الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العلاقة المسرحية

أحمد اسماعيل اسماعيل

2006 / 4 / 20
الادب والفن


سيلاحظ من يرصد تاريخ المسرح دور ممارسة الحريات في تشكيل طبيعة هذا الفن الأقدر على التنوير والتثوير، والذي تخشاه كافة الأنظمة حتى أكثرها ديمقراطية- حسب ببتر بروك ، غير أن هذا الراصد سيلاحظ أيضاً ،أن الغياب الدائم للحريات العامة في العديد من البلدان ،لم يستطع أن يلغي على الدوام فاعلية ،أو حضور المسرح لدى شرائح اجتماعية غير قليلة،ولعل سبب ذلك يعود إلى ما يتسم به المسرح من مرونة وحيوية، وما يمتاز به المتلقي من خيال خصب وجامح،جعلا جذوة التواصل المسرحي متقدة منذ انطلاقته الأولى في العصر اليوناني، وحتى بداية القرن السابع عشر الميلادي تقريباً ،الفترة التي بدأ يتعرض فيها المسرح إلى جملة من عمليات تخريب حيوية العلاقة فيه،،وفصل المسرح عن الجمهور،وذلك من خلال فصل عالم الخشبة المتخيل عن عالم جمهور الصالة،وتقسيم عالم الخشبة المتخيل إلى عوالم ، وجمهور المسرح إلى جماهير،والمسرح إلى مسارح ،جاء ذلك،نتيجة تأسيس المسارح الخاصة،وارتفاع أسعار الدخول إليها،واستخدام الكشافات الضوئية التي وضعت على حافة خشبة المسرح الأمامية،إضافة إلى استبدال حفرة المسرح الأمامية بمجموعة مقاعد ، ألزمت شاغليها –المميزين غالباً- برصانة ووقار زائدين ،ولم ينحصر دور هذه العمليات على العلاقة المسرحية أثناء العرض المسرحي فحسب، بل تجاوزتها إلى مدى أبعد، وأوسع،لتشمل جوانب الحياة أو الظاهرة المسرحية .
استمر هذا الطلاق المسرحي مدة ثلاثة قرون تقريباً ،إلى أن جاءت في منتصف القرن العشرين تيارات مسرحية عديدة بمشاريع إحياء العلاقة المسرحية ،وتصحيحها بما يتناسب مع طبيعة الظاهرة المسرحية،والعصر ،فدعت إلى إعادة الاعتبار للمتلقي : الفرد والمجموع ،على حدِّ سواء،ووضع مفاتيح العرض المسرحي في يده ،وذلك بعد أن كان المتلقي في المسرح الطبيعي، وغيره من المسارح، مجرد تابع وعبد لسيادة العرض شبه المطلقة،لا تنتج عملية التقاءهما الدلالات، والقيم المعرفية والجمالية التي تنتجها عادة الظاهرة المسرحية في العرض المسرحي الصحيح، والمتكامل،هذه العلاقة السلبية ،دفعت المسارح التي عطل استبداد العرض فيها دستور المسرح المبني أساساً على مرجعية المتلقي ،إلى فرض هذه الدلالات والقيم على المتلقي دون تفاعل معه ،مكتفية بحضوره المادي فقط .وذلك بهدف الحفاظ على هويتها الفنية ومكانتها السيادية في الظاهرة المسرحية، الأمر الذي دفع بالمسرحيين الجدد،إلى إعمال معاول الهدم في هذا المسرح القمعي،لتأسيس مسرح آخر مبني على المعرفة الدقيقة بالجمهور ،والتعاطف الواعي مع قضاياه وهمومه، وأحلامه،واحترام وجوده المادي والمعنوي:احتراماً غير محدد أو مرتبط بمستواه الاجتماعي، أو الاقتصادي، أو الثقافي،بل بما يليق به كشخصية اعتبارية،ومرجعية أساسية،يرتهن نجاح العرض،والظاهرة المسرحية برمتها في الإقرار بمركزيته.
