الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الكَيْنُونة الشعريَّة الخَالصَة

ادريس الواغيش

2019 / 1 / 23
الادب والفن


كل نص شعري يبحث عن كينونته الخالصة في الوجود الشعري، لكن هل يمكن القول أن كل النصوص الشعرية تتوفر فيها هذه الخاصية وهذا التفرد؟ أم أن النصوص الشعرية على اختلاف خرائطها وبنياتها تعيش وتحيى ثم تموت بعد ذلك، مثلها مثل أي كائن بيولوجي آخر، يعيش حياة قد تطول وقد تقصر ثم يموت، وفقا لتوقيت نهايته البيولوجية؟ .
سؤال قد يُواجهُـنا، كلما صادفنا نصا شعريا ونحن في طريقنا إلى فَـرَاديسنا الشعرية. من هنا، وَجب أن نتساءل: هل في متناول أي شاعر أن يبدع نصا شعريا في عالم القصيدة، لا نظير له في الزمان والمكان مثلا، أو أن هذا النص، إن وُجد فعلا، وَحيد في عالمه؟ خالص في كينونته ؟ أم أنه "ليس ثمة من إشارة مُوحِـيَة تقنع الأنفس ولو اعتوْرتها الرّيبَـة أن الشاعر لا يموت" ، وإذا اعتبرنا الأمر كذلك وصحيحا، هل يمكننا القول بمَوت الشعر وبقاء الشاعر؟ أم يموت الشاعر ويبقى شعره؟ أم بقاء أو رحيل أحد الطرفين رهين بالآخر؟، أم أن خلود الشعر مرتبط بخلود صاحبه، كما هو حال هوميروس مؤلف المَـلحَمتين الإغريقيتين الإلياذة والأوديسة؟، وإن كانتا هما أيضا لم يسلما من جَـدل صاحبهما، كما صاحَب مؤلفهما منذ وقتها وإلى اليوم.
هذا الالتباس الشعري لا يقتصر على عالم الشعر وحده، إنما يطال جميع مجالات الإبداع من فنون وحقول معرفية أخرى، كل نص شعري قبل أن يستقر به الحال في محفل الديوان، يظهر في بداياته مُتماسا ومُتناصًّا مع نصوص شعرية أخرى، لكنه يحاول أن يدافع عن فرادته بأي ثمن مع مرور الزمن، في غنى عن مدى توفقه في ذلك مع مبدعه ام فشله، كي يظهر أنه خالص في كينونته الشعرية وحيدٌ في زمانه، وأن مبدعه كتبه لأول مرة وسيظل كذلك دون نظير، لكنه في الحقيقة وواقع الحال، وهو في طريقه إلينا، يكون قد تناصَصَ مع نصوص شعرية أخرى كثيرة.
ليس كل ما يكتب من الشعر شعرا، ولا كل ما يسطر من قصيدة في منأى عن التبعِـيَّة الشعرية لهذا النص أو ذاك، يملك سلطة إبداعية خالصة، لا يشاركه فيها غيره من النصوص الشعرية الأخرى، سواء تلك التي سبقته أو تلك التي ستأتي من بعده، وقد تظهر أشعار أخرى يمكن لمبدع آخر أن يكتب مثلها أو أحسن منها وإن اختلف زمانها وتباعَـد.
متى يمكننا القول بأن النص الشعري قد أصبح في منأى عن أي تبعية شعرية، مهما تعاقبت الأزمنة ولاحقته؟ أو ما يسمى اطلاحا بالالتباس الشعري في أزمنة النصوص الشعرية؟
النأي عن هذا الالتباس الشعري، يبقى مَطمحا شعريا، إذ أن كل مبدع وشاعر يطمح في أن يصبح نصه خالصا وجديدا منذ ظهوره وولادته دون أن تلاحقه الموت الشعري، مقارنة مع ما يجايله أو سبقه من نصوص شعرية قديمة او جديدة في دواوين لشعراء قدماء وجُـدد، والذوق والحِـسُّ العام هو الحُكم والحَـكم بين القديم والجَـديد من هذه النصوص، مهما تباعَـدت أو تقاربت الأزمنة، ومن ثمة يُصبح حُـرًّا في كينونته الشعرية، بعيدٌ عن تهمة الالتباس الشعري، مَهْـما تسارع الفهم وكثرت المُلاحقة النقدية، حينها فقط يمكننا الحديث عن الكينونة الشعرية الخالصة، وذلك بالتخلص من القيل والقال والملاحقة النقدية المُـزمنة، أم أنه من الضروري أن يلاحق الموت كل النصوص كما يلاحق أصحابها حتى الخالدة منها، ومن ثمة تتأجل النهايات الشعرية ثم تنسى كغيرها، كأنها لم تكن شعرا؟.

