الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


[53]. رحلة المئة سؤال وجواب، حوار صبري يوسف مع د. أسماء غريب حول تجربتها الأدبيّة والنّقديّة والتّرجمة والتَّشكيل الفنّي

صبري يوسف

2019 / 1 / 22
الادب والفن


صبري يوسف

53. في حديثك عن سيدة الطُّفولة زارعة أشجار الصّنوبر والبلّوط إشارة إلى مدى عمق إيمانك بالعطاء والتّراحم والتّعاون بين البشر، فهلّا أفضتِ في الحديث عن هذا الجانب ومدى أهمّيَّته في حياة أسماء غريب الإنسانة وكذا الأديبة؟!

د. أسماء غريب

بقدر ما أثّرتْ فيّ السيّدةُ زارعةُ الأشجار، بقدر ما فتحتْ عينيّ على حقيقة في غاية الأهمّية؛ مفادها أنّ غابة الطّفولة البعيدة لم تكنْ فيها إشارات تدلُّ فقط على ضرورة العملِ الصّالح والإخلاص فيه ونكران الذَّات وما إلى ذلك، وإنّما كانتْ فيها أولاً وقبل كلّ شيء إشارات تقول، إنّه كما الغابة مكانٌ للفيء الجميل والهواء النّقيّ والطّيور المزقزقة من كلّ لون وصنف، فإنّها أيضاً مكان تجتمع فيه الوحوشُ والغيلان، فالغابة هي النّفس وأدغالها بحاجة إلى التَّوغّل فيها كلّ يوم أكثر فأكثر للتعرُّف على وحوشها وبالتَّالي ترويضِها حتّى تصبح مطواعة هادئة قادرة على الإهتداء والاستماع إلى القول واتّباع أحسنه، إذ معرفة الله تبدأ بمعرفةِ النّفس، ورفعِ الحجاب عنها ومخاطبتِها وجهاً لوجه. والغابة تعني أيضاً مكان البذار، بل أماكن البذار تلكَ الّتي يجبُ معرفةُ اختيارها بشكل جيّد، فقد يكون المكان مجرّد مساحة جرداء من التّراب العقيم، فيسقطُ البذارُ عليه وتأتي الطّيور لتأكله كما ذكر لوقا العزيز في إنجيله (الإصحاح الثّامن)، وقد يكون مجرّد حقول صخريّة، يسقط فوقها البذار ولا يُنبتُ إلّا العشب الخاويّ ما إن تُشرقُ عليه الشَّمس حتّى يحترق. وقد تكون الأرضُ شوكيّة، ما إن تسقط فيها البذور حتّى تختنق ولا تعطي أيّ ثمر! وفي حديثي عن البذور والغابة والأراضي المختلفة الطّبيعة والنّوع، إشارة إلى كلمة الفكر، وكلمة الرّوح لأنّني كما سيدة الطّفولة لا أملكُ سواها، وعليّ أنْ أعتني جيّداً باختيار المكان الّذي سأزرعها فيه، وإن كنتُ على يقين بأنّني سأصادفُ طريقَ الصّخر وكذا طريقَ الشَّوك الّتي لا ينبت فيهَا سوى أذى النّاس وكلماتهم الّتي يهتزُّ لها عرشُ الرّحمن من شدّة الألم الّذي تسبّبه. وعلى ذكر أرض الصّخر والشّوك فإنّني أحبُّ أن أنَوِّه إلى أنَّ النَّاسَ اليوم أصبحتْ قلوبهم كأرض الشَّوك والصّخر هذه، كلّما سقطتْ عليها كلمة الله بذرةً فيها جاء إبليس وانتزعَها منها انتزاعاً، وتركها صفواناً صلداً لا شيء ينبت فوقه أبداً. وليسَ السُّؤال لماذا أصبحتِ القلوبُ حجارةً صلدة، وإنّما كيف أصبحت كذلك؟ وهنا تحضرني صُورٌ عدّة تنزع النّوم من العين وتُدمي القلب عن عالم مُغرق في مادّياته وفي ترفه المعلوماتيّ وخوائه الإيديولوجيّ والمذهبيّ والعقائديّ العظيم، دونَ أن ينتبه إليها أحدٌ وسطَ كلّ ما هو فيه من وهْمٍ وأمراض روحيّة مزمنة ليس لها مثيل. صُوَرٌ صادفَتْهَا عيْني في عواصمَ مختلفة من العالم، وأعني بها على وجه التَّحديد، روما وباليرمو: في روما رأيتُ النّاسَ يأكلون من الحاويات وبكيْتُ. وفي باليرمو رأيتُ نساءً وشبابا بعُمْر الزهور يرقدون في الشَّوارع وبكيتُ كثيراً، واحترقَ قلبي من شدّة الألم، ورأيتُ النّاس يحدّثون أنفسَهُم في الطّرقات لا هم بالمجانين ولا هم بالمهووسين، وإنّما هم ممّنْ صرعتهم الحياةُ بكلِّ مصائبها، فانفجرتْ لكلِّ ما رأيتُ ومازلت أرى أسئلةٌ حارقة في قلبي هاتفةً: لماذا هذا يا إلهي؟ ما الّذي يحدثُ هنا؟ ما الّذي يجعلُ امرأة في عزّ شبابها تغادرُ بيتَها مجنونةً لتجلس على الرَّصيف تستجدي الأكلَ، والمال الَّذي لا يجودُ به عليها أحد. ما الّذي يحدث هنا والكلّ يمرّ دونَ أن يلتفتَ إلى النّاس المعلّقة أجسادُهم في الحاويات، ولا إلى المدمنين للكحول المرميِّين في الشَّوارع، ولا إلى المرضى ولا إلى ... ولا إلى... ولا إلى ... ممّا لا يستطيع أن يحيط بهِ حرف ولا قلم؟! وإذ أتساءل بكلّ ألمٍ وحرقة يأتيني الجواب من جهات أخرى:

حينما أركبُ الحافلةَ مثلاً، أجدها مكتظّة بالنّاس الأنيقين جدّاً، والمتوسّطي الحال أيضاً، لكن لا أحد منهم يؤدّي ثمنَ التّذكرة: كلّهم، - إلّا من رحم ربّي - يركبونَ مجّاناً، أيْ بمعنى آخر، يسرقون من مال الدّولة وبالتّالي من مال المواطنين الآخرين أكثر من مرّة واحدة في اليوم.
وحينما تصبحُ المرأةُ أرملةً مثلاً، ويحدثُ أن تتعرّفَ على رجل آخر فإنّها لا تتزوّجُ بهِ، وإنّما تفضِّلُ العيشَ معه في "الزّنا" وبمال تسرقُه من خزينة الدّولة ومن الضّرائب التي يؤدّيها غيرُها من المواطنين في قطاعات مختلفة دون أن تعلنَ عن الأمر حتّى لا تحرمَها الدّولة من "معاش" أو راتب تقاعد الزّوج الأوّل الرّاحل.

وحينما... وحينما... وحينما... إلى غير ذلك من أمثلة السّرقات الّتي يمارسُها النّاسُ في أوروبا وخاصّة في الدّول المتوسّطيّة دون أن يرفّ لهم جفن، وهُم لا يستوعبون تماماً أنّ كثرةَ هذه السّرقات هي الّتي تتسبّبُ في فراغِ خزينة الدّولة، وفي كثرة الضّرائب الّتي تُفْرضُ على الجميع فيما بعد وبدون مبرّرات ظاهرة، وفي حدوث ضيق العيشِ، والفقر، وانتشار ظاهرة أطفال الشّوارع، ونساء الأرصفة، والمجانين، والمرضى النّفسيين وما إلى ذلك من الهموم والمصائب الّتي يشيبُ لها الولدان، والّتي يغفلُ أو يتغافل عنها الجميع. فأن يرقُدَ متسوّل بالقرب من جدار أكبر البنوك في العاصمة مثلاً، أو أن يجلس متشرّدٌ وكلبُه بالقرب من أكبر متجر لبيع الملابس الفاخرة أمرٌ فيه ما فيه، لأنّه مفارقة كبيرة جدّا، تعني اسألوا أهلَ البنوك ما فعلوا، واسألوا أهل المتاجر ما صنعوا وما قدّموا لهؤلاء الشَّريحة من النّاس، ومَنْ لَهُ أُذْنَانِ للسَّمْع فَلْيَسمَع!
هذا هو العطاء بالنسبة لي أيّها القارئ العزيز، بذرة هي كلمةٌ أزرعها في الرّوح، وأشياء أخرى أفضّلُ أن تبقى بيني وبين خالقي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري


.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض




.. تقنيات الرواية- العتبات


.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05




.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي