الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تأملات شاب ثوري في دبي

سامي حسن موسى

2019 / 1 / 21
الادب والفن


وماذا بعد؟ قفزت من السفينة الغارقة لأنني استطعت، وظننت أني سأجد راحتى بعيدا، أو على الأقل، سأبقي نفسي منشغلا بالعمل المتواصل والاستمتاع بثماره، وها أنا ذا أجلد نفسي كل ليلة بلا رحمة، أن الألم ينخر قلبي، وما ظننت أني تركته وراء ظهري ظل حيا ينمو في قلبي ويتغذى عليه.
مرت سنة منذ تركت مصر وذهبت إلى دبي للعمل، والآن مع بداية العام الجديد، يظل الماضي ماثلا أمامي كل ليلة، أين تلك الحرية التي وعدت نفسي بها؟ إنني مازلت أشعر بثقل نفس السلاسل، في الماضي كانت لدي الفرصة للتحرر منها، في الماضي كنت أسعى للتحرر منها، أما الآن فأنا أشعر بثقلها فقط دون أي أمل، ودون أي قدرة.
لا أعلم لماذا استحضر أبي في هذه الليلة بالذات، لطالما ظننت أن هناك بونا شاسعا يفصل بيننا، أنا الثوري، المناضل، الذي لم يدع الحياة تقيده في دائرة العمل والمتطلبات المادية، والذي كرست حياتي من أجل المصلحة العامة، مصلحة الشعب، مهما بذلت من تضحيات. أما هو فأنه ظل دائما مكبلا بهذه السلاسل، حتى أنه سافر وتغرب عن وطنه من أجلها.
دعك الآن من هذه المناكفات، أبوك ومات، وأنت بعيد عن أهلك ووطنك وعن كل من يمكنه أن يسمعك. لديك الآن وقت العالم كله لتفكر بموضوعية، هل حقا عاش أبوك لنفسه فقط؟ هل حقا أنت مختلف عنه اختلاف السماء عن الأرض؟ هل حقا أنت أفضل منه؟ هل حقا أنه لم يكن شمسا؟ لنعد بالذاكرة.
لم يتحدث أبي معي عن أي اهتمام له بالسياسة، لكني قابلت بعد موته بعام صديق قديم له من أيام الكلية، كلية الهندسة بجامعة المنصورة، تبادلنا الحديث، وأحببت أن أسمع عنه عن أبي طالب الجامعة، حكى لي، ومن ضمن ما حكى: أنه في عام 1986، حين سمعوا بخبر انتحار أو بالأحرى قتل سليمان خاطر، هاجت الجامعة، واندلعت المظاهرات والاشتباكات. فماذا كان موقف أبي؟ على حد قول صديقه كان أبي، الفلاح القادم من واحدة من أكثر قرى دمياط جهلا وفقرا، منخرطا في المظاهرات حتى النهاية، إلى حد أنه حينما تم فض المظاهرات وتم القبض على عدد من الطلاب، وقف أبي مع ثلاثة طلاب في السكن الجامعي يحرضون على عصيان الأوامر التي صدرت بإخلاء السكن فورا، حتى أنهم وقفوا وحيدين إلى النهاية حتى بعد أن تخلى عنهم الجميع وذهبوا إلى منازلهم، وتعرضوا للضرب المبرح ووضعوا في الزنزانة شهرا كاملا وصدرت قرارات تأديبية لهم من إدارة الجامعة. فهل هذا سلوك إنسان أناني؟ ولكن ما الذي غيره بعد ذلك؟ لا شك أن عائلته الفقيرة كانت هاجسا لديه، وهو كبيرها ومعيلها، تلك العائلة التي فقدت ربها وهو طفل صغير، ربما.
ولكنه تزوج وسافر للعمل بالخارج ليطعم زوجته وابنه وبقية عائلته، هدم كل شيء وفكر في نفسه وفقط. كلا، اصبر قليلا، لنحاول رسم الصورة بدقة وأمانة قدر الإمكان، شاب تخرج من كلية الهندسة في الثمانينيات، أي بعد عشر سنوات تقريبا من انتفاضة الخبز، الطبقة الحاكمة في مصر كانت قد بدأت منذ سنوات بتفكيك القطاع العام ورفع الدعم، لا وظائف، لا مرتبات، غلاء يرتفع بإطراد، تكيّف للمجتمع على اتفاقية السلام مع العدو وتحصيل للمعونة الأمريكية في المقابل، وجيل الشباب