الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في حضرة راوي الحكايات

زياد بوزيان

2019 / 1 / 31
الادب والفن


كنت و بعض الأصدقاء في أيامنا التي أعقبت الجامعة ، جد كلِفين بشخص يدعى الراوي الشعبي أو البراح لنستقي منه بعضا من أسرار الصنعة ، و أشياء أخرى ، كنا نرى أننا قد نحتاجها لكن ما برح هؤلاء الزملاء أن انفضوا عن الأدب ، طلبا للرزق ، فبقيت وحيدا في عالمه ، أرقبه و أتأمله في مرابعه ، التي هي المقاهي الشعبية ، حتى أطل علينا البراح بلحمه و دمه ذات مساء صادحا و مكررا بأعلى صوته « قِيل أن راوي القصص و الحكايات قد تجرّد أخيرا من عالمه المعنوي المجرّد و لبس عالمه الهيولي مجسدا إنسانا ، هذه خلاصة فيلم " ارو يا راوي حكاية ثورة المليون شهيد " تشاهدونه في المركز الثقافي اليوم بعد العشاء ، قيل أن راوي القصص .... .... » ، لم أكن على علم ماذا حدث له بالضبط هذا الراوي كي يقبل على عالمنا الهيولي ، و كيف أمكنه ذلك تاركا عالمه الورقي الآمن ؟ إلاّ بعد أن غطت في نوم عميق وفي موعد الفيلم فالتقيته صدفةً و هو جالس بأحد مقاهي العتيقة بالقاهرة القديمة ، خِلتُه للوهلة الأولى بعض خيال شبح ، لهزاله المفرط و تواضعه الشديد ، فدار ما دار بيننا من حديث و سمر ، و قد أشار لي إليه في ذات المقهى روائي عربي كبير يدعى النجيب المحفوظ ، الذي كان كثير الجلوس إمّا في الفيشاوي أو في زقاق المدق. فبادرته بعد التحية :

ـــ أنا لا أصدّق نفسي حقاً ، و أنا أجلس بحضرة السيد الراوي دفعةً واحدة ، و برفقته صاحب نوبل اليتيم في تاريخ الرواية العربية كلها. فأهلا بيك يا فندم و للاّ خليني[*] أقول أهلاً بيك وبيه.

ـــ أولاﹰ اللّي بيحيرني هو الزاي دلّك المحفوظ عليَ في حين أن اتفاقا جرى بيني و بينو هو إنو كل واحد مننا لازم يقوم بتضليل كل من يحاول الاقتراب مني أنا ، السيد "راوي الحكايات" أو معرفة سر من أسراري ، أو منه هو ، السبيلجي " أب الرواية العربية ". و ثانياً و الله أنا لست برفقته ، هو متعود على جلوس المقاهي ولوحده ، هي الصدفة وحدها و هل يعقل لروائي عالمي زيو أن يصاحب راوي متبهدل زيي؟ هذا غير ممكن.

ـــ أجل. كأني بك تريد القول أن من شغل الدنيا بسحر فنونه الخيالية ، و حسن أسلوبه ، ودماثة روحه الدرامية ، لا بد من أن يُشخّص إنسانا متواضعا إن هو رضي أن يشخّص.

ــ كل ما تفوّهت به من غير الممكن حدوثه دون المؤلف الحقيقي. هو قُدامك فسألو. الرّاجِل الذي أمامك يبدو أنه رجل مسالم وإنساني مع العالم المادي فقط ، كأنه يعرفك من زمان وإلا ما دلّك عليَ . لكن الأمر يختلف مع عالم الورق والمِداد فالرّاجِل دا قد عمل المستحيل كي يقيد شخصياته و يجعل حركتهم السردية محسوبة بالمليمتر، بل و يجعلني حارسا أمينا له عليهم مدّة لا تقل عن السبعين عام.

ــ ربّما لإنه انتسب أول ما انتسب إلى المدرسة الواقعية في مسيرته الروائية ، لذلك تراه متشدد صارم معكم ، وأنت تعرف أنّ من يلبس ثوب الواقعية لسنوات لا يستطيع الفكاك منها وخلعها بين يوم وليلة ، حالته قد تشبه حالة الدكتاتور العربي اليوم الذي داهمته حركات الاحتجاج الشعبية لدرجة الخطر، بعدما استأمنته أيادي شعبه البيضاء لعقود فلم يستطع الحراك ساكناﹰ إزائها.