مركزية عنصر يعتبر عدم الثبات والاستقرار،السمة الأبرز،والعامل الأكثر فعالية، في إثارة قلق المبدع ،وتحريضه على الإبداع ،ومن ثم دفع الجمهور إلى التمازج بالعرض ،ليكتمل الحدث المسرحي،الذي يدرك الجمهور أنه ليس حقيقة ،بل استعارة،يتصل من خلالها الجمهور مع ذات الممثل الحقيقية المشخصة للنص.اتصال لا يقتصر على فترة العرض وحدها، بل يشمل الفترة السابقة،واللاحقة لها،بزمن يطول ،أو يقصر حسب تاريخ ،وطبيعة العلاقة المسرحية التي تربط بين قطبي الظاهرة المسرحية ،وهي طبيعة ذات صلة بطبيعة ثقافة المجتمع،التي ينتمي إليها الفنان الباني لعرضه،والمتلقي القارئ لهذا العرض، وبما يتناسب مع موقع كل منهما في النظام الاجتماعي،أو مستواه المعرفي ،وخاصة لدى المتلقي الفرد ،أو المجموع .
يطول الحديث عن أهمية معرفة المسرح بجمهوره ؛معرفة مدركة لدور هذا السيد الذي منه تنطلق عملية التفاعل المسرحي بمستوياتها المختلفة: فوق الخشبة، وداخل الصالة، وبينهما معاً، وتفاعل آخر مأمول يصعب قياسه :هو تفاعل بين المسرح والمدينة،الأمر الذي جعل التيارات المسرحية الجديدة تولي الجمهور المسرحي - الفردي والجماعي- الاهتمام الزائد ،وتدرس بعناية العوامل المساهمة في تشكيل طبيعة التلقي لديه مثل:الموقع الجغرافي للمسرح، وتصميمه الهندسي، داخلياً وخارجياً،والإضاءة العامة ،ونوعية الديكور الذي يشاهده الجمهور أثناء دخوله إلى مبنى المسرح ،إضافة لعامل الزمن،من صيف ،أو شتاء، أو ربيع، ومن ليل،أو نهار، وقد شملت عناية هذه التيارات كل المجالات والجوانب المسرحية:بدءاً بالعرض ومتمماته،وانتهاءً بالنص والتنظير،وإن بمستويات متفاوتة، تراوحت بين الجزئية، والشمولية،أو العمق،والسطحية. وتعتبر تجربة (فيليبو مارتيني) من التجارب الرائدة في هذا الاتجاه،فقد سعى هذا المخرج إلى استخدام جملة من المثيرات المنوعة والغريبة،داخل الصالة وخارجها،من أجل إثارة اهتمام،ودهشة الجمهور،وتفعيل حضوره:كوضع البودرة المثيرة للعطس والحكة على مقاعد المتفرجين،أو طلاء المقاعد بمواد لاصقة، أو بيع المقعد الواحد لأكثر من متفرج،وذلك في سعي منه لإزاحة الحائط الرابع، الذي كرس وجوده المسرح الطبيعي،واستبداله بمسرح يكتسب مقوماته من شكل الملهى ،بغية إحداث التجاوب الفعال ،والمباشر بين المؤدين،والمتفرجين،على غرار مسرح المنوعات الذي يخلق مناخاً غير مجزأ،يكون قبول العرض فيه،أو رفضه،صريحاً،ومباشراً،وذلك على النقيض من المسرح التقليدي الذي لا يفعل فيه الجمهور شيئاً سوى التصفيق بعد انتهاء العرض المسرحي.
وتعتبر تجربة المسرحي الروسي ميرخولد التي تلت هذه التجربة ذات أهمية أكثر عمقاً وشمولاً وأبعد تأثيراً،لما امتازت به من أصالة،وريادة تجاوزت مجرد الدعوة إلى الاهتمام بالجمهور،أو إثارته أثناء العرض فقط ،إلى مرام أبعد، تهدف إلى تحرير هذا الشريك من عبودية كان المسرح الطبيعي يمارس جانباً منها مع جمهوره.
ففي عصر التحولات المجتمعية والعالمية التي بدأت تشهدها بلاده والعالم ،دعا ميرخولد إلى الأخذ، أكثر فأكثر، باهتمامات المتفرج ،ففي عرضه لمسرحية (حفلة تنكرية ) للكاتب الروسي ليرمنتوف ،قدم زخارف المسرح الطبيعي بشكل مبالغ فيها، بحيث جاءت أكبر قليلاً من حجمها الطبيعي،كما ترك قاعة المشاهدة مضاءة أثناء العرض، ووضع مرايا طويلة متاخمة لفتحة البرواز المسرحي، وذلك لإحداث الأثر المطلوب في المتفرج،بعد أن تخلى عن الأساليب المكرسة للإيهام المسرحي ،متوسلاً مكونات مرئية في المنظر المسرحي تحمل دلالات سياسية مثل : اللافتات ،والمنشورات،ودس بعض الممثلين وسط الجمهور خفية لتوجيه انفعالاته،وردود أفعاله، وفي نهاية العرض كان ميرخولد يدعو الجمهور إلى الصعود إلى الخشبة،والاختلاط بالممثلين،وقد كانت نتيجة هذه المحاولات إقبالاً جماهيرياً كبيراً،دفعه إلى تحليل تأثير أعماله على الجمهور من خلال شفرة خاصة ترصد استجابته أثناء العرض،على غرار المنحى التالي : سكون. ضوضاء. ضوضاء صاخبة. قراءة جماعية .غناء. سعال .طرق أو قرع شغب . تعجب. بكاء. ضحك .تنهد. حركة ونشاط. تصفيق.صفير.صفير استهجان. هسيس. مغادرة المسرح. ترك المقاعد . قذف الأشياء.الصعود على الخشبة.
وفي تجربة مسرحية أخرى أكثر شمولاً، سعى المسرحي الألماني برتولد بريخت،إلى هدم الأنماط التقليدية التي تربط بين قطبي الظاهرة المسرحية،وبناء علاقة جديدة – نقدية وغير انفعالية – بينهما ،وقد أولى بريخت في كل نتاجه المسرحي الجمهور الدور الأبرز، وأعاد بناء العلاقة بين الإنتاج والتلقي ، دون الوقوع في أسر الخصوصية السياسية الضيقة التي كان قد وقع فيها سلفه ومواطنه المسرحي الألماني ايرفين بيسكاتور، الذي استفاد بريخت من تجربته وإنجازاته في تفعيل العلاقة المسرحية،وطورها من مجرد تحريك الجمهور المسرحي بطرق وأساليب عاطفية، وجمالية صرف، إلى مجالات أوسع، تنطلق من الفعل الدرامي بأسلوب يعتمد التفكير النقدي أساساً له،دون إلغاء ،أو تهميش للجانب العاطفي ،والجمالي،وذلك بهدف إيقاظ وعي المتلقي ،ومن ثم تحريضه على اتخاذ الموقف المناسب من الحدث ،والقضية المعروضة أمامه، ويتم ذلك من خلال عملية إحلال التغريب محل الإيهام المسرحي،التي تنهي حالة اندماج المتفرج بعالم الشخوص المسرحية، وتماهي الممثل بالشخصية التي يؤديها ،وذلك بخلق مسافة ،أو بعد بينهما :بين الممثل والشخصية المسرحية من جهة ،وبين المتفرج والممثل ،أو المتفرج والشخصية المسرحية من جهة أخرى،إلى درجة تسمح بتأمل الحدث ،ومن ثم المساهمة فيه مساهمة فكرية فاعلة مشحونة بالعاطفة، تحقق التفاعل الإيجابي بين قطبي الظاهرة المسرحية، هدف مسرح بريخت الذي تطلب منه نزع الوظيفة الإيهامية عن الوسائل البصرية، والسمعية، مثل: الديكور، والأزياء، والموسيقى، والرقص ،والإضاءة ،وذلك من خلال عملية الفصل بينها واستبدال دورها التقليدي في المسرح، بأخر من خلال تقنية التغريب، بخلق جو اللامألوف في المسرحية،يتوسل التأمل والتفكير النقدي في تفسير الأحداث ،بدل الإيهام والانفعال.