الذي تربي على أنه يستطيع تحقيق ذاته بالعمل وعلى التضحية من أجل وطنه ضد الأعداء تحت قيادة الدولة ذهب وحل محله جيل آخر، كل هذه الوقائع يواجهها شاب قروي ساذج محمل بأفكار الجيل السابق، يظن أنه يستطيع تحقيق أحلامه في بلده. لنقترب أكثر فأكثر. خريج جديد، محب لوطنه، يظن أن رغبته وطموحه كفيلان بتحقيق حلمه في بلده وتحقيق رغبته في انتشال نفسه وأسرته من الفقر، ولكن سذاجته المفرطة تتحطم على صخرة الواقع المعقد، فيقرر السفر. أين سمعت هذه القصة من قبل يا ترى؟ هذه القصة هي قصتي، نعم قصتي، أنا ذلك الثوري الساذج صاحب الستة عشر عاما، ذلك الذي رأي انتفاضة يناير 2011 فظن أنه يستطيع تحقيق أحلامه وطموحاته ورغبته في مجتمع أفضل بكبسة زر، ولماذا؟ لمجرد أنه يرغب في ذلك، والنتيجة نفس التحطم للسذاجة على صخرة الواقع، ونفس السفر للخارج. كلا توقف، أنت تخلط الأوراق، إنه ليس نفس السفر، أباك سافر لأنه يبحث عن وسيلة جديدة لتحقيق رغبته، أنت سافرت هربا من رغبتك ذاتها، لنعد إلى حكايتنا...
سافر أبي إلى السعودية ، سافر وزوجته حامل في طفلها الأول، لم يره قبل السفر، ورآه بعد سنتين لأول مرة. كلا، اقترب أكثر من التفاصيل. شاب تزوج حديثا منذ سنة، يترك زوجته وطفله في بطنها ليتغرب في بلد لا يعرف فيها أحدا بهدف الحصول على عمل وإعالة فردين بالإضافة إليه، كلا بل تسعة أفراد، لا تنسى عائلته في القرية. حاول أن تتخيل احساسه، أنت تعلم جيدا أن مراحل نمو الإنسان واحدة وأنت شاب في مثله عمره حينها الآن، كما أن احساسات البشر واحدة، فنحن نحس كلنا بالوحدة والألم والسعادة والنشوة والحزن ..إلخ الفرق فقط في المواضيع التي تستثير احساساتنا المتشابهة تلك وفي درجة احساس كل فرد. بالطبع شعر أبي بالغربة، بالطبع شعر بالضعف وهو يكاد يُستهلك يوميا في عمله كي يستطيع أن يكفي هؤلاء التسعة، أجل تسعة، ماذا يمكننا أن نستنتج من هذا الرقم؟ نستنتج أيضا أنه عمل لساعات طويلة، ربما أطول من المعتاد، وأنه حرم نفسه من الطعام الجيد والملبس الجيد والمسكن الجيد، ركز، أريدك الآن أن تتخيل أن طفلك ولد بعيدا وأنت لا تستطيع أن تراه وتعيش في هذه الظروف. كيف استقبل أبي الخبر؟ الآن اذكر بعض التفاصيل، حكت لي أمي أنها كتبت له رسالة وسجلت شريطا لصوت بكاء الوليد وأرسلتهم مع صورة له، تخيل الآن، وحيدا في الليل، يقرأ أن طفله يتنفس أول أنفاسه في النور في حضن زوجته بعيدا بعيدا، وهو يستمع إلى صوت بكاءه في نفس الوقت ولا يستطيع له شيئا، ها هو يراه في الصورة التي يمسك بها، هل وجد الوقت الكافي لكي يحاول تركيب الصوت على الصورة؟ هل حاول أن يحمل صورته متخيلا إياه ومتخيلا أنه يداعبه ويلاعبه؟ ربما، الرجال يرتكبون هذه الحماقات مثل النساء تماما، ولكن الفرق الوحيد أنهم يرتكبونها في الخفاء. ربما استيقظ في الفجر وأخذ مشغل الشرائط وصورة الطفل إلى الحمام وأغلق على نفسه الباب وبكى، ربما حاول رسم طفله في مخيلته، ربما حاول رسمه على الورق، ربما احتضن صورة الوليد وهو يسمع صدى صوته يرن في أذنيه، لا يهم ما فعله تحديدا، ولكنه بالتأكيد شعر بالحزن الشديد، بالألم الشديد، بالضعف، بالعجز. ولكنه واصل العمل من أجله، من أجل طفل لم يره قط؟ نعم، كثوري عظيم نفي أو سجن ولكنه ما يزال يدرس ويبحث ويقرأ ويكتب ويدعو ويحرض ويفكر فيما يجب عمله وما لا يجب عمله، بعيدا عن شعبه وعن أي تقدير من أي أحد، بل وحتى تحت مطالبة الجميع له بالمزيد وتحت تأنيبهم له، يعمل من أجل مستقبله المجهول الذي لم يره بعد إلا في خياله، لم يره بعد إلا في خياله مثل طفل أبي الأول.