هل يمكننا الحديث في هذه الحالة أيضا عن الكينونة الشعرية الخالصة في الشعر، ونحن نعلم أن الوصول إلى هذه الدرجة في الشعر، لا يتم إدراكها إلا من خلال التخلص من تُهَـم القيل والقال في أي عمل شعري، والتسليم بأصالته الإبداعية وعدم تبعيته لأي نص شعري آخر يبقى مطمحا، وهو الذي لم يحصل إلا مع النادر جدا من الأشعار التي نجت بكينونتها من الموت، وبالتالي حققت كينونة مستمرة في الوجود، واستمر الناس في قراءتها والإشادة بها، إن لم يكن التغني بها في خلواتهم.
أي عمل شعري منفتح لا منغلق بالمقارنة مع نظرائه، متجاور لهم ومتجاوز إياهم ومختلف عن باقي النصوص، مهما تشابه البناء في ظاهره، لكن تبقى نظرية "الوَاحِـد ضدَّ الآخَـر" لعبة مستمرة ودائمة، تلاز كل النصوص في كينونتها الخالصة، حينها تصمد بعض النصوص وتتلاشى أخرى أمام بعضها، مهما كثر التعتيم والتحريف وسوء الظن والفهم والتفسير، وكثر الاعتراض عن إعطاء صفة الإبداع الخالص للنص في الوجدان العام للمتلقي، وتصبح هذ الشعرية الخالصة مع مرور الوقت كينونة ضائعة وتائهة في خضم فوضى إبداعية عارمة، قد تتشابه أحيانا إلى درجة التطابق والاستنساخ، بحُجَّـة "تناصُصات" متعدِّدة، تتشابك إلى درجة تصبح معها هذه الكينونة الشعرية الخالصة مَـوضع تساؤل وشك ومُساءلة نقدية لا تخلو من تجريح أحيانا، ويظل الصراع مُحتدم بين مجموعة من الكائنات الشعرية، تغيب الأصالة الشعرية في ظل هذه الفوضى في المشهد الإبداعي في الشعر، ويظل النص الشعري مهما ارتقى، خاضعا لمنطق الالتباس وفضول المُساءلة النقدية، هكذا يصبح النص كائنا مشتركا بين مجموعة من المبدعين، ويُحرم من كينونته الإبداعية الخالصة في الشعر.
النص الإبداعي في أوله وآخره كائن بيولوجي، كما يقول عنه الناقد محمد مفتاح ، من حيث ماهيته وبنائه وانهماكه في عالمه الخالص، وعَـوالم مُـبدعه الذي لن يكون إلا كائنا مَسكونا بالشعر، وعدم توفره على كينونة الخالصة، يعني حتما أنه كائن مشترك في خصوصيته مع الإنسان زمانا ومكانا، متضارب مع هوية نصوص شعرية أخرى تتشابه معه في عدة قواسم مشتركة، وهذا لن يعفينا من القول أن هناك نصوصا فاقدة للحياة مثلها مثل الإنسان تماما، فقيرة إلى كل شيء مثل الإنسان ولا شعرية فيها، تنتظر هي الأخرى نهايتها، الذي لن تكون إلا الموت، حتى وإن اختلفت طرق وصولها إليها.
نعرف أن كل نص شعري له بنيته الإيقاعية والأنطولوجية والوجدانية والزمانية الخالصة، منغرسة في ثقافة الشاعر وبيئته، وكينونته الزمانية لها أيضا مقومات بنيوية خالصة، إذ أن كينونة النص الشعري هي تحليق زماني أحادي الجانب، فردي في أفق له خاصيته المُطلقة زمانا، يفتح أبواب الفضول لمعرفة آفاقه المعرفية والبحث فيه عن جزئياته الصغيرة، بحيث يصبح في الأخير لا ينتمي إلا إلى نفسه، وليس لأي أحد من النصوص التي سبقته أو التي جايلته زمانا، فريدٌ في كينونته الشعرية الخالصة، يسبح فيها وحده دون غيره من النصوص الشعرية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. روبي ونجوم الغناء يتألقون في حفل افتتاح Boom Room اول مركز ت


.. تفاصيل اللحظات الحرجة للحالة الصحية للفنان جلال الزكى.. وتصر




.. فاق من الغيبوية.. تطورات الحالة الصحية للفنان جلال الزكي


.. شاهد: دار شوبارد تنظم حفل عشاء لنجوم مهرجان كان السينمائي




.. ربنا سترها.. إصابة المخرج ماندو العدل بـ-جلطة فى القلب-