وفي تجربة أخرى سعى المسرحي الفرنسي أنتونين ارتو إلى ما أسماه بمسرح المؤثرات،وهو مسرح يعيد عقد الصلة بين الخشبة والجمهور، بشكل يجعل الجمهور يرى حياته بخصوصيتها في العرض ،ومن ثم السماح له الالتقاء بالعرض ،إلى درجة التقاء أنفاسه ونبضاته بأنفاس،ونبضات المؤدين،بل بكل عناصر العرض، وقد قال ارتو في طرحه للمسرح الذي يريد (لن يستعيد المسرح نفسه ونبضاته مرة أخرى، ولن يصبح قادراً على تشكيل وسائط إيهامية، ما لم يمد جمهوره بخلاصة مقطرة للأحلام، تنبثق منها الرغبات،والنزعات الدفينة،وطاقات العنف والوحشية من أعماق النفس الداخلية ، لا من الحيل الإيهامية )
ويهدف مسرح أرتو،مسرح القسوة، إلى عكس الوضع الإنساني في صورة صادقة، تعبر عن قسوة الحياة بطريقة تحول دون محاكاة المتفرج لها، وتسعى إلى تطهيره مما يترسب في داخله من أحاسيس، وعواطف مرتبطة بهذه القسوة المتفشية في العالم ، وفي داخله أيضاً. وقد كان لهذه الأفكار ،والآراء، تأثيرها في توجه مسرحيون بارزون أمثال :غروتوفسكي،وبيتر بروك نحو البحث عن صيغة مسرحية تنبثق من المستوى الداخلي للنفس ،وتتوجه إليه.
وفي تجربة المسرح الفقير يؤكد رائده المسرحي البولوني جيرزي غروتوفسكي مقدماً تصوره لطبيعة هذا المسرح قائلاً: (يقع اهتمامنا على المتفرج الذي يستشعر حاجات روحية حقيقية، والذي يرغب حقاً، من خلال مواجتهه للنص ،في تحليل ذاته ) ومن جانبه يضع المخرج المسرحي الإنكليزي بيتر بروك الجمهور في قلب التجربة المسرحية،مؤكداً على جدلية العلاقة المسرحية التي تشكل جوهر الظاهرة المسرحية،إذ يقول:(إن ظاهرة المسرح لن توجد إلا حين يحدث لقاء كيمائي بين ما أعدته جماعة من الناس، وهو غير مكتمل، في علاقة مع جماعة أخرى في دائرة أوسع،موجودة باعتبارها من المتفرجين، حين يحدث هذا التمازج، فإن هذا حدث مسرحي ، أما إذا لم يحدث هذا التمازج ،فليس هناك حدث ) ويوصي بروك أهل المسرح بالاحترام الفائق للجمهور، والتعلم منه،أياً كان هذا الجمهور،ومهما كان مستواه الاجتماعي والمعرفي والحضاري،الذي يكون أفق توقعه، ويحدد درجة تجاوبه مع العرض،ويذهب بروك في تركيزه على دور الجمهور، إلى درجة ربطه معرفة أهل المسرح بمعرفتهم الحقيقية بالجمهور.
وفي السياق نفسه يجدر بنا أن نذكر تجربة مسرحية أخرى تجاوز تمردها المسرح الطبيعي، أو الأرسطي، إلى تمرد ورفض لتجارب المسرح اللاتقليدي نفسها،التي اكتفينا بذكر بعضها، إنها تجربة مسرح المقهورين التي انطلقت من مسرح الشعب في بيرو بأمريكا اللاتينية،سنة 1973 ضمن حملة قومية لمحو أمية الشعب في مدة زمنية أقصاها أربع سنوات،استخدم المسرح في خدمة هذا الهدف، ليس كوسيلة لتعليم الشعب لغة البلاد قراءة وكتابة فحسب، بل ولإكسابهم لغة فنية يمكنهم من خلالها أن يعبروا عن أنفسهم بطريقة جديدة ،ستمدهم بما هو جديد ،وهام على مستوى الوعي والإدراك،وقد قدم هذا المسرح نماذج مسرحية عديدة كان عمادها الوحيد هو الجمهور،ففي مسرح التأليف الفوري،أحد هذه التجارب، يقوم الجمهور باقتراح المشهد،فيتم تجسيده من قبل الممثلين،وفي لحظة الأزمة يوقف المشهد المسرحي ليقترح الجمهور نفسه حلاً لهذه الأزمة، أو المشهد المقترح. وفي تجربة أخرى هي مسرح الصورة الرمزية ، تتحول أجساد الممثلين إلى مادة أشبه بالصلصال،ويتحول المتفرج إلى نحات يعبر من خلال أجساد الممثلين عن أفكاره،ومشاعره تجاه المشكلة التي يود طرحها،لتناقش بعدها وتعدل من قبل الجميع،الجمهور والممثلين معاً،وقد قدم مسرح المقهورين تجارب ونماذج أخرى غير هاتين التجربتين،مثل مسرح الجريدة،ومسرح حلبة النقاش،والمسرح المتخفي ،والمسرح الجدلي،وصندوق الدنيا، التي ركزت جميعها على طاقات المتفرج الفاعل، وغير المنفصل عن التجربة المسرحية المعروضة أمامه،وهي تجارب يقول عنها أصحابها :إن تمردها لا يقتصر على المسرح الأرسطي الذي سلب الجمهور سلطته، وقوته لصالح الشخصيات الدرامية التي تقوم بالفعل والتفكير بدلاً عنه،وهو توجه،يؤكد أصحاب هذا المسرح، إذ يخلص الجمهور من مشاعر الخوف، يخلصها في الوقت نفسه من إمكانية التغيير،ويشمل هذا التمرد المسرح البريشتي أيضاً،الذي يرى فيه أوجستو بول- أحد رواد مسرح المقهورين- إنه لا يختلف كثيراً عن المسرح الأرسطي ،فهو مسرح،حسب بول: يقوم بتوجيه الجمهور،ولكن القدرة على الفعل تبقى في أيدي الشخصيات الدرامية،ولذلك يرى أن بويطيقيا المقهورين هي في جوهرها بويطيقيا التحرير: فالمتفرج في هذا المسرح يحرر نفسه، يقوم بالتفكير والفعل بنفسه، إن المسرح هو الفعل هنا،ويؤكد بول واصفاً مسرح الشعب:( إنه قد لا يكون ثورياً في حدِّ ذاته، ولكنه بدون شك بروفة تحضيرية للثورة)
وفي تجربة أخرى عالج رواد المسرح العربي العلاقة المسرحية الحديثة العهد في مجتمعهم بأسلوب يأخذ بعين الاعتبار طبيعة الجمهور العربي بالدرجة الأساس،ويتجلى ذلك من خلال وصف رائد المسرح العربي –مارون نقاش- للفن المسرحي المستجلب من بلاد الغرب حين قال عنه( ذهب إفرنجي مسبوك في قالب عربي)في تأكيد منه على ضرورة صياغة هذا الفن المستورد في قوالب،وأشكال منسجمة والذائقة العربية ،التي تستهويها الأغاني والرقصات،والحكايات الشعبية، جعل النقاش ،ومن جاء بعده من الرواد الأوائل في الشام،ومصر،يطعمون بها الذهب الإفرنجي ،بهدف تمتين العلاقة المسرحية بين المسرح والجمهور،وذلك بمقادير بلغت فيها هذه التطعيمات من الكثرة، درجة أساءت فيها إلى طبيعة هذا الذهب،دون أن يحقق ذلك الهدف المراد منه في تأسيس، وتمتين علاقة مسرحية دائمة،بل خلف لدى هؤلاء الرواد خيبة تكررت في تجربة غالبية المسرحيين اللاحقين،أمثال : يوسف إدريس، وتوفيق الحكيم ،وروجيه عساف ،وسعد الله ونوس،وآخرون غيرهم ، وذلك رغم النجاح الذي حظيت به تجارب هؤلاء المسرحيين في ستينيات القرن الفائت خاصة،وهي المرحلة التي شهدت فيها الساحة العربية،والمنطقة برمتها،موجة قوية من الغليان، شملت مختلف المجالات الحياتية،المادية وغير المادية ،لم يكن فن المسرح بمنأى عنها، استطاعت خلالها تجاربه الرائدة،وبياناته الهامة ،أن ترسم ملامح أبجدية مسرحية سليمة،كان بإمكان التجارب المسرحية اللاحقة الاستفادة منها،والتأسيس للغة مسرحية أصيلة،يكتب بها المبدع نتاجه، ويقرأ من خلالها المتلقي هذا النتاج ،لولا حالات صمت المبدعين و تراجع التجارب المسرحية المسكونة بالهم الإبداعي ،والفكري،التي بدأت الساحة الفنية تشهده منذ منتصف العقد السابع من القرن الفائت تقريباً،لصالح سوبر ماركات مسرحية تنحصر غايتها،في عرض ما هو مبهر،أو متقن شكلياً ،دون رؤية فكرية، أو فنية، جديدة وجادة،تدعو إلى تجاوز ما هو سطحي،وساكن ومعيق،ومسيء في حياة الجمهور الاجتماعية، والفكرية ،والسياسية ،وقد ترافق ذلك,وتزامن، مع بروز،وتسيد شرائح،وطبقات اجتماعية طفيلية،زئبقية، متوحشة.
