الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الاعلام وتزييف الوعى

جمال عبد العظيم

2019 / 1 / 31
مواضيع وابحاث سياسية


فى منتصف التسعينات من القرن الماضى حكى لى صديق عائد من امريكا ان جمعيات حقوق الانسان الامريكيه اقامت ضجه كبرى ضد مطاعم الوجبات السريعه (هامبورجر) بعد ان لوحظ ان جمهور السينما يغادر قاعات العرض متجها الى مطاعم الهامبورجر ليتناول وجبه مع ان الفيلم لايتضمن اى اشارة او اعلان عن الهامبورجر.ومع تكرار هذا السلوك توصل الباحثون الى ان هناك اعلان خفى يتم دسه بين اكثر مشاهد الفيلم اثاره . وهو يخاطب العقل الباطن فيحدث تاثيرا مثل التنويم المغناطيسى فينساق المتلقى بدون وعى ولا اراده لينفذ ما قد زرع خلسه فى عقله الباطن دون رقابه او فرز من العقل الواعى . والضحيه هنا قد فقد وعيه للحظات تحت تاثير الرساله الخادعه . والمشكله انه لا توجد تشريعات تحمى الجمهور من هذا القهر الفكرى الذى يعد جريمه من المنظور الانسانى وذلك لان النخبه التى تسن القوانين هى نفسها التى تتحكم فى السياسه والاعلام والفن والثقافه وتسيطر على المجتمع وتدير الاقتصاد. ولا يقتصر الامر على اعلانات الوجبات السريعه بل ان القهر الفكرى يمتد ليشمل الرساله الاعلاميه ككل حيث تسعى النخبه الحاكمه الى تطويع الجماهير لاهدافها ومصالحها الخاصه . وبالتضليل الاعلامى تسيطر على مشاعر السخط الاجتماعى وتضمن تاييد الساخطين للنظام الحاكم رغم انه نظام طبقى لا يخدم الا مصالح الاقليه المسيطرة . ولكى يؤدى التضليل الاعلامى دوره بفعاليه لابد له من ادعاء الحياد والايهام بان ما يعرضه هو الواقع بعينه وانه مجرد ناقل للحقيقه وان الحكومه والتعليم والثقافه والاعلام بعيده تماما عن معترك المصالح الاجتماعيه المتصارعه . وانها تمثل الجميع وتعبر عن مصالح كل الطبقات . ويجرى تصوير الفساد والغش والاحتكار وسيطرة راس المال على الحكم على انها ظواهر فرديه استثنائيه ولا تمثل المؤسسه ذاتها او توجه الحكم او الرئاسه .
وعادة ما يركز الاعلام المضلل على التوافه والسلوكيات الفرديه بينما يتجاهل المتغيرات الاجتماعيه الاكثر عموميه واتساعا فيفرد مساحات كبيره لمعاجة قضية قتل ولا يعبأ بافقار عشرات الملايين وقتلهم جوعا ومرضا . ولان وسائل الاعلام كلها مملوكه للنخبه المسيطرة والمستعبدة للشعب فهى تتجاهل الصراع الطبقى لان المناقشه الجاده له ستؤدى الى تعميق بل خلق الرغبه فى مقاومة الظلم الاجتماعى وهكذا يخرج المنتج الاعلامى والثقافى مستهدفا الترفيه والتسليه الجماهيريه التى لا تتبنى اى قضيه اجتماعيه . واذا انفجر الصراع الطبقى لاى سبب من الاسباب فان الميديا تبدا فى انتاج التفاهه والسطحيه تستهدف بها الشباب فى الدرجه الاولى فهم وقود اى تغيير اجتماعى .
ورغم وجود العشرات من وسائل الاعلام الا انها خاليه من اى تنوع فالماده تقريبا واحده والتوجه واحد وهو ما ينفى عن النظام وهم التنوع الديمقراطى او الحزبى فالجميع بعقيده واحده و راى واحد وتوجه ومصلحه واحده وتنعدم فرص الاختيار امام المتلقى . وذلك بسبب التطابق الكامن للمصالح الماديه والايديولوجيه لمالكى وسائل الاعلام .
وفى كتابه "المتلاعبين بالعقول" يقول المؤلف الامريكى هربرت أ شيللر ان هناك تقنيتان يستخدمهما الاعلام لتشكيل الوعى. والتقنيه الاولى هى التجزىء: حيث يلجأ العمل الاعلامى والثقافى القمعى الى تجزىء المشكلات وحصرها فى بؤر بدلا من تناولها بكل ابعادها ككل واحد فالاخبار تتسم بطابع التكرار الالى ( الية طلقات المدفع ) لموضوعات كثيره لا رابط بينها وهو ما ينتهى بتشتيت انتباه المتلقى كما يتم قطع البرامج بصفه مستمره لاذاعة فقرات اعلانيه تسلب المتلقى انتباهه واهتمامه بالمشكله موضوع المناقشه مما يؤدى لاختزال جميع موضوعات البرنامج الى مجرد حوادث غريبه لا معنى لها . وعلى ذلك فان الاعلان فضلا عن وظائفه المعروفه فى الترويج لسلعه ما فانه يوفر خدمه اخرى للمضللين لا تقدر بثمن حيث يختزل قابلية الجمهور لاكتساب اى احساس بالمعنى الكلى للحدث او القضيه او الموضوع المطروح .فاستخدام الاعلان هنا يزيد من التجزىء الحادث اصلا بدونه .واذا نظرت الى طريقة توضيب اى برنامج تليفزيونى او اذاعى ستجد السمه المشتركه بينهم هى التباين الكامل للماده والانكار التام للترابط بين الظواهر الاجتماعيه التى يتناولها الحديث والنموذج المثالى لهذا هو البرامج الحواريه " توك شو" فاذا كانت تذيع فقرة تناقش قضية مصيرية مثل تهديد العدو الاثيوبي بقطع مياه النيل عن مصر فيتم محو اثرها بما يعرض بعد ذلك من اعلانات ونكات ودردشات تعقبها فقرة عن شخصيه مثيره للجدل مثل فنانه ترتدى "هوت شورت" او رئيس نادى رياضى يوزع شتائمه على بعض المعارضين للنظام او مناقشة خناقة وقعت فى مباراة كرة قدم او اخبار اجتماعيه خفيفه. وبهذه المادة التافهه يتوارى كل ما كان قبلها عن مشكلة المياه وهى مشكلة حياه او موت والنتيجه هى فتور الشعور واللامبالاة بالنسبه لاغلب المتابعين . وليس الاعلام وحده هو من يلجأ الى التجزىء فالحقل الثقافى والتعليمى باسره يشجع ويعزز التجزىء الى ذرات وجزئيات ميكرسكوبيه .اما التقنيه الثانيه لتزييف الوعى فهى : فورية المتابعة الاعلامية :
فقد ادى تطور تكنولوجيا الاتصال الى زيادة قدرة اجهزة الاعلام على استقبال اخبار عاجله واحداث انيه مما ادى الى تسارع التدفق الاعلامى غير المترابط . فكما تعطل الاعلانات التركيز وتحول الماده الاعلاميه التى تقطعها الى مادة مبتذلة فان سيل المعلومات والاخبار الخارجة عن الموضوع يزيد من التشتت والاحساس بعدم الاهتمام والسلبية .وترتبط الفورية ارتباطا وثيقا بعملية التجزىء وتشكل احد اسبابه حيث يساعد هذا الطابع الانى اللحظى على تزايد القوة التضليليه لاجهزة الاعلام . ذلك ان الماده الاعلاميه سريعة الزوال ولا تخلف ورائها اى بنيه باقيه او ثابته . فالحدث الاخير يدمر سابقه ويمحوه من الدماغ . كما ان تدافع الاخبار يضعف القدرة على التمييز بين المهم والغير مهم او بين الغث والثمين فالاخبار المتلاحقه السريعه عن تحطم طائره وعن هجوم ارهابى وجريمة اختلاس وعن موجة البرد الشديدة وعن اضراب ما وعن فنانه ترتدى ملابس خليعه ...الخ فى هذا الخضم من الاخبار يتخلى العقل عن عملية الفرز ويتحول الى "قربه مقطوعه" او غربال تصب من خلاله يوميا عشرات التصريحات والاخبار والاحداث معظمها لا اهمية له على الاطلاق . وهكذا ينجح الاعلام فى ضرب القدرة على تركيز الادراك وبلورة المعنى . وينتهى الامر بالاقرار اللاشعورى للمتلقى بعدم القدرة على استيعاب موجات الاحداث المتلاحقه التى تطرق ذهنه . ويتعين عليه دفاعا عن النفس ان يخفض باستمرار درجة اهتمامه وحساسيته للخبر او الحدث . ومن ناحيه اخرى فان طرح صحف الغد ليل اليوم يحيل اخبار اليوم الى بضاعه بائته قبل ان ينتهي يومها . ثم تستانف الحياة رحلتها الى يوم جديد ومجموعه اخرى من الاحداث التى لا رابط بينها . ولاحظ ان الاحداث ذات المغزى تحتاج الى فتره من الزمن لاستيعابها وهو ما لا يتوفر ابدا فى ظل الاستخدام غيرالرشيد لتكنولوجيا الاتصال .
وتنتهى عملية توجيه العقول بتكريس السلبيه الفرديه التى تعوق الفعل وتشل حركة المواطن وهو الهدف النهائى والمقدس لجميع وسائل الاعلام والنظام ككل لان السلبيه تعزز وتؤكد الابقاء على الوضع القائم وتدمر القدرة على الفعل الاجتماعى وتحد من الانجاز الانسانى . ويعد التليفزيون هو الوسيله الاهم فى صناعة التبلد العقلى وتسكين الوعى النقدى .
وفى كتابه المشهد الاعلامى وفضاء الواقع يذكر الخبير الاعلامى التونسى حسن مظفر عدة اساليب للتضليل والتعتيم الاعلامى وهى : 1- اسلوب التكتم التام .. وكان كثير الاستخدام قبل ثورة الاتصالات حيث كان من الممكن ممارسة السيادة الاعلاميه من خلال الرقابه بمختلف اشكالها وفى هذا الاسلوب تعمد السلطات الى منع نشر بعض الاخبار او المواد الاعلاميه والثقافيه . واتذكر الان حدث قديم وهو زيارة الرئيس السادات الى اسرائيل فى نوفمبر 1979 حيث توفى بالسكته القلبيه احد افراد حراسة السادات بمجرد هبوطه من الطائرة لعدم تحمله ان تطأ قدماه ارض العدو الصهيونى واتفقت جميع وكالات الانباء على كتمان الخبر ونجحت جميعا فى ذلك. وهذا الاسلوب لم يعد يفلح او يصمد الان فى عصر السماوات المفتوحه وفقدان الدوله لسيادتها الاعلاميه -2- اسلوب التكتم الجزئى .. حيث تضطر الانظمه احيانا لنشر بعض الجوانب او العناصر الجزئيه لوقائع اكبر او اكثر شمولا كان تنشر معاهدات واتفاقيات سياسيه على حين يجرى التكتم على ملاحق وبروتوكولات تصنف بالسريه لتجنب ردود الافعال والتداعيات . وهذا الاسلوب هو الاكثر استخداما فى العمل الاعلامى وفيه يمثل رئيس التحرير دور حارس البوابه للنظام الحاكم .
3- الاسلوب الانتقائى ..ويقضى هذا الاسلوب بانتقاء الاخبار والتحليلات السياسيه التى توافق اتجاه الطبقه الحاكمه التى تدير الاعلام وتموله . والخدعه هنا هى ان الوسيله الاعلاميه تنشر مواد حقيقيه او موثقه كالتقارير الميدانيه مثلا لكنها تهمل اخبار ومواد اخرى ميدانيه . مثال ذلك فى الانتخابات يمكن صناعة تقارير حقيقيه عن جماهير غفيره تحتفل بفوز احد المرشحين ويمكن تعزيز التقرير بتعليقات محللين كبار او تصريحات لشخصيات سياسيه واعلاميه كبيره . وبنفس القدر يتم التكتم على الاحتجاجات الشعبيه او الحزبيه الواسعه التى تطعن فى نزاهة الانتخابات او تقلل من اهميتها . ان الاسلوب الانتقائى هو اللعبه او التكتيك الاكثر ذكاء وخداعا فى اللعبه السياسيه الاعلاميه على الاطلاق وهو يكاد يسيطر على جميع المواد الاعلاميه اليوميه ويحول الابيض الى اسود والحق الى باطل .
4-اسلوب التاويل والتضليل .. وفى هذا الاسلوب يعمد السياسيون والاعلاميون الى تقديم روايتهم الخاصه للحدث وخلط ذلك بالتفسير الموضوعى للحدث وذلك لقطع الطريق على الروايه الحقيقيه . والخداع والتضليل هنا قد لا ياتى ضمن سرد وقائع الحدث ولكنه قد يتخلل التحليل والتعليق بحيث يجرى اقناع نسبه كبيره من المتلقين بالتحليل المقدم والمزيف . وتصبح الروايه المزيفه هى الروايه الرئيسيه بينما تصبح الروايه الحقيقيه هى الروايه المعارضه او المشككه .
5-اسلوب الاغراق بالمعلومات .. على النقيض من اسلوب التكتم فهذا الاسلوب يعتمد على تشتيت الجمهور وارباكه من خلال دفق كم كبير من المعلومات والصور والبيانات مما يفقد الجمهور القدرة على الاختيار والتمييز. ويعتبر هذا الاسلوب حديث تطور مع التقدم الهائل فى تكنولوجيا الاعلام والاتصالات وهو يستند الى قاعده فى التراث العربى تقول " اذا بدك تحيره خيره " اى ان كثرة الخيارات تؤدى الى الحيرة . وميزة هذا الاسلوب تظهر فى ان كثير من المعلومات لا يمكن اخفائها طول الوقت او عن جميع الناس وان البعض سوف يعلمها وينشرها بطريقته الخاصه و يقدم روايته ولذلك فمن الافضل ان يقدم السياسيون روايتهم اولا فذلك يمنحهم الفرصه لتعديلها وتزيينها او تشويهها .
وفى النهايه فهذه الاساليب هى المسيطرة فى الانظمه المستبده والتى يعيش فيها طبقة واحده تستاثر بكل شىء وتترك الشعب لا يملك حتى ثمن الدواء . وهى سائده ايضا فى الانظمه الديمقراطيه الشكليه كالنظام الامريكى واشباهه من الديمقراطيات المزيفه حيث تقوم على التعدد الحزبى الظاهرى والحقيقه انها انظمه ذات حزب واحد لان احزابها وان تعددت فهى بفكر واحد وتعبر عن الطبقه الحاكمه فقط بينما الديمقراطيه تقوم على تمثيل جميع الطبقات وتواجدها فى المعترك السياسى الحزبى ومن ثم فى البرلمان .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مظاهرات في لندن تطالب بوقف الحرب الإسرائيلية على غزة


.. كاميرا سكاي نيوز عربية تكشف حجم الدمار في بلدة كفرشوبا جنوب




.. نتنياهو أمام قرار مصيري.. اجتياح رفح أو التطبيع مع السعودية


.. الحوثيون يهددون أميركا: أصبحنا قوة إقليمية!! | #التاسعة




.. روسيا تستشرس وزيلينسكي يستغيث.. الباتريوت مفقودة في واشنطن!!