الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحقيقة .. والشيطان المستنير

صلاح هاشم
(Salah Ahmed Hashem)

2019 / 1 / 16
الادب والفن


في نقاشٍ ثقافي جاد، بين ثلاثة باحثين من مذاهب وأيديولوجيات مختلفة .. يعتقد كل منهم أن فى تطبيق أيديولوجيته الخاصة "خَلاص" الشعوب من آتون الانقسامات والصراعات الفكرية؛ التى تدفع المجتمعات ثمنها غالياً .. وعادة ما كان يبدأ النقاش بينهم "باردًا" لكنه سرعان ما "يتَّقِد" بفعل الخلافات الفكرية والتحيزات الأيديولوجية لكل منهم.. والأسوار والحدود العالية، التى وضعها كل منهم حول أفكاره؛ كي لا تطالَها أفكار الآخرين المتطرفة أو المتشددة من وجهة نظره ..!
ورغم سُخونة الحوار بينهم، إلا أن أصواتهم لا "تستشيط"، بل تعزف سيمفونية مثيرة؛ تشجع على استمرار الجدل .. وتحفظ أعصابهم بعيدة عن التوتر .. ولم ترتفع أياديهم سوى لمساعدة الكلمة فى توصيل معانيها ..
يعتقد الثلاثة أن الإنسان سجين أفكاره .. بل أن المجتمع كله سجين أدمغة أبنائه .. وأن استقرار الفكرة وترتيبها داخل العقل البشرى؛ يعزو إلى استقرار المجتمع بأسره .. وأن استاتيكية العقول تعنى استاتيكية المجتمع.. وديناميتها تعنى ديناميته .. وأن المجتمع ما هو إلا انعكاس لطريقة التفكير التى يمارسها أبناؤه .. وأن تحضر المجتمع أو انحطاطه مرهون بجودة الأفكار التى ينتجها العقل داخل هذا المجتمع .. وأن البلبلة تصنع مجتمعًا عشوائيًا غوغائيًا .. وأن تعدد الأفكار "ثراء".. واختلافها لا "يَهُم".. المهم هو مدى الاقتناع بها، والالتفاف حولها..!
وفى حين يعتقد الباحث الأول أن "توافق" الناس واستقرارهم يأتى دائمًا من ممارسة "التحرر".. وأن الكون مُسخر لخدمة الأنسان والعمل على راحته .. وأن الأصل فى التعاملات الإنسانية هو "الحلال" .. حتى وإن تسببت تلك التصرفات فى حرمان الآخر من "المتعة"..
.. أما "الحرام": لديه فهو استثنائى .. يحدث فقط حينما يقلل من إحساس الإنسان بالمتعة .. والعدالة لديه نسبية .. مبدؤها واحد هو "أنا أريد .. فأنا صاحب حق" فكل شيئ لديه مباح، ما لم يقلل الشعور بالمتعة .. ويؤمن بأن "الحرية" وحدها كفيلة بحشد الناس حولها .. فالسعادة عنده دائماً مرهونة بالتحرر ..!
أما الباحث الثاني فيعتقد أن "استقرار" المجتمع لن يتحقق إلا بـ "التمرد" على نداءات الطبيعة .. والقوة لن تأتى إلا بالقدرة على كبح الشهوات .. وأن الإنسان ليس طليقًا، يفعل ما يحلو له .. وإنما هو مُكَبلٌ بنواميس كونية؛ جُعلت لتعزيز استقراره.. وأن الخنوع لتلك النواميس فى ذاته "متعة".. وإن عجزت تلك النواميس عن تكبيل رغبته فى المتعة؛ أوجد لنفسه نواميس جديدة؛ تقوم هى الأخرى بدورها فى عملية الكبح والتكبيل ..!
كما يعتقد أن "الالتزام" كفيل بخلق حواراً إنسانياً راقٍ.. وفكرة الالتزام ذاتها كفيلة بحشد الناس حولها .. فمتى ذاق الإنسان حلاوة الالتزام والخنوع؛ تخلى عن سائر المُتَع .. وأن الأصل فى الأشياء لديه هو الحرام "فما يُمتِع كثيره فقليله حرام".. والالتزام لديه يقوم على الطاعة.. والطاعة تعنى القدرة على ممارسة الخنوع من أجل التقرب .."فإن لم يجد ما يتقرب به .. فليلتزم .. ولو بِذَبحِ أُمِه"..!
لكن باحثنا الثالث كانت أفكاره مغايرة.. فلم يكن كالباحث الأول الذى يرى سعادة الإنسان فى "التحرر" دون تقييد .. ولا كالباحث الثانى الذى يرى السعادة والاستقرار فى "التقيد" دون حرية .. فهو يرى أن المجتمع الانسانى بُنَّى على " التوافق " العقلى .. وأن الحياة بين البشر تقوم عنده على التوافق بين الحقوق والواجبات .. وأن الحرية هى الأساس فى استقرار المجتمع .. مالم تتسبب فى الاضرار بـ "مصلحة" الآخر .. وأن أفضل أنواع التعليم هو الذى يقوم على الحوار.. فالعقول فى نظره تصدأ كالحديد .. وما يجلوها سوى "الاختلاف" المبني على بينة .. كما يؤمن بنسبية العدل والحق .. وأن "المصلحة" هى أساس الحق .. لكن مصلحة العامة مُقَدَّمة على مصلحة الفرد .. وأن " الأنانية " لن تصنع مجتمعًا مستقرًا .. وأن المصلحة وتوازنها كفيلان بتحقيق التعايش والاستقرار.. وأن المجتمعات لا تبنى على الجموح، ولا على التمرد والمبالغة .. وإنما تقوم على الاعتدال والتوازن؛ اللذَين هما غاية تحتاج إلى تعليم مستمر .. !
ورغم منطقية الدَعاوىَ الثلاثة للباحثين.. بيد أنه لم تُفلح إحداهن فى إقناع الآخر .. فقرر الباحثون "الاحتكام" إلى ذمرة من المبحوثين.. واقترحوا تقسيمهم إلى ثلاث فِرق .. تُوضَع كل فرقة فى معسكر مستقل .. ويعمل كل باحث على "أدلجة" فريقه ..
.. وحينما ينتهى كل باحث من تعليم منهجه لمبحوثيه . تُجمع كل الفِرَق فى معسكر واحد .. تُختلق فيه بعض المواقف الحياتية العادية التى تدعو إلى تناطح الأفكار والحجج؛ وذلك لقياس مدى قدرة أى الفرق على التعايش والتوافق والحوار ..وأن الفرقة التى تنجح فى التأثير فى الأخرى، وتجذب إليها أكبر عددًا من المُشَيعِين .. هى الفرقة الناجية من آتون الانقسام .. ومن ثم يجب أن تُعمم أفكارها..!
وبالفعل تمت التجربة بنجاح .. بيد أن النتيجة كانت مفاجئة؛ فلم تسطيع الفرقة الأولى والثانية التعايش مع الأخرى .. أى لم يستطع التطرف التعيش مع التشدد ..وغالبا ما كانت الحوارات بينهما تنتهى بمعارك .. يعلو فيها صوت المتحاورين، تارة بالنقد وتارة بالتحقير والسَّب ..بل وكثيرًا ما كانت ترتفع الأيدى، لتقوم بما فشل أن يقوم به العقل ..! حتى أدرك كل فريق منهما استحالة العيش مع الآخر؛ حتى استحل كل منهما الخلاص من الأخر، حتى وإن أُحرِاق المعسكر بما فيه ..! ورغم اختلاف هذين الفريقين فى كل شيء؛ بيد أنهما اتفقا على مبدأ واحد هو "إن لم تكن معى فأنت ضدى" ..!
وفى إطار فشل كلا الباحِثَّين - الأول والثانى - فى رَّد فريقه إلى العقل .. وأنهما لم يتمكنا من صرف "العفريت" اللذَين قاما بتحضيره .. أدرك الثالث أن المعسكر قد أوشك على الاشتعال؛ وأن فريقه بدء يتسرب .. وأن انتصار أىُ الفريقين على الآخرمرهون بتآكل فريقه المعتدل .. وهنا قرر الثالث الخروج بأشياعه من المعسكر ؛ باحثًا عن معسكر جديد، تبنى فيه الحياة على التوافق .. وتصبح فيه الغلبة للعقل .. ! وفى أثناء خروجه من التجربة، سأله أحد الباحِثَّين: إلى أيُّنا تميل..؟ فأجابه الهارب على عَجَلٍ: كِلاكُما "شيطانٌ مُستنيرٌ" ..!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رحيل الممثل البريطاني برنارد هيل عن عمر 79 عاماً


.. فيلم السرب يتخطى 8 ملايين جنيه في شباك التذاكر خلال 4 أيام ع




.. الفنان محمد عبده يكشف عبر برنامج -تفاعلكم- أنه يتلقى الكيماو


.. حوار من المسافة صفر | الفنان نداء ابو مراد | 2024-05-05




.. الشاعر كامل فرحان: الدين هو نفسه الشعر