في هذا المسرح الذي بدأ ت له الغلبة في الحياة المسرحية،مسرح تقع الكلمة الفعل فيه، والمعرفة العميقة والمجددة، خارج دائرة الاهتمام،أو على الهامش،كان من الطبيعي أن يتخلف هذا (الفن) عن مواكبة مستجدات العصر، والمتغيرات المتسارعة،التي تطرح أجنده جديدة متناغمة أحياناً ومترافقة أحياناً أخرى، مع العصر وإيقاعه، ونبض الشارع،وحياة الناس ،بصورة عاصفة و مستمرة، بدأت تفعل فعلها في وعي وروح المتلقي،شريك المسرح وتوأمه الوحيد، وتنعكس بالضرورة على أفق توقعه في المسرح، وغير المسرح على حد سواء،ومن ثم على نوعية تفاعله، أو تجاوبه ،وطبيعة علاقته مع المسرح.
ففي الوقت الذي بدأ المسرح المجرد من الهم الإبداعي، والفكري بتقديم ما هو مزيف، وسطحي في الحياة بهدف كسب رضى شرائح واسعة من الجمهور البسيط المتابع للعرض ،عجز المسرح الذي يدعي انشغاله بالهم الإبداعي ،والحياتي ،عن تحقيق هذه الغاية،بهذا القدر،أو الشكل ،أو ذاك بل كرست تجاربه الأخيرة حالة من القطيعة الحادة مع الشريك، وذلك رغم التجديد الفني الذي حققته بعض هذه التجارب .لا شك أن لهذه الحالة أسبابها ، يتقدمها العامل السياسي بالدرجة الأساس،لمركزيته ومحوريته في حياة المجتمع،وحيازته مفاتيح الحريات في الحياة العامة، إضافة لدور العوامل الأخرى : الاجتماعية،والاقتصادية،والثقافية،والتربوية،،التي اصطبغت بالطابع الاستهلاكي،الطفيلي،إلى حد شمل،حتى الجوانب غير المادية ،من علم ،وقيم ،وأخلاق، وسلوكيات، وفن .
يطول الحديث في بحث تفاصيل هذه الأسباب، وهي أسباب لم يعد تجاهلها،أو إنكارها،يؤدي إلا إلى مضاعفتها، وتجذرها، غير أن ما يهم أهل المسرح في هذا المجال، هو معرفة، وبحث الأسباب المتعلقة بهم مباشرة،والتي تجسدت،بداية، بطرد صاحب الكلمة من رحاب المسرح، الأمر الذي أفقد المشهد المسرحي عمقه،والعرض جزءاً من جمالياته ،واختزال التجربة المسرحية إلى مجرد عرض،مكتفياً في مجال الجانب الفكري،على معالجة مواضيع عامة،من حرب ،واضطهاد ،وصراعات طبقية،وغير طبقية، واستبداد ،وقضايا إنسانية غير معبرة،ومنسجمة،مع ما هو - الآن وهنا- مفتاح التواصل المسرحي الحي، ناهيك عما تثيره القضايا العامة التي يتم التعامل معها بتجرد ،من مشاعر القلق،والتوتر الغامض لدى الجمهور المتلقي، الأمر الذي يمنعه من التفاعل الإيجابي مع العرض،وعدم معاودة حضور العرض مرة ثانية، أو ثالثة، فالمسرح كالموسيقى، فن يكتسب مشروعيته ونجاحه من تجاوب المتلقي المباشر معه،وهو فعل يتم حين يلامس هذا الفن مشاعر، وأحاسيس المتلقي الخاصة ، ويثير تفكيره،ويطرح جوانب من معاناته، هذه المعاناة التي دأبت الفرق الكوميدية الهابطة على إثارتها بجرأة مزعومة، لتستقطب بها العامة،وتصطاد البسطاء، يساعدها في ذلك وجود نجم ،أو نجمة، أو دغدغة مشاعر جنسية مسكوت عنها ،تكون نتيجتها معالجة ساذجة، ومشوهة،بأسلوب كوميدي ،يفرج عن كروب المتلقي، ويطهره من شحنات معاناته الطويلة،تمنحه في النهاية،إضافة للتسلية المجانية،إحساساً مريحاً بالنصر على المضحوك منه في العرض،الذي قد لا يجرأ المتلقي في الواقع على مجرد الابتسام في حضرته، وقد تمكنت أمثال هذه الفرق اللامسرحية من أن تنشر لونها، ورائحتها في الجسد الاجتماعي،وحتى الثقافي،على حساب لون ورائحة الأزهار المسرحية الحقيقية،التي بدأت تذبل وتجف.
قد يكون من المفيد،مسرحياً ،ربط هذه التمظهرات السلبية للأزمة،بتخلي المسرح عن شريكه، وتوأمه الجمهور،واستبداله بشريك آخر هو المؤسسة،التي دجنته في حظيرتها،وروضته،نازعة عنه كل ما يتسم به من تمرد، وجموح ،واستشراف، ليصبح فناً أليفاً، ساكناً ،مسالماً ، وتبريرياً،الأمر الذي أدى به إلى فن يستنسخ عروضه الجيدة ،أو المتقنة الصنع، وغير الجيدة أيضاً،مسرح لا يثير قضية جوهرية وملحة: فكرية ،أو سياسية ،أو اجتماعية ،أو حتى فنية،لا تؤتي القضايا الإنسانية الكبرى التي يتناولها في عروضه ،رغم أهميتها،ثمارها المرجوة ،بل تتحول،وبسبب أسلوب تناولها العام،والمجرد، إلى مجرد حكايات شبيهة ب(حكايات الشعوب)رغم محاولات البعض الجادة في تطعيم هذه الحكايات بانتقادات تتناول ،أو تشير بطرف خفي، أو مبهم، بعض ما هو سائد، أو متوار في المجتمع، من قبح،أو قهر، أو جمود ،سرعان ما تتحول هذه الانتقادات بسبب إبهامها إلى فقاعات في فضاء المسرح ، تستثمرها المؤسسة الراعية ،أو السلطة السائدة ،في كثير من الأحيان ،الاستثمار المناسب ،والمفيد لها.
لا شك أن طبيعة علاقة المسرح بالمؤسسة،رسمية كانت هذه المؤسسة،أم غير رسمية،تعود بالدرجة الأساس إلى طبيعة المؤسسة الداعمة،البيروقراطية،أو الاستبدادية،التي غالباً ما تستعبد الجمهور،أو تستبعده عن دوره المركزي،والديمقراطية، التي كان لدعمها فن المسرح،ورعايتها له، في بلاد الإغريق قديماً،وفي إنكلترا،وفرنسا عصر النهضة، وفي بلاد أخرى في العصور اللاحقة، أكبر الأثر على تطور المسرح،واستمراره،مما يجعل نهوض المسرح،وعافيته،مرتبطاً ليس باستقلاليته التامة،رغم أهمية ذلك مستقبلاً،بقدر استقلاليته ،راهناً، عن المؤسسة التي تعامله كوصي يستعبد ه ،وينفرد به بمعزل عن شريكه الأساسي،لاستخدامه وسيلة دعاية ،أو مجرد نشاط كما هو حاصل لدى غالبية مؤسساتنا،التي تضيف إلى سجلها،بممارستها الوصاية على المسرح،خطيئة كبرى لا يمكن محوها .
