما والرّباط، وعلى مدن أخرى كالمحمّديّة ومراكش والدّار البيضاء.
وبعد أزيد من ثلاث سنوات من البحث والسّهر والجدّ والمثابرة، والسّعي ما أمكن إلى جمع المصادر والمراجع، قدّمتُ أطروحتي، وكانت من 339 صفحة، وتخرّجتُ بأرفع الدّرجات، وهي لمن يرغب في الاطّلاع عليها من البحّاثة توجد في الأرشيف الوطني الإيطالي (باديس) وهذا رابطها:

https://asmagheribblog.files.wordpress.com/2016/08/tesi-di-dottorato-asma-gherib-2010-2011-la-hadathah-in-marocco-dalla-storia-alla-letteratura.pdf

أمّا عن ما بقي لي من هذه السّنوات، فإنّني أقول إنّه بالإضافة إلى تعميق تجربتي الأكاديميّة عبر تكثيف القراءات في أكثر من مجال، فإنّني لليوم مازلت أسهرُ لساعات متأخّرة من اللَّيل أقضيها في البحث والقراءة والدّرس في مجالات أخرى ذات صلة وطيدة بعلوم الفقه واللّاهوت والتأريخ: أمّا كتابتي في الشّعر أو الأدب بشكل عامّ فهذا أعدّه بشكل أو بآخر نوعاً من "استراحة المُحارب "، أيْ أنّهُ حينما يُعييني الدّرسُ اللّاهوتي والفلسفيّ أو الفقهيّ أو التّاريخيّ، ألجأ إلى القصيدة، أو حتّى إلى نقد بعض النّصوص أو ترجمتِها من أجل تجديد طاقتي، وتبقى القصيدة سدرة النّور الّتي لم تخذلني ولو ليوم واحد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفلسطينيين بيستعملوا المياه خمس مرات ! فيلم حقيقي -إعادة تد


.. تفتح الشباك ترجع 100 سنة لورا?? فيلم قرابين من مشروع رشيد مش




.. 22 فيلم من داخل غزة?? بالفن رشيد مشهراوي وصل الصوت??


.. فيلم كارتون لأطفال غزة معجزة صنعت تحت القصف??




.. فنانة تشكيلية فلسطينية قصفولها المرسم??