الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


[70]. رحلة المئة سؤال وجواب، حوار صبري يوسف مع د. أسماء غريب حول تجربتها الأدبيّة والنّقديّة والتّرجمة والتَّشكيل الفنّي

صبري يوسف

2019 / 1 / 25
الادب والفن


70. ما هو دورك مبدعةً ومثقَّفةً في إرساء ثقافة السَّلام والتّنوير في المجتمع الشَّرقي والعربي والغربي؟

د. أسماء غريب

الاهتمام بثقافة السّلام واجب كلّ إنسان أينما حلّ وكان، ليس شرطاً أن ينتمي إلى بلد عانى أو يعاني لليوم من أوار الحروب. على السَّلام أن يكون الشّأن الدّاخلي للجميع. وعلى الجميع أن يسعوا لتحقيقه من أجل حياة كريمة خالية من المنغّصات والآلام. السّلام هو خبز الرُّوح والجسد، وبه يمكن للإنسان أن يحقّق إنسانيّته، وينعمَ بها مع الآخرين.

كُثْرٌ هُم الَّذين أظهروا اهتمامهم بفكر السّلام اليوم عبر إنشاء الجمعيَّات وتأسيس المجلّات وما إلى ذلك، وهذا أمر جيّدٌ للغاية، لكنّه غير كافٍ. على منْ يهتمُّ بالسَّلام أن يعيَ جيّداً أنّه يضربُ في أرضٍ من حجر، وأنّ الأمرَ يحتاجُ إلى أعوام وأعوام لكي يتفتّتَ الصّخرُ، فقلوب النّاس تحجّرت من كثرة المآسي والحروب والأحزان، ولا يعنيها في شيء أن تسمع أحداً يحدّثها عن السَّلام. ثمّة من تغلي مراجلُ قلبه تعطّشاً للانتقام، ولتحقيق العدالة البشريّة على الأرض قبل أن يفوت الأوان، بمنطق العين بالعين والسّنّ بالسِّن والبادئ أظلم.

نعم، من الصّعب جدّاً الحديث عن السّلام مع أمٍّ فقدتْ أبناءها في ساحة الوغى، أو بسبب سيارة مفخَّخة، أو مع أبٍ غُيّبت فلذة كبده في غياهب السُّجون. هؤلاء النّاس كثيرون اليوم وفي كلّ بقاع العالم، ولا يمكن تجاهل مشاعر الأسى والمرارة والغضب الّتي يحملون. والحديث بالنّسبة لهم عن السّلام سيظلُّ مجرّد كلام يُلقى في قداسات الآحاد أو في خُطب المساجد.

أضف إلى هذا، ثمّة منِ السّلام بالنّسبة له أن تضمن لهُ الحقّ في العمل، وفي الدِّراسة وفي التَّطبيب والسّكن والعيش الكريم. لا يمكن لشابٍّ عاطل عن العمل مثلاً ويحمل من الشّهادات العليا الكثير، أن يقف ليستمع إليكَ وأنت تحدّثه عن السَّلام: لأنّ هذا الكلام يعني له ضرباً من الجنون، سينظرُ إليك وكأنّكَ إنسانٌ منفصل عن الواقع وتعيش في زمن الأحلام. أن تعطيَه عملاً يليق به، سيكون هو السَّلام بالنّسبة له، لأنّه سيحميه من غدر الشَّوارع وفاقة الزّمان، وسيشعِرُه بالأمان وبالقدرة على المشاركة والتّفاعل مع المجتمع.