قد تكون هذه المطالبة ضرباً من الجهل،جهل بالواقع من جهة،حيث هيمنة البيروقراطية في المؤسسات،وجهل بالعصر من جهة أخرى، حيث سيادة الصورة في هذا العصر،سيادة لم تقتصر على مجال بعينه ،بل شملت المجالات الحياتية الأخرى،التربوية،والإعلامية،والعلمية،والفنية..
وغيرها، تجاوزت الصورة فيه مجرد دور الوسيط ،إلى دور آخر تساهم به في تشكيل وعي وعقل المتلقي،وذلك من خلال التفكير البصري، الأكثر ارتباطاً بالإبداع والمستقبل الفاعل،والحر،والإنساني،والمختلف مع توجه دور المؤسسة الوصائي،ونهج المخرج المتفرد والذي تبناه المسرح التجريبي ،الأمر الذي اكتسب في مسرحنا الوليد،ولدى مجتمعنا الخام مسرحياً، سمة،أو صفة أخرى غير الجرأة.
لا شك أن الدخول في عصر الصورة،وثورة المعلومات،مسرحياً،ضرورة أكثر من واجبة،شريطة أن لا يرتبط هذا الدخول باستخدام نفايات هذا العصر،وآثاره السلبية،المتمثلة بكل ما هو سطحي،ومبتذل،و آني،تحتل الكلمة فيه دوراً ثانوياً،ويفقد الجمهور سيادته، وذلك نتيجة جهل،أو تجاهل إمكانيات الصورة، وطرائق استخدام المعلومة الاستخدام الأمثل،الذي سيساهم امتلاكها في تحرير المتفرج من عبودية العرض،والمسرح من تبعية المؤسسة البيروقراطية .
غير أن هذا العصر،لم يمنح المتفرج المتحرر،السيادة المطلقة في المسرح،والتي كانت قد أورثت شرائح واسعة من الجمهور، كسلاً فكرياً،ومزاجية غير مستقرة.
الأمر الذي يدفعنا،في ضوء ذلك ،إلى إعادة النظر في دور الجمهور المعاصر في عملية التلقي،الذي لم يعد يقتصر على حضور العرض، لمجرد المشاهدة،والاستمتاع،وحتى التعلم،بل يتعدى ذلك إلى فاعلية إيجابية،مبنية على امتلاك آلية تلقي صحيحة،وبناءة،يساعد من خلالها الجمهور مسرحه،بدءاً باختياره الواعي،وليس انتهاءً بتشجيعه،ودعمه.




المراجع :

1- جمهور المسرح –نحو نظرية في الإنتاج والتلقي المسرحيين – تأليف : سوزان بينيت –
ترجمة : سامح فكري .مركز الدراسات والترجمة بأكاديمية الفنون –مراجعة: أ.د . نهاد
صليحة . مطابع المجلس الأعلى للآثار –مصر –ط2
2 – النقطة المتحولة: أربعون عاماً في استكشاف المسرح –تأليف : بيتر بروك – ترجمة :
فاروق عبد القادر-سلسلة عالم المعرفة-الكويت- العدد 154 – أكتوبر- سنة 1991
3 – نحو مسرح فقير –جيرزي جروتوفسكي –ترجمة وتقديم :د . سمير سرحان . مكتبة
المسرح _منشورات مركز الشارقة للإبداع الفكري .بدون تاريخ.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما


.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا




.. الذكاء الاصطناعي يهدد صناعة السينما


.. الفنانة السودانية هند الطاهر: -قلبي مع كل أم سودانية وطفل في




.. من الكويت بروفسور بالهندسة الكيميائية والبيئية يقف لأول مرة