أما عن علاقته بزوجته، أمي، فإنني أذكر أني قرأت الرسائل التي تبادلوها واستمعت إلى شرائط الكاسيت. نصا وصوتا يقطران بأربع سنوات من الاشتياق واللهفة والألم، ومحاولة الاطمئنان على بعضيهما البعض في ظروف مختلفة لكل منهما، يحاول كل فرد على حدة أن يتخيل ظروف الآخر ويقطّرها ليروى نبتة علاقتهما في المسافة الصحراوية هذه. لا وجود بالطبع لأجهزة التواصل الحديثة كالتي توجد اليوم لكي يقللا من هذه الاحساسات. تتخلل هذه المشاعر بعض مطالبات للزوجة، وشكوى من الوحدة ومن ضيق العيش، ومن معاملة أمه لها، كيف كان يستقبل كل هذا وهو عاجز عن أي يفعل أي شيء؟ كان يدبر لهما تحت كل هذه الضغوطات وأكثر الاحتياجات الأولية للحياة في ظل ظروف تفرض عليه كأي فرد أن يشن حربا على الكل من أجل من يحبهم، أي تضحية وأي عطاء، أي إيثار.
وحينما عاد إلى وطنه منكسرا مطرودا، بلا منزل، بلا عمل، يجر أذيال خيبته بعد تحمل سنين من العمل المضني كعبد، دون أن يوفق حتى في سد احتياجاتهم الأساسية، ماذا حدث؟ كان يستدين ليدفع الإيجار، أمضى شهورا في شرب الكحول وتعاطي المخدرات وتحطيم الأشياء، لم يكن يتحمل أن يرى زوجته وابنه أمام ناظريه، وكلما رآهما انهال عليهما بالضرب، ألا يشبه ضربه لهما ما فعلته أنت حين لعنت الشعب ووصفته بأقبح الألفاظ؟ شعب عبيد، همج، رعاع، جهلة ..إلخ، زوجته وطفله بالنسبة له، والشعب بالنسبة لك، كانا مرآة لعجزكما أنتما بالذات. حتى أنه طلق زوجته وقرر أن يعيش وحيدا.
ولكن لم يمض وقت طويل حتى عاد واسترجع زوجته وطفله وقاتل مجددا حتى يوفر لهما كل ما يحتاجونه، هم وأطفاله الجدد، واستطاع بالفعل، حتى أصبح له ابن مثلك، مثقف ومتعلم جيدا، لديه الوقت الكافي ليفكر في معاناة الآخرين لأنه تحرر من تلك الأعباء التي كبلت أباه وهو في مثل سنه. لم يفكر أبوك مثلا أن يتخلص من كل هذه الأعباء مثل بعض الأزواج وأن يهاجر لدولة أخرى ويتزوج منها ويحصل على الجنسية، هذا النموذج الجبان الذي تشبهه أنت لا هو، هو غير وسائله وتحمل من أجل من يحبهم حين انكسرت غايته النبيلة على أرض الواقع، لم يهرب بعد أول خسارة، ولا بعد ثاني خسارة، لم يهرب، أنت الذي هرب. هو كان شمسا، أنت كنت لا شيء.
هل انتهى كل شيء؟ كلا، لم يطبع كتابي بعد، ما زال هناك وقت للمراجعة والتعديل، وربما وقت للإضافة، أباك فعل ما كان ضروريا لمن يحبهم وأثبت إخلاصه لهذا الحب، فهل تفعل أنت؟ هل تفعل؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة أخيرة - صدقي صخر بدأ بالغناء قبل التمثيل.. يا ترى بيحب


.. كلمة أخيرة - صدقي صخر: أول مرة وقفت قدام كاميرا سنة 2002 مع




.. كلمة أخيرة - مسلسل ريفو كان نقلة كبيرة في حياة صدقي صخر.. ال


.. تفاعلكم | الفنان محمد عبده يكشف طبيعة مرضه ورحلته العلاجية




.. تفاعلكم | الحوثي يخطف ويعتقل فنانين شعبيين والتهمة: الغناء!