الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وأخيراً قرأت كليلة ودمنة

لينا صلاح الدين
كاتبة

(Lena Saladin)

2019 / 1 / 23
الادب والفن


كتاب يجمع بين الحكمة واللهو، فاختاره الحكماء لحكمته، والسفهاء للهوه .. هذه الكلمات التي اعتمدها ابن المقفع لوصف الكتاب في مقدمته، هي خير ما يمكن أن استهل به حديثي عنه.
تخلفت كثيراً عن مطالعة هذا الكتاب لأني حسبت أنه مجرد سرد أدبي على لسان الحيوانات، ولم أع إلا بعد مطالعته أن بيدبا قد استخدم الحيوانات في ما قصه من قصص للملك دبشليم في إطار رمزي فقط لتناول قضايا سياسية وخُلُقيةّ أكبر حجماً.
كليلة ودمنة كلاهما يموتان في منتصف الكتاب، لكن الغريب هو شخصية دمنة التي جمعت بين نقيضين، حيث جمعت بين الحكمة والخبث. وربما لم يكونا نقيضين، ربما عكست شخصيته واقعاً محققاً لما يضمره الحكماء، فلو كان الأسد على دراية بخبث دمنة لما سمع مقالته وقتل شتربة الذي كان يكن له ولاء تشهد عليه أفعاله، ثم جلس نادماً على صنيعه هذا. لذلك أنا لا آمن الحكماء ولا أسمع أقوالهم .. لا ائتمن كل من يحدثني عن الفضيلة دون أن أراه أمامي يعمل بها.
ما أوجهه من نقد للكتاب هو التعارض فيه بين بعض القيم الخُلُقية وتضاربها فيما بينها، وكمثال أذكر أنه في جزئية قام بدحض مفهوم القناعة حين وصف ممتلكيها بأنهم:"أناس لا مروءة لهم؛ كالكلب الذي يصيب عظماً فيفرح به. أما أهل المروءة فلا يقنعهم القليل؛ كالأسد الذي يفترس الأرنب، فإذا رأى البعير تركه وطلب البعير" ثم أتى في جزئية لاحقة وقال:"يعيش القانع الراضي مستريحاً مطمئناً وذو الحرص والشره يعيش ما عاش في تعب ونصب". فيتضح لي أن ابن المقفع أو بيدبا -أيا كان من أضاف هذه الجزئية- لم يمتلك رأياً جلياً تجاه القناعة. أما إذا خُيرت أنا بين المقالتين لاخترت أولاهما؛ فالإنسان القديم لو عرف القناعة كان لينكص على عقبيه أمام الحداثة ويستأثر بأدواته البدائية حتى اللحظة. فالقناعة ليست سوى مفهوم ابتكره أصحاب الجاه ليحثوا العامة على الاحتفاء بفقرهم وفشلهم.
إن النهاية المروعة التي أنهى بها المنصور حياة ابن المقفع حين قام بتقطيع أطرافه جزءاً جزءاً وهو ما زال على قيد الحياة بسبب اتهامه بالزندقة، هي تجسيد فعلي لما أطلقت عليه سابقاً لفظ "السيادينية" أي اقحام الدين في السياسة. فكثير من كتابات ابن المقفع وعلى رأسها كليلة ودمنة، تعكس بوضوح محاولته ربط الدين بالدنيا، ليس اقتناعاً منه بهذا الربط، بل تجنباً للعاقبة في حين لم يفعل ذلك. ويتضح هذا أكثر حين قال في الكتاب:"فلما خفت من التردد والتحول رأيت ألا أتعرض لما أتخوف منه المكروه، وأن أقتصر على عمل تشهد النفس أنه يوافق كل الأديان". فتقطيع جسده لم يتم بداعي القضاء على الزندقة بل على الفكر الحر، فما عُرف عن ابن المقفع هو معارضته لكثير من سياسات الفساد التي كانت تُنتَهج في عصره. لذلك إذا أردت أن تعرف الطاغية فإن أول سمة تشير إليه هي ربطه لنفسه بالدين، فمن عارضه كأنما عارض الدين، منصباً بذلك نفسه نائبا لله في الأرض. وهذا يفسر مقالة المنصور لابن المقفع قبل تقطيع جسده والقذف بأجزاءه في النار حين قال بأنه سيذيقه نار الدنيا قبل نار الآخرة.
كليلة ودمنة كتاب به من عمق التشبيه ما به، وتوظيف الطبيعة في هذه التشبيهات كان أبْلَجاً، فقد استخدم بيدبا طريقة لافتة لايصال فكرته. وعن ابن المقفع فإنه كغيره من مفكري عصره كان ضحية الجهل والطغيان، رغم ذلك فإن جمال اللغة وقوة المعنى التي في كتاب كليلة ودمنة ظلت راسخة كل هذه العصور، والتي أتمنى أن يُبقي عليها أجيال المستقبل. لقد قَطَّع المنصور جسده لكنه لم يُقَطّع فكره، فقد كتب التأريخ أن واحداً من أكبر ضحايا الظلم وأكثرهم فصاحة هو هذا الرجل الذي يسمى ابن المقفع برائعتة كليلة ودمنة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عاجل.. تفاصيل إصابة الفنانة سمية الألفى بحالة اختناق فى حريق


.. لطلاب الثانوية العامة.. المراجعة النهائية لمادة اللغة الإسبا




.. أين ظهر نجم الفنانة الألبانية الأصول -دوا ليبا-؟


.. الفنان الكوميدي بدر صالح: في كل مدينة يوجد قوانين خاصة للسوا




.. تحليلات كوميدية من الفنان بدر صالح لطرق السواقة المختلفة وال