الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الكرسي

طالب جانال

2006 / 4 / 19
الادب والفن


عندما أختير (سيادته) ، في ما يشبه اللعبة ، ليترأس دائرته ،لم يصدق أحد ، سواء من الموظفين أو المراجعين ، بأن المقام سيطول بعجيزته على كرسي الأدارة . فهو يفتقر الى الطلّة المحببة التي تريح المتعاملين معه ، كما قرر أحد المراجعين ، وتعوزه المواهب الادارية الخاصة التي ترندج حائزها وتؤهله لشغل منصبه بجدارة ، فضلا عن انه لم يتمكن ، خلال السنوات التي قضاها في الدائرة ، من اكتساب أي قدرات استثنائية تميزه عن سواه ، سوى ، اجادته للثرثرة البليغة بلغة شعرية راقية لكن غير مفهومة ومجردة من المعنى ، لذلك ، رفضه الجميع ، الا خاصته ، منذ اللحظات الاولى لترشيحه.
فالمراجعون ، فضلوا ترك مصالحهم نهبا لغبار الرفوف وأدراج الحفظ في مكاتب الدائرة على أن يواجهوا تلك الخلقة الثقيلة ، أو ، أن يرغموا على سماع تلك البلاغة الجوفاء وهي تخبط الولادة ، برحم المعاناة ، بحضانة الترهات ، ليفرخ المستقبل خيرا أو أمانا سيعم الجميع . وفقد الموظفون حماستهم للعمل ، وأنصرفوا الى تزجية الوقت في محاولة اصطياد سمكات مزوهرات ، لا تقيم أود رغباتهم ، من وشالة أصحاب مصالح لازالت الضرورة القصوى تنقطهم في برك الدائرة الراكدة . وأحيانا ، ينشغلون مغتبطين بمتابعة طيران الفيلة في سماء الشائعات المترامية ، أو ينغمرون يائسين في حل كلمات الفوضى المتقاطعة . أما الموظفات ، اللواتي اعتقدن بأنهن قد تحررن ، أخيرا ، من قرف المراجعين وروائحهم النتنة ، فقد وجدن أنفسهن ساقطات في فخاخ بطالة مضجرة لايفكهن منها ، لانبشــهن في ملفات بعضهن البعض ولا بحثهن المستميت عن مقاربات شكلية ، معدومة أصلا ، بين ملامح سيادته وبين ملامح مطربي الفضائيات أو ممثلي المسلسلات . لذا ، ولجن في حالة صوفية من انتظار لامجدي لمهديهن المنتظر الذي تمنين أن ينزل من السماء ليصعّد اليها وجه الشؤم هذا .رافضات ، باصرار أنثوي ، تصديق ان هذه الكتلة القصيرة من اللحم المتغضن ، كما قالت احداهن ، العاري الرأس من الشعر ، صاحب العينين التعبانتين والفم الصغير المزموم ، من الممكن لصوره غير الجذابة أن تشوه جمال ديكورات مكاتبهن لدورة من السنين لايعلم حتى الله متى تنتهي.
تدهورت الاحوال في دائرة سيادته حتى فاقت حدود الكارثة ، وتعطلت الحياة ، وعم الخراب والفساد والفوضى ، حتى صرنا مدارا لتقولات الذي يسوى ولايسوى في مشارق الأرض ومغاربها . وتراكمت الشكاوي فوق مناضد الجهات العليا التي لم تجد مناصا من الدعوة لعقد اجتماع وطني يتدارس المشكلة وحلولها الممكنة ، قـرر فيه المجتمعون بناءا على مقتضيات المصلحة العامة ، استبدال سيادته بمدير آخـر لم يشترطوا فيه ، مرحليا ، سوى الشكل المقبول ، بسبب موجب وحيد ، هو وقف التدهور النفسي الحاصل لدى عموم المواطنين . وعلى أن يعاد النظر ، لاحقا ، بهذا الاختيار لتكليف مدير آخر مناسب ومقتدر وبامكانه وقف التدهور المادي للدائرة ومن ثم اعادة هيكلة وتنظيم أمورها . الا ان سيادته رفض الفكرة والقرار عندما أبلغ بهما ، وأبـى ، رغم محاولات اقناعه المتواصلة ، التخلي عن موقعه الاداري ، مستغلا ثغرات القانون ، متحججا باختيار بعض خاصته له وأمتلاكه لما يشبه التكليف الشرعي للتربع على عرش الكرسي .
أمام مستجدات الاحداث هذه ، تم في الوزارة المعنية تشكيل لجنة ثلاثية اضطلعت بمهمة اقناع سيادته بترك الكرسي وتسليمه الى من اختاروه للموقع . أمام رفضه القاطع هذه المرة ايضا ، حولوا اللجنة الثلاثية الى رباعية ، ثم خماسية ، ثم أضافوا لها أعــدادا من الأخيار ووجهاء القوم ورجال الدين ، ووعـود بمناصب أخرى ، وأموال وممتلكات ، لكن دون جــدوى .