ــ لا، وجه الشّبه غير متطابق مئة بالمئة. حقولك ليه ؛ غابت الواقعية وراحت معها أحلام الشباب و عنفوانه ، انتهت فترة الرومانسية الحالمة و تلتها الواقعية الاشتراكية ثم الواقعية الاجتماعية ثم حلّت محلّهما الواقعية النقدية و بقيت أنا و هو إحنا إحنا متغيرناش ، و جات مرحلة الرواية الجديدة ورواية اللارواية عمالا تجري هي كمان. و ها هو بريقهما يخفت رويدا رويدا ، لم تنقلب موازين كتابة الرواية عند محفوظ و مُجايليه رأساﹰ على عقب إلاّ عندما تدخلت السلطوية في العام 1952 وعندما تدخل سيد الجبلاوي الحقيقي عام 1961 في حياته و أثرا عليها تأثيرا حاسما ، راح عهد الأيديولوجيات وجاء عهد جديد اتفكت فيه قيود و قيود .. جاءت الديمقراطية و حرية التفكير بعدما راح اللّي راح ، جاءت العولمة وجاءت التعددية شفنا معها في عز تلك الأيام ؛ أيام العز والبورجوازية و الفشفشة يا ما شفنا .. صحيح ؛ فُك قيد أسْر راوي الحكايات من ياميها إلى حد لا يُتصوّر.

هذا صحيح . لكن الأمر ليس مثل ما تتصور، الديمقراطية العربية غير الديمقراطية في الغرب ، و هي غير قادرة على تأمين النزر اليسير من العدالة الاجتماعية أو الانفلات بالقدر الضئيل من التقاليد الجامدة إلى التقاليد السامية الِلي حلمنا بيها ، فالراجل الِلي قاعد هِناك نفسُه ظل يردد : « كنت أحلم بمجتمع يقوم على قيم ثابتة أولها الحرية ، والعدالة الاجتماعية ، والعلم ، والقيم السامية المستمدة من جميع الأديان ، وخصوصا الدين الإسلامي « لدرجة إنو زهّقني أنا " الراوي" و زهّق مراتو وبناتو مدة ستّين سنة و اللاّ أكثر من دون أن يحقق و لا شيء.

ــ أليست هذه مبالغة ، ونوبل؟ أفهم من هذا تبعاً لجهاد و رهبنة المحفوظ في حارته المصرية ، بقيت سيادتك أسير في فضاءه التقليدي دا .

ــ لكن هذا لا يمنع من بروز أشكال فنية غاية في الاختلاف والتميّز المُقتدر زي ما حصل مثلاﹰ مع الراجل اللي قاعد هِناك و حصل مع الطيب صالح و اللِّي زيّهم ، شَفوني فيها الناس أناطح الفتوة و أجادل السيد هو والسيد أنت والسيد أنا و الكل يقول رأيه بمنتهى الحرية.

ــ و هل لديك إحساس ما الآن بأنك تسلب في حريتك و تقمع من جديد بقوة ، و ربما بجهل؟

ـــ يمكن أقول بعنجهية و جبروت مع الجيل السابق و بسُخف و وقاحة وأحيانا حُمق وغباء مع الجيل الجديد ؛ الراوي عمرُ ما حيموت ، موش الراوي الجاي من خارج سياق الشخصيات و لا الراوي المصاحب للشخصيات الِلي يقول دا أههههه...أههههه ، الذي يقول هذا هو راوي إنسان عمرهُ عُمر الرواية العربية ؛ مئة و خمس سنوات وهو رايح جاي، خَبِر الحياة بحلوها و مرها ، بين السطور و وراء السطور، خَبِرها هناك و هنا ، أيام الحرب والسلم ، أيام الزّهو و الرومانسية ، أيام الثورة و أيام الانعتاق ، أيام الثورة الزراعية خَبِرها حقيقي خَبِرها وشال رحيقها اللي هو المعرفة .. الرواية هي الفن الذي فيه معرفة .

ـــ يا ااا ه . كأني أتحدث مع المحفوظ نفسو، بس عبر جميع هذه المحطات الواعرة أنا شايفك لسَ في عمر الشباب ، لولا بعض التجاعيد على صدغك اليمين.

ــ التجاعيد مكانتش تظهر، وحضرتك كنت سألتني عن الجيل الروائي الجديد ، لو ما إتظلمتش أنا "راوي الحكايات و الروايات" على مرتين أجبن و أمر ظُلم ، ظهر تأثيره علي عليَ خطين، خدشين تجاعيد ، على صدغي اليمين مثل ما أنت شايف.

ــ و يا ترى اللِّي ظَلمك هو الروائي مرة ثانية؟

ــ و ظلم ذوي القربى أشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند. انت تعرف رواية المغرب العربي، يقولوا النقاد أنه في رواياتهم مرحلة اسمها مرحلة الرواية الساذجة ، ولو إني شايف إِنّها ساذجة على طول ؛ يعني زي ما تكون القصة قصة حب ، يجري المُحب وراء حبيبته إلى ميدان المعركة ، و يكسبها لما تكسب هي معركة العمل كممرضة في الجبل ، و هكذا نار ونور مثل ما يقولوا ، هِنا وْقِعت صريع الفراش و اتْخدَشت في صدغي ، يعني كبرت عشر سنين بين يوم وليلة!

ــ و"الخدش" الثاني يا ترى جاك منين؟

ــ جاني من وراء صداع الرَّاس الحاد ، أقصد صداع اللي وراه الرواية و السرد اللي بيِطلَعوا من المواقع الإلكترونية ؛ يا ما كتب وروايات تصدر كل شهر.. بالآلاف .. يا ما بحر من الحبر يسيل ، يا ما أطنان من الحلفاء تستهلك يا ما و يا ما ولا تطلّع في النهاية بشكل فني ولا فكرة وحدة نيرة نستفيد منها زي ما طلعت من عند سيدنا العميد و الراجل اللِي قاعد هِناك و للاّ حتى فكرة جمال الغيطاني الجميلة المعصومة من الزّلل ، و للاّ فكرة أخونا صنع الله إبراهيم و هو ماشي على ضفة النيل عمّال يشيل بقبعتوا الحمامة تبعتوا من الغرق ، أقولك غير نادم و لا آسف لو كانت بيدي نوع من السلطة أصادر تسعين بالمئة من هذه الأطنان من الروايات بين قوسين و أسلمها للفلاحين في مصر و الفلاحين في المغرب العربي موش عشان يقرأوها ، لا ، عشان يستدفؤوا بها في أيام البرد.

أنا موش راح أرميها في المزبلة ، أنا راح أكدسها أحرقها وأعمل بيها دِبالة لِأخوتنا الفلاحين ، هكذا أفضل بكثير.

ــ والعشرة بالمئة الباقية تعمل فيها إيه؟

ــ والله إذا كان أصحابها عندهم palmares مبروك عليهم ، نحاول نفتح أبواب المجد أمامهم ، وإذا كانوا أصحابها ذراري نقول لهم موش الصعود للقمة هو الأهم ، لكن الأهم هو البقاء فيها لفترة أطول . موش معقول يِطلَع هؤلاء الذراري مباشرة مِطلّعين أربع خمس روايات! فين التدرّج المرحلي يا أخي؟ إذا كانت سنة الحياة كِدا ، طفولة و بعدين شباب ثم شيخوخة ؛ فالإبداع له سُنتو كمان يعني لابد من المرحلية بقا ؛ الخاطرة و بعدها القصة القصيرة ثم القصة الطويلة وهكذا. إنّما تجي كأنك مِتولَد بشنبك دا لموش مقبول ، فإنت كدا متسلط ابن متسلط بتظلم أولا و أخيرا نفسك و تحكم عليها بشيخوختها قبل الأوان. صحيح الراجل اللّي قاعد هِناك قيّد حريتي و فرض علي صرامة في مراقبة الشخصيات ، لكن هذا لا يعني إنو سجني و منعني من الخروج برا النص تماما والدليل إني معاك دي الوقتي ، الحقيقة التي لا تقبل الاخفاء ولا المزايدات هو أنا "راوي الحكايات" الطريق المعبد لنوبل ولا بلاش ؛ لو معمِلتش عقد وئام و سلام مع جميع المتوجين بنوبل منهم المحفوظ بخاصة في الثلاثية و أولاد حارتنا مكانوش يطلوا على نوبل ، يعني لو الروائي ما يعملش عقد سلام معايا زَي ما حصل مع الراجل اللّي قاعد هِناك موش حينفع و موش حيحلم بنوبل خالص شايف حضرتك ، أفتِكِر مرة الدّاني اللّي اسمو مو يان Mo Yan الحرية المطلقة فرحت سائل شخصية عجوز هرم كان قاعد في حديقة عامة فقلتلو :

ــ هل حضرتك بتخطو خطوات ثابتة نحو قبرك؟

فقال : ـــ لا.

و قلتلو : ـــ هل أنت متأكد؟ فرد : ـــ أكثر من متأكد.

و بعد شوية مرّ شاب من أمامي فأعدت عليه نفس السؤال و جاوبني و قال بوثوقية تامة :

ــ أيوة ، وموش عارف بالضبط إمتَ حوصل . و بعد سنتين من هذه النقلة الفنية مع الروائي مو ميان وِصِلت معاه لنوبل ، كان دا عام 1997.

ــ الآن عرفت أنك راوي حكايات حقيقي ؛ العالم بكل شيء ، الراوي من الخلف موش الراوي من الخارج ، يعني موش المزيف أههههه....أههههه.

ــ الله! ، هو راح فين المحفوظ؟ ، دا ساب القهوة ، موش عوايدو ينسى الجريدة .

ــ هذا نذير شؤم و لا شك . مع السلامة أنا ماشي كمان.

ــ رايح على فين؟ ، عالبيت؟

ــ لا أنا راجع عالسجن! ههههه...ههههه


[*] - لهجة مصرية موضوعة بخط داكن يقتضي فهمها فقط قليل من التركيز.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شاهد .. حفل توزيع جوائز مهرجان الإسكندرية السينمائي


.. ليه أم كلثوم ماعملتش أغنية بعد نصر أكتوبر؟..المؤرخ الفني/ مح




.. اتكلم عربي.. إزاي أحفز ابنى لتعلم اللغة العربية لو في مدرسة


.. الفنان أحمد شاكر: كنت مديرا للمسرح القومى فكانت النتيجة .. إ




.. حب الفنان الفلسطيني كامل الباشا للسينما المصرية.. ورأيه في أ