الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحقيقة القاتلة :قراءة في فيلم صندوق العصفور Bird box 2018

سهير فوزات

2019 / 2 / 2
العولمة وتطورات العالم المعاصر


يبدو الفيلم الجدلي بنظرة سريعة وكأنه يركز على فكرة تقليدية بسيطة صارت مطروحة بكثرة في العالم الغربي، وهي خطر العزلة والأمان الكامن في العيش المشترك.
أحد مشاهده الأولى يدور في مرسم البطلة الفنانة الحامل (ساندرا بولوك) التي تعاني صعوبة في التواصل وتمضي وقتها في مرسمها تتجنب رؤية أي أحد حتى أمها. تحاورها أختها حول لوحة تظهر الكثير من الناس يجمعهم الإطار الخارجي بينما يغوص كل منهم في عالمه وكأن العلاقات بينهم مقطوعة.
يبدأ الفيلم بمشهد أم (نفس البطلة بعد ست سنوات) تحذر طفليها بلهجة صارمة من فتح أعينهما تحت أي ظرف كان والعودة إليها في أي شيء يسمعانه تحضيرا لرحلة حياة أو موت سيقومون بها عبر النهر. لست بصدد نقد فنّي وليس هدفي تسليط الضوء على فيلم يحمل من العنف والأكشن والتشويق ما يجعله مجرد منتج هوليودي نموذجي. الفيلم مأخوذ عن رواية تحمل نفس العنوان، غير مترجمة بعد، لذا سأتحدث عن أفكار وصلتني من خلال مشاهد معينة في الفيلم.
على غلاف الرواية، تحت العنوان الرئيسي، كتب عنوان فرعي (لا تفتح عينيك). وبما أن البصر هو إحدى الحواس الخمس وخصوصيته مرتبطة بما بعد الرؤية، فكما في العربية تحمل (رأى القلبية) معنى (أدرك وفهم ) كذلك يستخدم الفعل في لغات أخرى. لذا نقرأ من تلك الرسالة البسيطة ما هو أعمق منها: إياك أن ترى فالحقيقة اليوم أقبح من أن تحتمل رؤيتها.
بناء على هذه الفكرة تنطرح الأسئلة والأجوبة المتخيلة:
أولا ماذا يحدث لو رأيت؟ ينقسم الأشخاص بحسب طبيعتهم الداخلية وردود فعلهم تجاه المجهول الذي يبصرونه وتجاه الآخرين بين نوعين من الناس: الميتون والأوغاد. هذا ما يصرح به الكاتب في حوار يدور بين البطلة وأحد المختبئين معها ثم يشربان نخب أمل وجود نوع ثالث، ونجد في نهاية الفيلم الأمل وقد تحقق ووجد نوع ثالث هو (العميان).
الميتون هو النوع الذي يحتفظ بفطرته الإنسانية ويهتم بالآخرين ويمد لهم يد العون، هذا النوع تقتله الرؤية، فبعضهم يموت أثناء محاولته إنقاذ الآخرين وبعضهم بمجرد نزع العصابة عن عينيه ما يجعله يرى شيئا غير مرئي لمن حوله يدفع به إلى حزن عميق، يظهر في عينيه مباشرة ويقوده من فوره إلى الانتحار.
ذلك الشيء الذي يراه هو مرآة حسيّة صافية لأحزانه الذّاتية، وهذا ترجمة للتعاطف مع أحزان الآخرين التي نتأثر بها كلما كانت تجربتنا أعمق وحياتنا أقسى.
النوع الآخر الأوغاد، تجعله الرؤية ممسوسا ومجندا لقوة ما-ورائية تحول سلوكه نحو الإجرام ويتوجه بشكل أساسي لإجبار الآخرين على الرؤية وهذا يصبح المبصر الوحيد في عالم أعمى أو معصوب العينين. هنا يعرض الكاتب نموذجين: البشر الوحوش بالفطرة وهؤلاء نراهم فيما بعد يجوبون الأماكن بكل حرية صريحي المظهر وكأنهم هم المنتصرون في هذا العالم دون أن نفهم تماما ما طبيعة انتصارهم وعلى من. والنموذج الثاني هو الذي يرى الحقيقة ويراها رائعة إما لأن حياته خالية من الأحزان أو لأن طبيعته لا تكترث لحزن الآخرين وهو النموذج الخطير المتخفّي الذي يتحول في لحظة إلى قاتل، يجسد هذا النموذج في الفيلم فنان تؤويه المجموعة وتسمح له بدخول المنزل رغم تحذيرات أحد أفرادها فيتحيّن لحظة انشغال الجميع ويجبر أغلبيتهم على النظر فيقضي عليهم قبل أن يلقى حتفه.
السؤال الثاني ماذا نفعل لنحمي أنفسنا؟ إذا كانت الحقيقة قاتلة وإن كنا –حين نراها- عاجزين تماما عن التغيير فالحل –بحسب الفيلم- هو ألا نرى!
العصافير كائنات حساسة للخطر ويشبهها البشر الحساسون والحل الوحيد لها في عالم يكسوه الذعر والحزن والعجز، سجنها في قفصها وسجنهم في (العمى الإرادي).
في رحلتها نحو المجموعة العمياء تواجه الأم أشكالا من الرعب حتى آخر لحظة، وتخاطر بحياة طفليها وهي التي تعرف كأي أم تقليدية أن الرؤية خطرة والفضول -الذي تجسده الفتاة الصغيرة أكثر من الصبي- خطر، ولا تكف عن تكرار تلك العبارة ( لاترفع العصابة عن عينيك).
السؤال الثالث: هل نستطيع العيش بلا بصر؟ في هذه الفكرة يتقاطع الفيلم مع رواية ساراماغو (العمى) لكن بشكل معكوس فبدل أن يصاب الشخص بالعمى يصاب بالرؤية القاتلة واحتماء من تلك الإصابة يختار عصب عينيه وفي الحالتين يفقد الأشخاص حاسة أساسيّة فيخرج العالم من حولهم عن شكله المألوف وتبدأ أسئلة صراع البقاء وأهمية حياة الشخص مقابل حياة من حوله. يأتي الجواب على هذا السؤال بتساؤل قد يبدو غريبا لكنه واقعي: ألا يقضي معظم البشر حياتهم عميانا أو معصوبي الأعين كرها أو طوعا؟ ألا يعيشون في تجمعات بشرية وجدوا فيها مصادفة لأنهم سيكونون خارجها عرضة للخطر؟
في نهاية الفيلم تنجح الأم وطفلاها بالانضمام إلى تجمع عميان بالولادة أو بالاحتماء.
ربما لو وظف الكاتب الطفلين باب خلاص منه الوحش المجهول لمنح العمق المرجو للفكرة، بما أن الطفل يمثل الأمل والفضول والدهشة وبما أن ذاكرته الخالية من الألم تحميه من الموت حزنا دون أن تمنعه فطرته من التعاطف مع الآخرين. لكن الفيلم أكد في قفلته على الفكرة البسيطة التي بدأ بها: الأمان مع القطيع فإياك أن تتمرد أو تحاول اكتشاف ما عجزت عنه بصيرة الأولين، وإن فعلت فالموت هو مصيرك!
ربما هذه هي الحقيقة التي علينا قبولها بكل تسليم وخضوع: حياتنا صارت مجرد سجن لا مكان فيه للفضول. وعلينا أن نعيش كعصفور القفص وكأن هدف الحياة الوحيد هو البقاء لا أكثر، وكأن البشر كلما تقدموا بحضارتهم عادوا إلى بدائيّتهم، لكن بدل أن يكون الخطر من عالم الحيوان يصبح من عالم البشر ومن أشخاص يشبهونهم جسديا لكن يختلفون عنهم فكرا وتكوينا، ويبقى الخوف من الماورائي الذي طوره الإنسان عبر حضارته سيد الموقف والآمر الناهي لشكل حياتهم وتصبح عبارة البقاء للأقوى تحمل تماما معناها الهمجي الذي وصلت إليه: البقاء للأقبح.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -تشاسيف يار-.. مدينة أوكرانية تدفع فاتورة سياسة الأرض المحرو


.. ناشط كويتي يوثق آثار تدمير الاحتلال الإسرائيلي مستشفى ناصر ب




.. مرسل الجزيرة: فشل المفاوضات بين إدارة معهد ماساتشوستس للتقني


.. الرئيس الكولومبي يعلن قطع بلاده العلاقات الدبلوماسية مع إسرا




.. فيديو: صور جوية تظهر مدى الدمار المرعب في تشاسيف يار بأوكران