الادهـى ، ان سيادته واجه هذا الضغط متعدد الجوانب بزيادة تشبثه بالكرسي الذي ما عاد يتركه أبدا ، لافي حله ولا في ترحاله ، فقد أفرغ قاعات اجتماعاته من كل مايجلس عليه الا كرسيه ، وأزال مقاعد سياراته الفارهة ورفض أن يحل بدلا عنها الا كرسيه ، وفي رأس مائدة طعامه لاينصب الا كرسيه ، وفي مجالس عوائله أو غرف ضيوفه لايوسط الا كرسيه ، أما في خلواته المتكررة مع نسوانه المتعددات ، فقد صار بامكان الجيران رؤية كرسيه ، عبر نوافذ غرف نومه ، يرهـز مقلوبا في الهواء .
تواصلت اجتماعات اللجنة الخماسية وتوالت ليل نهار للبحث عن مخرج للأزمة المستعصية وايجاد وسيلة ناجعة تفصل عجيزة سيادته عن الكرسي ، فقر قرارهم ، على أن القوة وحدها قد تنجز المهمة . فبعثوا رجالا أشداء اقتحموا مكتبه عنوة وجرجروه لساعات وساعات حتى ذابت شحوم أجسادهم المتينة وساحت أرواحهم دون أن تنفصم عروة عجيزة سيادته الوثقى عن الكرسي ، ففروا خائبين .
بعدهـا ،أرسلوا رجالا أشد قوة وأكثر عددا ، فعادوا بذراعيه مقتلعتين من منبتهما ، وفي المحاولة الثالثة ، رجع الرجال الأشداء ، على استحياء ، برجلي سيادته الذي أختزل جسده ، الآن ، الى مجرد رأس لازال فمـه يرش الوجوه بالبلاغة المعهودة ، وجـذع بمقدوره ممارسة عملياته الحيوية . فقررت اللجنة ، نظرا للظروف الطارئة ، التريث في الوقت الحاضر ، بانتظار تشكيل لجنة اختصاصية تكلف بدراسة قوة ووسيلة التصاق عجيزته غير المعقول بالكرسي ، لكي يتم اجراء اللازم وحسب الاصول .
تشكلت اللجنة الاختصاصية من خبراء في علوم الكيمياء الذرية وفيزياء القوى النووية وعلم نفس الارتباط المكاني ، مع مساعدين من اختصاصات ساندة أخرى ، كالتبادل الجيني بين الخلايا الحية والخلايا الميتة ورياضيات المكبوتات وهندسة الأحلام المكانية . وأجرت دراسات معمقة ، نظرية ومختبرية وحقلية ، فتوصلت الى نتيجة مفادها ، ان ذرات عجيزة سيادته قد تداخلت وتعشقت مع ذرات مادة الكرسي بأكثر من نوع من الأواصر ، تجمع بين كيميائية وفيزيائية ونفسية ، تتخللها جميعا معادلات رياضية معقدة تتداخل مع التوزيع الحيوي للقوى ضمن نسق ميتافيزقي في مدى رحب من مجالات فيزقية متأصلة في البعد الهندسي للمكان . وعليه فقد أوصت بأنه لايمكن ، والحالة هذه ، الفصل الفعال بين عجيزة سيادته وبين الكرسي الا بنوع من قوى غير متعارف عليها ، على اللجنة الخماسية البحث في ماهيتها .
عند وصول التقرير الفني الى منضدة اللجنة الخماسية التي كانت مجتمعة كعادتها ، وبسبب من تباين مستويات ادراك اعضائها من جهة ، وقصور اسلوبي في صياغة التقرير نفسه من جهة أخرى ، فقد تم تفسير عبارة ( قوى غير متعارف عليها ) بالقوى الميكانيكية المتوفرة . فقررت ايفاد ساحبتين مع أطقمهما لانجاز المهمة ، ربطوا ما تبقى من جسد سيادته الى احداها ، وربطوا الكرسي الى الاخرى ، وأوعزوا الى مشغليهما أن يشرعا بالسحب في اتجاهين متعاكسين .
سمع الجميع آهة مكبوتة فلتت من شفتي سيادته المزمومتين عندما طقطق عموده الفقري وتمزقت عضلات وسطه ، ثم رأوا بطنه يتمدد ويتمدد حتى انفصلت البقية الباقية من نصفه العلوي عن عجيزته التي ظلت ملتصقة التصاقا شامخا بالكرسي ، فأصيبوا بالاحباط .
كانت أزواج العيون الخمس للسادة أعضاء اللجنة تتابع ، بقلق بالغ ، الحدث المنقول فضائيا ، وتراقب العجيزة الملتصقة بالكرسي ، يتشكل منها ثقب صغير سرعان ما كبر ونمى الى ما يشبه الفم الآدمي ، بشفتين مزمومتين ، شرع لسان بدائي يتدلى ما بينهما ، ثم يتقلب ويتحرك ، ليجلد سمع العالم صوت سيادته ، يشكر ، بمنتهى البلاغة ، موظفيه لتقديرهم قدراته باختيارهم له مديرا سوف وسيبقر أرحام معاناتهم جميعا .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم السرب يتخطى 8 ملايين جنيه في شباك التذاكر خلال 4 أيام ع


.. الفنان محمد عبده يكشف عبر برنامج -تفاعلكم- أنه يتلقى الكيماو




.. حوار من المسافة صفر | الفنان نداء ابو مراد | 2024-05-05


.. الشاعر كامل فرحان: الدين هو نفسه الشعر




.. جريمة صادمة في مصر.. أب وأم يدفنان ابنهما بعد تعذيبه بالضرب