الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


[60]. رحلة المئة سؤال وجواب، حوار صبري يوسف مع د. أسماء غريب حول تجربتها الأدبيّة والنّقديّة والتّرجمة والتَّشكيل الفنّي

صبري يوسف

2019 / 1 / 23
الادب والفن


صبري يوسف

60. يشعر المبدع مغترباً وغريباً عن هذا العالم، ما سبب شعور الكثير من المبدعين بالاغتراب؟

د. أسماء غريب

هذا ما يُقالُ وما تداولهُ النّاسُ على مرّ الأزمان والعصور إلى أن أصبحَ حقيقةً ومسلّمة كبرى بينهُم، وإنِّي لأعتَقِدُ أنّهُ لو عرفنا معنى أنْ يكونَ الإنسانُ مُبْدِعاً، فإنّنا سنعرفُ أنّ غربتَه الّتي يدَّعيها الجميعُ شيءٌ وهميّ، وقد يكونُ الفعلُ الإبداعيّ في بدايتهِ لدى العديد منَ المبدعين- وأتحدّثُ هنا بصيغة الشُّموليّة ولا أعيّنُ فئةً بعينها من قبيل الأدباء والرّسّامين والفنّانين المسرحيّين ومن إليهم- محتاجاً إلى نوعٍ من العزلة التّامّة من أجل الخلق والابتكار لكنّه لا يمكنهُ أبداً أنْ يُسَاهِمَ في تأسيس الفكر والحضارة إلّا مِن خلال المشاركة، أيْ عبر طرح إبداعه على أرضِ الواقع وإخراجه من شرنقته. وإنّني لأعتقدُ أنّ سنوات العزلة الّتي عادة ما يعيشُها المبدعون ليست لها أيّة علاقة بالغربة بمفهومها الحقّ بقدر ما لها علاقة بالآفات الاجتماعيّة والفساد المستشري بين النّاس الّذي بهِ وبعرّابيه يتمُّ تحديدُ ما يسمّى بالجيراركيّة الثّقافيّة والفنّيّة الّتي بموجبِها تتمُّ الهيمنةُ على الحركة الإبداعيّة وتفصيلها وفقاً لمقاسات وشروط معيّنة، فيحدثُ بالتَّالي التَّهميش والإقصاء القصريّ للمبدعين الفاعلين حقّاً من أهل الفكر النيّر والمتنوّر. ولأنّ الدّنيا ليست دار ثبات واستقرار وكلٌّ فيها متحوِّل ومتغيّر، فإنّ هيمنةَ الجيراركيّات أيضاً تخضعُ لقانون التَّحوّل هذا، وقد يحدثُ أن ينالَ بعض المبدعين من ذوي "الغربة" نصيبَهم من الصّيت والشّهرة لفاعليَة فكرهم وفعّاليّة نتاجاتهم وقدرتها على التّغيير، وليسَ لتنازلهم ومشاركتهم في الفساد الفكري والثّقافي.

وإلى جانب هذا، علينا أن نعلم أيضاً، أنّ المبدعَ الحقّ ليس ذاك الّذي يسعى إلى الشّهرة، بقدر ما يكونُ همّه الرّئيس أنْ يُحَقّقَ فعلَ البناء والتّغيير، ويعنيه كثيراً أن يتمّ ذلكَ في صمت مطبق، أيْ ذاك الصّمت الضّاجّ بالفعل والخَلق والخدمة والعمل، تماماً كصمت الإله الّذي هو كلُّ يوم في شأن، وكلّ يوم في خَلْق، دون أن يُحْدث ذاك الضّجيجَ الّذي عادة ما تحدثه الطّبول الفارغة. وعليه فإنّ "غُربةَ" المبدع إذا ما أجدْنَا مُقارَبَتَها هي غربة خلّاقة، وإنّي لأظنُّ أنّه قد آن الأوان لنخرُجَ من بكائياتنا ومناحاتنا بشأنِ العزلة وما إليها، ولنعلم أنّ "الغربة" هي لمن يقدرُ ويصبر عليها وبها، لأنّها تَنّورُ الخلق، وبدونها لا يمكنُ للإبداع أن يكون إبداعاً، لأنّها مرتبطة بشكل كبير بكبرياء المبدع وعزّة نفسه وشموخه وأنَفَته، ولا شأن لها بالخضوع والتّنازل والمساومات، وهي لهذا كله تستحقُّ أن تسمّى بالغربة العزيزة الأبيّة.

والغربة لها أيضاً علاقة بالاختلاف الّذي أعني به التَّميّزَ والخصوصيّة، إذ على كلّ مبدع أن يكونَ مختلفاً عن الآخر، حتّى يتحقّق الإبداع الفسيفسائيّ، والخلق الحضاريّ المُوزايِيْكيّ، الَّذي كلّما أمعنتَ النّظرَ فيه، وجدتَ لكلّ إصبع بصمة خاصّة، إذ باختلافنا تتأسّس الحضارات القويّة.
لكن ماذا لو تساءلنا عن حال المبدع العربيّ، ومكانته بين غيره من مبدعي العالم؟ سوف نجد بدون أدنى شكّ أنّ ثمّة من يعتقدُ للآنِ ألّا أحدَ يضاهي المبدعَ العربيّ في تميّزه وعبقريّتهِ الفذّة، أو ثمّة من يزال يعيشُ على أوهام الماضي السَّحيق، أيْ غاطّاً في ذاك الزَّمن الّذي كان فيه المبدع العربيّ متميّزاً في شتّى العلوم. ذاك عهد ولّى، ولم نفعل شيئاً لنطوّر ما تركهُ لنا الأجداد، وإذا ثمّة شيءٌ يمكنُ الحديثُ فيه عن إبداع العقل العربيّ في العهد الحديث فإنّهُ يمكنُ أنْ نقولَ إنّ هذا العقلَ أبدع في تدمير نفسه بشكل لا يمكن أن ينافسهُ فيه أحد: أبدع في خلق الحروب والفتن الطّائفيّة والعقائديّة، وأبدع أيضاً في تدمير المرأة وكفاءاتها، وأبدع في التَّحوّل إلى كائن استهلاكيّ شرِهٍ يقتني كلّ ما ينتجه الغرب والصّين دون أن يفكّرَ ولو ليوم واحد كيفَ يُحقِّقُ لنفسه الاكتفاء الذّاتيّ من كلّ شيء، وكيف لا، وهو لا يستطيعُ أن يصنع حتَّى الإبرة الّتي بها يخيطُ لباسَهُ، ولا السّيّارة الَّتي بها يتوجّهُ إلى عمله، ولا حتّى الهاتف الذَّكيّ الَّذي بهِ يتواصل مع أهله وأحبّته! وإذا كان لا بدّ من الحديث عن الغربة، فإنّني لا أرى غربةً أشدّ من غربة الإنسان العربيّ، لأنّه اختار أن يبقى خارجَ الحضارة وخارجَ الكون وخارج الحياة بأسرها، وتركَ عقلَهُ يقتاتُ على الخزعبلات والأفكار الرّجعيّة والأوهام الّتي لا أوّل لها ولا آخر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري


.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض




.. تقنيات الرواية- العتبات


.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05




.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي