الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عقيدة الصدمة واستراتيجية الكوارث (1)

أحمد بهاء الدين شعبان

2019 / 1 / 31
مواضيع وابحاث سياسية


لم يعدم الغرب وجود مثقفين كبار، ومفكرين عِظام، امتلكوا رؤيةً نزيهةً، وضميرًا حيًّا، وصلابةً كافيةً لتحدّى سطوة الاحتكارات، وغلبة رأس المال، وسيطرة المؤسسات المالية والاقتصادية الكبرى، بإمكانياتها الهائلة، وهيمنتها على مراكز صنع القرار، ومؤسسات الإعلام القادرة على تزييف الصورة، والتشويش على الوعى العام.

فى مواجهة كل هذا لم يترددوا فى الإدلاء بشهاداتهم الصادقة، والإعلان عن رأيهم الحقيقى، فى عمليات الاستغلال والنهب المستمر للثروة، وتركيز رأس المال بأيدى نخبة معدودة من كبار أصحاب رءوس الأموال، ليس على النطاق العالمى، وفيما يخص شعوب وبلدان عالمنا الثالث المغلوبة على أمرها وحسب، وإنما وهو لا يقل أهمية، فيما يخص مواطنى العالم المتقدم نفسه، وهو ما اعترفت بملمح منه وكالة «بلومبرج» الإخبارية الأمريكية (الأهرام ٢١ يناير)، بإعلانها أنه «بعد مرور ١٠ أعوام على الأزمة الاقتصادية (أزمة ٢٠٠٨)، تضاعفت ثروات نُخب «دافوس» (المنتدى الاقتصادى العالمى)، حيث أضافوا إلى ثرواتهم نحو ١٧٥ مليار دولار»، وبلغت رواتب المديرين التنفيذيين «القطط السمان» ٣٠٠ ضعف الموظفين العاديين.

ومع أن ظاهرة تمركز وتوحُّش رأس المال المالى، وخضوعه لهيمنة نفر من كبار الماليين ورجال الأعمال الاحتكاريين، الذين لا يترددون فى شن الحروب، واحتلال الدول، والاعتداء على الشعوب، وفرض سياسات التجويع والإفقار على مئات الملايين من البشر، فى سبيل تعظيم ثرواتهم ومصادر قوتهم، هى ظاهرة ليست بالجديدة وقد خضعت لتشريح وافٍ من الفكر السياسى الماركسى واليسارى، فإن من أهم الكتب الحديثة التى تعالج هذه الظاهرة، بوضوح وشفافية، سفر كبير (نحو ٧٥٠ صفحة)، عنوانه: «عقيدة الصدمة.. صعود رأسمالية الكوارث»، من تأليف «نعومى كلاين»، وهو كتاب وجدت أفكاره ومضامينه صدى كبيرًا، بين المتخصصين والجمهور، وحقق انتشارًا واسعًا، لعمقه وغزارة مادته.

يبدأ الكتاب بآية مقتطفة من «سفر التكوين - ٦»، نصها الموحى كالتالى: "فسدت الأرض أمام الله وامتلأت الأرض ظلمًا، ورأى الله الأرض فإذا هى قد فسدت. إذ كان كل فرد قد أفسد طريقه على الأرض، فقال الله لنوح: نهاية كل بشر قد أتت أمامى لأن الأرض امتلأت ظلمًا منهم، فها أنا مهلكهم مع الأرض".

وهو تصدير كاشف، فالكتاب يُعرّى عمليات الفساد المريع التى تصاحب العمليات الاقتصادية الكبرى، ويشرح كيف تستثمر الطبقات الحاكمة، فى الغرب، والولايات المتحدة على وجه الخصوص، الكوارث المروِّعة التى تضرب الناس، والوقائع المريعة التى تعترض مسار حياتهم، لفرض سياساتها الوحشية التى لا تأبه لآلام المجتمع أو تتأثر بأحزان البشر، لأنَّ ما يهمها فى الأساس هو أرباحها وعوائدها المالية، والمكاسب الخُرافية التى تجنيها من وراء استغلال هذه الكوارث، مستفيدةً من حالة «الصدمة»، الطبيعية أو المصطنعة التى تحيق بمن يتعرض لها، ومن فترة التشتيت، وغياب التركيز، وعدم الانتباه المصاحبة لكل صدمة، من أجل تمرير القرارات الاقتصادية المجحفة بحقوق ملايين البشر من الطبقات الفقيرة ومحدودة الدخل، ومضاعفة ما يمكن نهبه، فى غفلة من الزمن، ودون التقيد بأى التزامات أخلاقية، أو ضوابط قانونية، أو موانع سلوكية.. فالمهم هو الربح ثم الربح ثم الربح، ولتذهب القيم والإنسانية إلى الجحيم!

والمُنَظِّرُ الرئيسى لهذا التوجّه، الذى يُسمّى «حركة الرأسمالية غير المُقيّدة»، هو الاقتصادى «ميلتون فريدمان»، أو «العم ميلتى» كما عُرف بين أتباعه والأصدقاء، وقد عاش طويلًا ورحل فى الرابعة والتسعين من العمر، وهو الذى وصفه عالم الاقتصاد «الليبرالى» الشهير «بول سامو يلسون» باعتباره: "العملاق الذى لم يرق اقتصادى واحد من القرن العشرين إلى أهميته فى تحريك الاقتصاد الأمريكى منذ عام ١٩٤٠ وحتى الآن". (يتبع).

عقيدة الصدمة واستراتيجية الكوارث )2)
أحمد بهاء الدين شعبان
جريدة "الدستور"
30 يناير 2019
تناولنا فى القسم الأول من هذه الإطلالة على الكتاب المهم: "عقيدة الصدمة: صعود رأسمالية الكوارث" لـ"نعومى كلاين"، محتوى هذه الاستراتيجية الإجراميّة، التى تعتنقها الطبقة الرأسمالية العليا، التى تحرّرت من كل قيمة أخلاقيّة، وتحتقر كل المعانى السامية الإنسانية، ولا ترى فى كل كارثة تحل بالمليارات من بنى البشر سوى فرصة لتعظيم القدرة، وتكديس الثروة، هذه "الطبقة الأوليغارشية"، أى الأقليّة المُغلقة، البالغة الثراء، المُتَحَكِّمة فى شئوون المعمورة، والتى بيدها مفاتيح الحل والربط، وصنع القواعد والقوانين، وإصدار القرارات والتعليمات، ليس فى بلادها وحسب، وإنما فى العالم أجمع!.
وقد دقّت "وينى بيانيما"، المديرة التنفيذية لمنظمة "أوكسفام انترناشيونال" غير الحكوميّة ناقوس الخطر، من بلوغ ثروة 26 شخصاً فقط، من كبار كبار أثرياء العالم، مايملكه نصف فقراء المعمورة كلها!، مُحَذِّرَةً من أن"الفجوة التى تتسع بين الأغنياء والفقراء، تنعكس على الفقر، وتضر بالاقتصاد، وتؤجج الغضب فى العالم"، ومُضيفةً أن عدد أصحاب المليارات، (وفى مقدمتهم أغنى رجال العالم: "جيف بيزوس"، رئيس شركة "أمازون"، الذى تبلغ ثروته وحده 112 مليار دولار، أى نحو 2 تريليون جنيه مصرى، وبما يوازى ميزانية مصر تقريباً! )، قد تضاعف منذ الأزمة الماليّة عام 2008، ومشيرةً إلى أن "الأثرياء لا ينعمون بثروة متزايدة فحسب، بل بنسب ضرائب هى الأدنى منذ عقود"!
وعودةٌ إلى كتاب "عقيدة الصدمة" فيقول أن "البيت الأبيض"، اكتظَّ بعد وقوع أحداث سبتمبر 2001 بتلاميذ الاقتصادى الأمريكى "ميلتون فريدمان"، (مُنَظِّرُ هذه العقيدة)، وعلى رأسهم صديق "فريدمان" المُقَرَّب "دونالد رامسفيلد"، (وزير دفاع إدارة بوش)، وبالشخصيات الضالعة فى تجارب الرأسمالية الكارثيّة فى أمريكا اللاتينيّة وأوروبا الشرقيّة، الذين كانوا يُصَلُّون "من أجل وقوع أزمةٍ، بالخشوع نفسه الذى يُصلّى به المزارع من أجل أن تُمطر على أرضه التى تعانى الجفاف، ومثلما المسيحيون الصهاينة من أجل بلوغ الغبطة.. وعندما ضربت الأزمة التى طال انتظارها أدركت هذه الشخصيات أنّ الساعة المنتظرة قد حانت أخيراً"!
وهكذا فإن أتباع "ميلتون فريدمان"، الذين احتلّوا إدارة "جورج بوش" الإبن، والذين تدرَّبوا على الاستغلال المنهجى للحظات الصدمة فى بلدان أخرى، مثل انقلاب الجنرال "بينوشيه" على الرئيس الاشتراكى التشيلى المُنتخب، "سلفادور الليندى"، وجدوا فى الصدمة التى ضربت الشعب الأمريكى والعالم بهجوم 11 سبتمبر"فرصةً أمام الأيديولوجيا التى نشأت فى الجامعات الأمريكية، وتعزَّزت فى مؤسسات واشنطن، كى تعود إلى موطنها"!
واغتنمت إدارة بوش الهلع الذى أثاره الهجوم فى النفوس، ليس فقط لشن "حرب على الإرهاب" ، كما يشرح الكتاب، وإنما لتحقيق خطة أتباع "فريدمان" من "المحافظين الجدد"، والذين "يُطالبون بقيام ثورة اقتصادية فى الولايات المتحدة تتبع نمط المعالجة بالصدمة"، و"لضمان أن تكون هذه الحرب مغامرة هدفها تحقيق أرباح شبه كاملة"، ولتنفيذ عملية خالصة لـ "خصخصة الحكومة" بمجملها، وحيث لا يكون "دور الحكومات فى هذه الحرب التى لا تنتهى، مجرد دور المسئول عن إدارة شبكة من المتعاقدين، بل دور الرأسمالى المستثمر، الواسع الجيب، الذى يُؤّمن المال الكافى لتأسيس هذه الوحدة، وتحويل نفسه إلى أكبر زبون يحتاج إلى خدماتها الجديدة"!
وكما حدث فى تشيلى، على يد زمرة الدكتاتور "بينوشيه" العميل الأمريكى، والذين تتلمذوا على يد "فريدمان" فى مدرسة جامعة شيكاغو، وفى العراق بعد الاحتلال على يد عملاء الـ"CIA"، انطلق المؤمنون بهذه العقيدة، "عقيدة الصدمة"، فى العصف بشعوبهم، والتعامل معها كـ "عدو"، بهدف: "التحكُّم فى إرادة العدو، وبصيرته وإدراكه، لجعله عاجزاً بكل معنى الكلمة عن الفعل ورد الفعل!". (يتبع).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - ما يغيب عن أنصاف الماركسيين
فؤاد النمري ( 2019 / 2 / 2 - 06:17 )
في الخمسينيات كنا نتفجع من أن أرباح شركة فورد للسيارات تصل إلى 400 مليون دولار
اليوم شركة خدمات متوسطة مثل شركات التواصل الإجتماعي تحقق أرباحا تساوي عشرة أضعاف ما كانت تحقق شركة فورد أيام ازدهار النظام الرأسمالي في الخمسينيات

ما نود أن نؤكده لأنصاف الماركسيين هو أن نظام الإنتاج في العالم لم يعد رأسماليا حيث النظام الرأسمالي لا يحقق مثل هذه الأرباح الخيالية ولا يمكن أن يعطي مدير الشركة خمسين ضعفاً من أجور العامل فقانون القيمة الرأسمالية المقدس لا يسمح بذلك

ثمة مائة دالة ودالة على أن النظام الرأسمالي لم يعد موجودا وإولى هذه الدالات هي أن الدولار الحالي وهو ملك العملات لم يعد يساوي أكثر من سنتين من سنتات 1970
ودالة أخرى وهي أن 80% من قوى العمل في أميركا لا تتحول إلى بضائع كما هو النظام الرأسمالي

شرط الماركسي المحيط هو أن يقرأ التاريخ قراءة علمية صحيحة بعيدا عن التهويش والتحريض

اخر الافلام

.. العراق: السجن 15 عاما للمثليين والمتحولين جنسيا بموجب قانون


.. هدنة غزة تسابق اجتياح رفح.. هل تنهي مفاوضات تل أبيب ما عجزت




.. رئيس إقليم كردستان يصل بغداد لبحث ملفات عدة شائكة مع الحكومة


.. ما أبرز المشكلات التي يعاني منها المواطنون في شمال قطاع غزة؟




.. كيف تحولت الضربات في البحر الأحمر لأزمة وضغط على التجارة بال