الحديثُ عن السَّلام مع فتاة ليل مثلاً، تبيع جسدها لتعيش يعني ضربا من الجنون، لأنّ عالمها المليء بالشَّرّ والعبوديّة والاستغلال لا يسمح لها أبداً بالتفكير في السَّلام بجسدٍ موشوم بالنُّدوب وقلب مثقل بالأحزان والجراح.
لا أحد يعنيه ما نقول، أو ما نكتب. النّاس غارقون في آلامهم حدّ الثّمالة والتّخمة، والحروب في كلّ مكان: في البيت، في الشّارع، في العمل، في الأسواق والبورصات. لا يوجدُ مكان إلّا ومشتعل بحروب الإنسان اليوميّة. لكنّ هذا لا يعني ألّا يحاولَ المثقّف، أو ألّا يكرّسَ وقتَه لإعلاء صروح السّلام. صحيح أنّ صوته سيبدو كالهمس في قاعة غاصّة بالصّمّ والبُكم، أو كمن يغنّي أغنيةً بصوت نشاز في حفل عامّ، لكن لا بدّ من المحاولة. وعلى ذكر المحاولة سأحكي قصّة وقعتْ لي في السّنة الماضية (2017)، وأنا بصدد فعل شيءٍ من أجل إرساء ثقافة السَّلام:

على إثر صدور كتابيْنِ كنتُ قد ترجمتُهما إلى اللُّغة الإيطاليّة عن السّلام في زمن الحروب، هما (السّلام أعمق من البحار) للأديب السوري المغترب صبري يوسف، و(من مذكّرات طفل الحرب) للشاعرة العراقية المغتربة وفاء عبد الرزاق، فكّرتْ صاحبةُ دار النّشر في أن تقيم احتفالية لتقديمِهما في إحدى الجامعات الإيطالية وأن تدعو بذلك كلّا من صبري ووفاء وكذا الشاعر العراقي سعد الشّلاه باعتباره ساهم هو الآخر معي في كتابة ديوان شعريّ يتحدَّثُ عن السّلام الرُّوحي العرفانيّ، هو (تانغو ولا غير). عرضتِ النّاشرةُ الأمرَ عليّ واستحسنتُ الفكرة، ثمّ حدّدنا موعداً وذهبنا إلى إحدى الجامعات الإيطاليّة للقاء الأستاذة والنّاقدة الجامعيّة الّتي ستهتمُّ بالأمر، وهي ذات المنصب المهمّ، والباع الطَّويل في النَّقد الأدبيّ وما إلى ذلك. وصلنا في يوم ماطرٍ جدّاً والدَّواوين الثّلاثة بين أيدينا، ونسخٌ أخرى منها كانتْ قد أرسلتها النّاشرة إليها أيّاما قبل موعدنا المحدّد.

فتحتْ باب غرفة مكتبِها الشّاسع المهيب، وما إن رأيتُها وتبادلنا النَّظّرات قبل طقوس التَّحيّة وما إليها، حتّى عرفتُ بقلبي الجوابَ مسبقاً، وبالرغم من ذلك تظاهرتُ بعدم معرفة شيء مطلقاً، وقلتُ في نفسي ما من مشكل سأحاول أنْ أمدّ يد المساعدة للنّاشرة، فمن المؤكّد أنّها تعوّل على هذه السَّيّدة وتأمل في أن تصل معها إلى اتّفاق.
جلسنا وتبادلنا أطراف الحديث في أمور شتّى عن الأدب العربيّ وعن الثّقافة والمثقّفين العرب، وهالني جهلُها بالعديد من الأمور وهي الَّتي كانتْ تصرُّ أمامي على أنّ نجيب محفوظ شاعراً وليس روائيّاً، وأن الأدباء العرب لا يلمعون إلَّا حينما يعيشون في العالم الغربيّ، لأنّ بلدانهم المستعرة بالحروب والفقر والجوع لا تسمح لهم بذلك. وكانت كلّما مضت قدماً في أحاديثها هذه، توغلتُ في الكرسيّ وازددتُ صمتاً مكتفية بمراقبتها وتأمّل حروب هذه المرأة الدّاخليّة، الفكرية والهويّاتيّة، والّتي بها كنتُ أغوص في عمق أعماق المنظومة التَّعليميّة في العالم الغربي كافّة، إذ أنّه ليستْ هذه هي المرّة الأولى الّتي يصادفني أكاديميون بهذا الشّكل.

شعَرَ والدُ النّاشرة بالحرج ممّا كانت تتفوّهُ به هذه الأستاذة من كوارث فكريّة، وهي تقزّم أمامنا ثقافة السَّلام، وتتحدّثُ عن عدم حاجة الجامعات الإيطاليّة ولا الطّلبة لهذا النَّوع من الكتابات وما إلى ذلك، وحينما بلغ السَّيلُ زباه، قال لي: لماذا لا تقولي شيئاً سيِّدتي أسماء؟
عندئذ قلتُ باقتضابٍ شديد: يبدو أنَّ الأستاذة لمْ تفتحِ الدَّواوين الَّتي أرسلتْها لها ابنتُك ولا تعرفُ عن ماذا تتحدَّثُ، إنّها في وادٍ، ونحن في وادٍ آخر تماماً. أمّا عن كون الجامعات الإيطاليّة لا يعنيها في شيء أن تقيم ندوات عن السَّلام وقضاياه في البحر الأبيض المتوسط، فهذا أمر حقيقيّ، والسُّؤال الَّذي أطرحه الآن: لماذا نحن هنا؟
ثمّ وقفتُ لأنهيَ مهزلةَ هذه الأستاذة الّتي لا تعرفُ شيئاً عن العالم، والّتي شاختْ في كرسيها الأكاديميّ قبل الأوان، والّتي هي في حاجة ماسّة إلى السّلام الدَّاخلي أكثر من أيّ شخص آخر.
ودّعنا الأستاذة الأكاديميّة "العظيمة الشَّأن"، وقلتُ لهَا: لا عليكِ ربّما تكون هناك فرصة أخرى للقيام بندوات قيّمة مع "جنابك المحترم".

عدتُ للبيت، وقد قمتُ بما كان عليّ القيام به تجاهَ النَّاشرةِ ووالدها: لقد كنتُ أريدُ للنّاشرة الشَّابّة أن تفتح عينها على حقيقة ربّما كانت غائبة عنها: لا أحد يعني لهُ السَّلامُ شيئاً! الجامعات تريد مواضيع أخرى عن الضّفّة الثّانية: الهجرةُ وقضاياها مثلاً، المرأة العربيّة وقضايا الإسلام السِّياسي والإرهاب الدَّولي، قضايا الجندر الإسلاميّ ومعاناة الأقلِّيات بمن فيهم الشَّواذ جنسيا والسُّحاقيّات وما إلى ذلك. ربّما لو كانت النّاشرةُ أرسلتْ إلى أستاذتها كُتباً تحملُ عناوين من قبيل: ((ضربني وحرقني زوجي))، ((مذكّرات سحاقيّة عربيّة))، ((لا أريد الحجاب))، ((سأقود السّيَّارة لوحدي))، إلى غير ذلك من هذه الكتابات لكانتْ عانقَتْها بالأحضان، وأقامت الدُّنيا وأقعدتها من أجلها.

لقد كانت زيارتي لتلك الأستاذة فرصةً أيضاً لتَفْهَمَ ناشرتِي الإيطاليّة لماذا لا أقيمُ احتفاليات لتقديم الكتب الَّتي أصْدِرُها عموماً، ولماذا أرفض في كلّ مرة دعواتها لي بالحضور إلى النَّدوات وما إليها.
حروب الإنسان كثيرة، والسّلام الّذي هو في حاجة إليه لهُ عدّة أوجه، وعدّة لغات وطرق، لا تنحصرُ فقط في السَّلام الرّوحي، وإنّما يتعلّق الأمر بالعديد من المنظومات الفكريّة والسياسيّة والاقتصاديّة الّتي يجبُ إعادة النّظر فيها. لا تكفي الجمعيّات، ولا المجلّات، ولا الدَّواوين، إنّما الأمر يحتاج إلى عمل جذري يزعزع الأعماق والجذور.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري


.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض




.. تقنيات الرواية- العتبات


.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05




.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي