الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فيديريكو غارثيا لوركا وثقافة الموت

محمد عبد الرضا شياع

2006 / 4 / 20
الادب والفن


يظلّ موضوع الموت من التيمات التي أغنت الإبداع اللوركي, بحيث إذا أراد الشاعر الإسباني فيديريكو غارثيا لوركا (_1898 : Federico Garcia Lorca1936) أن يكتب شعراً من أجل الحياة فلا بد لذلك الشعر من أن يحمل بصمات الموت, وإذا كان غيره يبحث عنه في كتب الفلسفة والفكر، فهو يدركه في محيطه الخارجي: في أعراس بلاده وأفراحها قبل أحزانها وأتراحها, فلوركا ينتمي إلى "ثقافة الموت" مثلما يرى بيدرو ساليناس Pedro Salinas. لقد تناول الكثير من كتّاب العالم فكرة الموت في حياة الشعب الإسباني.ويقدم ساليناس نموذجاً من هؤلاء ألا وهو الكاتب الإنجليزي هافيلوك أليس H.Elisالذي يرى أنّ الموت جزء من المكون الموضوعي للمزاج الأخلاقي للشعب الإسباني, فيقول: " لا يمكن إعطاء تفسير سطحي أو متطرف حول هذه الفكرة عن الموت, وإنّما ينبغي أن ينظر إليها على أنّها ضرب من عبادة الموت, ولا يمكن أيضاً أن تبنى على أنّها استخفاف ولا مبالاة وإنكار للحياة، ولكن عكس ذلك تماماً، فإنّه حين يمنحنا قلق الموت يكثف من قلق الحياة لدينا بما يجعله أكثر حدة ".فالشعب الإسباني تواق لفعل الموت، وهو ما تعبّر عنه رسومه ولوحاته, تماثيله ونحته، وفي أكثر معالمه الحضارية عمراناً تتجلى فكرة الموت, " إنّ أكثر المعالم المعمارية طابعاً إسبانياً هو دير الأسكوريال الذي يتضمن مقر ملوك إسبانيا وأضرحتهم وقد عرف باسم قصر الموت ".من هنا يمكن القول: إنّ التقاليد الدينية والأخلاقية للشعب الإسباني تحفّز فناني إسبانيا على توأمة الحياة والموت في أعمالهم، وحتى لدى أقل فنانيها ميولاً دينية. فالرسام باليثكيت Valezquez لم يُعرف كثيراً باهتمامه باللوحات الدينية، "ولكن أحسن ما يرسم لوحة تتخذ موضوعها من المسيح ساعات احتضاره, المسيح يصلب. فهل هي لوحة إنسان يموت ؟, كلا ولكنّها لوحة حياة خالدة تحققت في إرادة الموت.. هذا الموت هو انتصار الحياة ".تظلّ مصارعة الثيران ذلك الحفل البهيج الذي تحضر قداسه الحياة المغلّفة بأشباح الموت. بل الموت هو الذي يضفي على طابعها الاحتفالي معالم البهجة والألق. حيث تتوقف قلوب المتفرجين عن النبض لحظة اللقاء بين المصارع والثور اللذين يحمل كلّ منهما رسالة الموت. فلم يَنْشّد الحاضرون إلى تلك الحركات الراقصة التي تتزين بها أجساد المصارعين، ولا لقوة الموت المتحركة التي يحملها قرنا الثور وحسب، ولكن "يشعر المشاهدون _على وعي أو غير وعي_ أنّه عندما يتحرك المصارع ويقف في مواجهة الثور, عندما يكون الاثنان منخرطين في مرحلة من الصراع, يبدو حضور الثالث اللامنظور ويلزمهم بالنظر إلى المباراة بتوتر شديد. أعني به حضور الموت". إنّ لحظة اللقاء بين الاثنين كأنّها تلك اللحظة التي كان يقف فيها رينيريه ريلكة مرددًا: " يا إلهي لتمنح كلّ إنسان الموت الذي يستحق". ذلك الموت الذي أبى إلا أن يصوب رمحه القاتل إلى قلب أغناثيو سانجيث ميخياسIgnacio Sanchez Mejillas الذي أصاب في الآن نفسه قلب صديقه الحميم فيديريكو, حيث كان ميخياس من ألمع مصارعي الثيران الذين أحبّهم لوركا. وقد أغنى ميخياس, بسقوطه تحت قرني الثور, أغنى الحياة بفعل الموت. شأنه شأن " كلّ الناس الذين يبحثون عن الموت عن طريق المجازفة والمخاطرة بحياتهم. فإنّما يفعلون ذلك لأنّهم مغمورون بفيض الحياة. إنّهم يتلقون تحفيزاً وتنشيطاً من حضور الموت".هكذا كان لوركا مشدوهاً بفكرة الموت التي يرى الحياة من خلالها. وكان موت صديقه المصارع ميخياس جرحاً نازفاً على جسد القصيدة, فكانت " بكائية إغناثيو سانجيث ميخياس" " " Llanto por Ignacio Sanchez Mejillasمن المطولات اللوركية اللافتة التي جسّد فيها الشاعر"صراعاً بين الحياة والموت. كما لو كان يمارس رقصة طقوسية بين كبرياء المصارع, وفيض حيويته الغامر, والظلّ البارد للغياب أي الموت, بينما كلّ منهما يزيد من قامة الآخر, ويعززها ويضخم من غوامض أسرارهما وعوالهما المحجبة". ونقتطف, هنا, بعضاً من أبيات هذه البكائية الموحية برقصة الموت المحمول على أكتاف المصارع:

ما أعظمه مصارعاً في الساحة!

ما أعظمه جبلياً في الجبل

!ما أرقه مع السنابل

!ما أشده مع المهاميز

!ما ألطفه مع الندى!ما أبهره في المهرجان!

ما أهيبه مع آخ

ر!حراب العتمة!

بيد أنّه نام إلى الأبد

.الطحالب والأعشاب

تفتح بأصابع ثابتةزهرة جمجمته

.ودمه يسيل منشداً:

منشداً عبر المستنقعات والمروج

منزلقاً على قرون مشلولة.

مترنحاً بلا روح في الضبابمتعثراً بألف زفرة.تشي هذه الأبيات بثنائية الصراع بين الحياة والموت، والتي بلغت أوجها في هذه البكائية التي بلغ فيها الشاعر"درجة قصوى من النجاح". هذا الشاعر المبدع الذي أثبت على امتداد أعماله الإبداعية بأنّه " سيد الألوان المبهرة " التي تأخذ ألقها من حمرة الموت المجسّد للكتابة الشعرية. ومصاحبتنا لهذه الكتابة توصلنا إلى" أنّ هناك شيئاً متشابكاً بكلّ الموضوعات التي تزوّد هذا الشعر بدم الحياة, وأعني بذلك موضوع الموت الذي قدم لنا عنه تنويعات تراجيدية موجعة "، يظلّ نموذجها الأمثل هذه القصيدة، فقراءتنا لها " تكشف فيها إشارات وتلميحات إلى المصير الذي سيلقاه نفسه " فيديريكو غارثيا لوركا الذي ألهب سقوطه المجنون خيال المبدعين، وأدمى قلوب محبي الكلمة الهادفة، لقد سقط غارثيا لوركا في مساء غرناطي كئيب، حينما اخترقت رصاصات حمقاء جسده المنطوي على روح إسبانيا وبهائها الأدبي يوم 19 آب 1936 في ظروف غامضة إبّان الحرب الأهلية الأسبانية "Guerra Civil" على أيادي رجال الدكتاتورية والفاشية، لتظلّ روحه مرفرفة في عالم الإبداع، ويتلاشى جسده دون قبر يُزار، حتى تغنيه آلاف الحناجر وتبكيه آلاف القلوب، مؤكدة أنّ الفصل الدامي في حياته الذي أريد به منعه من الارتفاع، قد تكلل في بعثه كل يوم من أرض المـوات في شـرق الأرض وغربهـا، ليتألق " كماسة نارية مجنونة " رغم فعل الموت. فهل تصح فرضية انتمائه إلى ثقافة الموت؟!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان السعودي سعد خضر يرد على شائعة وفاته: مزعجة ونسأل الله


.. مهرجان كان السينمائي : فيلم -البحر البعيد- للمخرج المغربي سع




.. صباح العربية | الفنان السعودي سعد خضر يرد على شائعات وفاته


.. من المسرح لعش الزوجية.. مسرحيات جمعت سمير غانم ودلال عبد الع




.. أسرة الفنان عباس أبو الحسن تستقبله بالأحضان بعد إخلاء سبيله