الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


[67]. رحلة المئة سؤال وجواب، حوار صبري يوسف مع د. أسماء غريب حول تجربتها الأدبيّة والنّقديّة والتّرجمة والتَّشكيل الفنّي

صبري يوسف

2019 / 1 / 25
الادب والفن


67. الأديبة المبدعة د. أسماء غريب، راودني مراراً وأنا أقرأ إجاباتكِ، كيف تستيطعي أن تحيطي بكلِّ هذه الأجناس الأدبيّة وتمسكي بخيوط هذا الحوار وتنسابين في العطاء وكأنّك في حالة استعداد دائم للتدفّق؟!

د. أسماء غريب

إذا نطقَ الحرفُ وجبَ الإنصاتُ له: هذا سرٌّ من أسرار الكتابة الأصيلة الشّامخة. والإنصات يقتضي الدّخولَ إلى كهف الرّوح والتَّحلّي بالخشوع والتّواضُع؛ ذلك لأنّ الكتابة هي صلاة ودعاء يغسلان القلبَ من أدرانه، ويشفيان الرّوح من آلامها، ويخفّفان عنها ثقلَ ووجعَ الغُربة: غربة الزّمان والمكان.

وأماكنُ الإنصات عندي ثلاثة: المطبخ والمائدة ثمَّ السّرير. ولا خير في كاتبٍ لا يدخلُ تنّور النّار، ولا يعرفُ معنى المائدة ولا السّرير وأسرارهما. وإذ أقولُ المطبخَ فإنِّي أقصد به كلا المعنيين: الحرفيّ الظَّاهرَ منه، والمجازي الكامن فيه.

المطبخ هو المكان الَّذي ألجُه كلَّ يوم بكلّ ما فيّ من عشقٍ ووفاءٍ، وفيه يأتي للقائي الحرفُ بكلِّ ما فيه من حرارةٍ ودفء ومحبّة. والكاتبةُ الَّتي لا تعرف أصول طهو الطَّعام، لا يمكنُها أن تكتبَ بصدقٍ وعُمْقٍ أبداً. لأنّ كلّ شيء يبدأ من هناك: من مخْبَر الطّهو وأفرانه، الَّتي فيها وبها تكتشفُ المرأةُ الكاتبةُ معانيَ الأشياء، وتكوينَها، ورائحتَها، وعطرَها، ودرجة حرارتها وبرودتها، وطعمَها ومذاقَها المرّ والحلو، والمالح والحارّ. إنّها كالخيميائيّ الّذي يراقبُ تكوُّن الأشياء: كيف تَخْضَرُّ وكيف تَحْمَرُّ وتَصْفرّ وتسْوَدُّ، بل كيف تكون ترابيّة وهوائيّة، أو ناريّة ومائيّة، ثمّ كيف تتحوّلُ من حالة إلى الأخرى، وكيف تنمو وتحيا، وكيف تموتُ وتقوم.

الكاتبة الَّتي لا تعرف المطبخ وتوابِلَهُ وخضرواته، ونيرانه وخبزه ومناخله وخميرته ونبيذه وزيوته، لا يمكنُها أبداً أن تعرف الحرفَ كيف يتكوّنُ، ولا الكلمةَ كيف تولد، مهما كتبتْ ومهما تسابقتْ دورُ النَّشر على كتاباتها والمحافل على تكريمها. ذلك أنّ الحرفَ الحقّ لا يقيم وزناً لهذه المحافل وأهلها، ولا يعتبرُها أبداً المعيار لتكريم الكلمة الأصيلة.

والمطبخُ هو مكان الإيروس بامتياز، فيه تتخلّقُ الأشياءُ بالمحبّة، وفيه تتجلّى الكلمةُ، وبه تعرفُ الكاتبة الحقّة كيف تُقِيمُ علاقةً عشقيّة مع الكتابة. وقد يحدثُ أن يكلّمَها الحرفُ وهي منهمكة في دعك عجينة الخبز أو الحلوى، أو وهي غائصة في خلق تركيبةِ خلّ العنب الأسود، أو التُّوت البرِّيّ. نعم، الحرفُ يُكلّمُ المرأةَ الكاتبةَ، ويقول لها: أحِبُّكِ، لأنّكِ تزدادين كلّ يومٍ جمالاً، وأنت تكتشفينَ سرّي الّذي به تدخلينَ ملكوت البوح، والشّعر والقصيد والنّثر والتَّرجمة والنّقد.

ومِنَ المطبخ يقودُ الحرفُ المرأةَ المبدعة الكاتبة إلى المائدة، ليعلّمَها أنواع الطّعام الّتي عليها أن تتناولَها، والّتي ستفيدها ولا شكّ في إبقاء شُعلة الإبداع متّقدةً، بعد أن يوصيها بألّا تقربَ الأبيضان أبداً: الملحَ والسّكَّرَ. نعم، فأنا لا آكل الأطعمة المحلّاة ولا المالحة بتاتاً. ولكي يكتمل المرادُ يوصيها وصية أخرى لا تقلّ أهمِّيَّة عن الأولى قائلاً لها: لا تفتحي تلفازاً أبداً. وحينما تسألهُ السّببَ، يردّ باسماً: لأنَّ شاشةَ الأرضِ تحجبُ عن الكاتب والمبدع الواعي الأصيل شاشةَ السّماء. وحينما تطلبُ منه المزيدَ من الإيضاح يقول: العقلُ يُخزّن ما يَرى ويسمعُ، والذّاكرة لا تنسى أبداً ما يُعرضُ عليها باللَّيل والنَّهار من صور، والحرفُ يتنزّلُ على القلوب ويطرقُ الأبوابَ باستمرارٍ، إلّا أنّه يجدُهَا مُغلقة في وجهه بسُتْرٍ من دخان الوهْمِ الكثيف، فيحدثُ أنْ يعود من حيثُ أتى، أو يضيعَ ويندثر. وقد يتألّقُ ويُزْهِرُ ويتوهّجُ إذا ما صادف قلباً خالياً من صور الأوهام، وأصواتِ الخواء والغباء الدّنيويِّيْنِ المنتشريْنِ في كلّ مكان، قلباً يكونُ صقيل المرآة وله القدرة على أن يحتضنَهُ بعمقٍ ومحبّة نادريْن. وحينما تسألُ المرأةُ الكاتبةُ الحرفَ، أين يكون الاحتضان ومتى؟ يجيبُ قائلاً: في السّرير. حينما يخلو كلُّ خِلّ بخليله، يأتي الحرفُ باحثاً عن خلّانه الأوفياء، ليغمرهم بالفيض والعطاء الغزير، ويُطلِعَهُم على الكتابِ الصّوتي المسموع، واللّوْحي البصري المقروء. وما على كلّ عاشق سوى أن يَغْرفَ من كلا الكتابين ما يلائم روحَه ويوائم عُلوّ الهمّة عنده.

وللسرير أوقاتٌ معيّنة، على المبدع الأصيل أن يعرفَها جيّداً، ممّا قد يعني أنّ أوقاتَ نومه واستيقاظه قد تختلفُ عن أوقات الآخرين. والنَّومُ سرّ، والاستيقاظُ منهُ سرّ آخر لا بدّ للمرأة الكاتبة أن تحيط بهما، وإلّا فإنّها قد تفوتُها أوقات البوح دون أن تغْرِفَ من معين الحرف ما هي بحاجة إليه لتطوّرِها الرّوحي وبلوغِها مدارج الرقيّ والصّفاء والسّكينة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري


.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض




.. تقنيات الرواية- العتبات


.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05




.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي