الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دور التمثُّلات الثقافية والتشكيلات الاجتماعية في التمييز الجنسي

أسامة عرابي
(Osama Shehata Orabi Mahmoud)

2019 / 2 / 9
مواضيع وابحاث سياسية


لا شكَّ أن كتاب "نساء مصر في القرن التاسع عشر" لأستاذة التاريخ في جامعة جورج تاون الأمريكية،ومديرة برنامج الماجستير في الدراسات العربية بالجامعة،ورئيسة تحرير "المجلة الدولية لدراسات الشرق الأوسط" (د.جوديث تاكر،الصادر عن المركز القومي للترجمة عام 2008 الذي صدرت طبعته الأولى عام 1985،عن دار نشر جامعة كيمبردج، ضمن سلسلة مكتبة كيمبردج للشرق الأوسط) بترجمة ضافية رصينة للدكتورة هالة كمال الأستاذة بقسم اللغة الإنجليزية في كلية الآداب، جامعة القاهرة، ومسئولة برنامج الترجمة في مؤسسة المرأة والذاكرة، ينتمي إلى حقل دراسات التاريخ الاجتماعي-الاقتصادي للنساء والنوع،الذي يُعنى بدراسة الشروط الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والتاريخية التي يتوقف عليها بناء شخصية المرأة الإنسانية بوجوهها المتعددة، وتطوير قواها وطاقاتها، وتنظيمها الاجتماعي، ودورها التشريعي، ونشاطها الإنتاجي. ومن ثم؛ فإن قضية المرأة هي قضية المجتمع كله الذي تُقاس حريته بمقدار ما حصلت عليه النساء من حرية عمليًّا وواقعيًّا، في مجتمع يتمتع فيه الرجال والنساء بحقوق طبيعية وإنسانية متساوية في جميع الميادين.لهذا عمدت "د.جوديث تاكر"إلى ملامسة صورة المرأة في الهندسة الاجتماعية التي أنتجتها النظرة البطريركية للقرن التاسع عشرالقائمة على تكريس دونيتها وتأبيد إقصائها وتهميشها وترسيخ تابوهاتها القديمة قِدَمَ المجتمع الطبقي الأبوي؛ نتيجة وقوعها فريسة القهر والجهل وسوء توزيع الثروة وتراجع الإنتاج وتزايد الاستهلاك وعدم توفر فرص العمل.غير أن د.تاكر استطاعت أن تحرِّر بحثها هذا مما شاب ميدان الدراسات الشرقية من انحيازات مسبقة ونظرة أحادية تنهض على مفاهيم جغرافية زائفة مثل (الشرق والغرب وأوروبا)؛ متكئة على إنسانوية تلح على الفاعلية والحضور التاريخي معًا؛ مما من شأنه إماطة اللثام عن التشكيلات الثقافية والأنساق الإيديولوجية المرتبطة بصعود الرأسمالية العالمية ومشروعاتها القائمة على الهيمنة والتسلّط.
لهذا حرصت الباحثة على إنقاذ التاريخ النسوي من تجاهل الأرشيف المؤسسي الرسمي لأدوار المرأة العامة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ومساهماتها في الحقول الرمزية. الأمر الذي يجلو لنا طبيعة الأزمة التي عانت منها المرأة طويلًا، وهي تراوح بين شقي رحى النظام الاجتماعي المتخلّف، وبين رؤى مرجعيات دينية تقليدية حافظت على احتكار الرجل للسلطة بتأويل للنص الديني يخدم- في التحليل الأخير- هيمنة الرجل على المرأة، وتوظيف الدين لصالح الذكورية الأبوية؛ مما أفضى إلى اغتصاب وظائفها الدلالية والتمثيلية، وطمس واقعها التاريخي. وبذلك جرى تكريس التمايز والتراتبية بين الجنسيْن في الأحكام والحقوق، ونفي الولاية أو الإمامة عن النساء في النصوص الفقهية؛ لتسويغ إقصائهن عن تقلّد أي دور سياسي واجتماعي لها. وهنا تكمن أهمية قراءة التراث من منظور نسوي ومدني وحقوقي يتيح للمرأة حقَّ التعبير الحر، ويسمح لها بكشف دور الرجل في إرساء تفرقة قانونية وثقافية على أساسٍ من الجنس، وتعميم ما تسميه الباحثة الجزائرية "ربيعة بكار"الأبارتيد النسوي"القائم على فكرة ضرورة الفصل بين الجنسيْن في المجال العام.لذا تمسك الإسلامويون المحدثون بالفقه ، وآثروه على الشريعة؛ بسببٍ من غلبة النزعة الذكورية على مجتمعنا العربي.لذلك فإن أولى خطوات تحقيق المساواة المجتمعية يرتبط بنضالات المرأة المطلبية، في تواشجها مع الإطار العام والشامل لنضال المجتمع من أجل تحرره ودمقرطته. وهو ما يمثّل " سببًا قويًّا في حد ذاته، وجديرًا باستكشاف تاريخ النساء"كما تذهب باحثتنا التي تعضِّد فكرتها هذه بقولها:"ولكن الأهمية القصوى لدراسة النساء تكمن في جوانب أخرى ؛ فتاريخ النساء يتطلب وعيًا فوريًّا بكمِّ القوى والمؤسسات والأنشطة التي تغيب عن أنظار التحليل الذي يتناول المؤسسات السياسية الرسمية ، أو الحركات الفكرية السائدة، أوالرؤى الاقتصادية العامة، بل إن عالم الصلات والشبكات غير الرسمية، والثقافة الشعبية والجماهيرية، والقوى الأساسية الخاصة بالإنتاج والإنجاب هو العالم الذي تحدِّد مكوناته الساحة الخاصة بأنشطة النساء؛ وبالتالي الدراسات النسائية (women`s studies)". الأمر الذي يدعونا إلى دراسة الطبيعة الطبقية للمجتمع المصري، والعلاقة الحقيقية (علاقة الإنتاج) بين المنتجين المباشرين والقابضين على وسائل الإنتاج، ومساهمة المرأة في الأنشطة كافة ومدى انعكاسه على البنى الفوقية التي تشمل الثقافة والأخلاق والقيم والمعتقدات. وهو ما يقتضي دراسة ذلك الإرث التاريخي الضارب في عمق البني المجتمعية التقليدية، والذي يشكِّل فيها الدين معادلًا للقانون المدني. وهنا تقول المؤلفة:"إن التركيز على وجود إسلام واحد أوحد يشير إلى أن النساء قد عشن في عالمٍ خاصٍّ غير متصل بالزمان، ولم يمسه التغير التاريخي"..مضيفة:"أن تاريخ النساء في مصر القرن التاسع عشر يفنِّد تلك الصيغة الساكنة للماضي حيث تأثرت النساء، كما أسهمن من خلال أفعالهن في تشكيل التغييرات الكاسحة التي شهدتها تلك الفترة فما بين عامي 1800و1914م، وكان دخول مصر واندماجها في النظام الاقتصادي الأوربي وما أعقبه من خضوع سياسي، هو التطور الأساس الذي كانت له تبعاته المؤثرة في المجتمع". وقد كانت مصر في مقدمة الدول التي استجابت "للتغييرات التي اجتاحت العالم العربي خلال القرنيْن التاسع عشر والعشرين، وكانت وما زالت مرآة للتطورات في الشرق الأوسط من عدة نواحٍ"بتعبير الباحثة "ليلى أحمد"، في كتابها"المرأة والجنوسة في الإسلام"، وضربت لنا مثلًا بالجدل الذي اشتجر حول الحجاب في نهاية القرن التاسع عشر، وأشعل الخلاف داخل المجتمع المصري، ثم انتقل إلى عواصم إسلامية أخرى في الشرق الأوسط؛ بما يؤشِّر إلى أنه خطاب مؤسسي يمكن الأخذ به نموذجًا. وهنا تُشير د.جوديث تاكر إلى نظام التبعية الذي ربط الملاكين العقاريين الكبار والبرجوازيين الكبار بالسوق الرأسمالية العالمية، وخضوعهم لقوانين التطور الدولي اللامتكافئ الذي حدَّد آفاق نمو مصر، من خلال صلات التبعية السياسية والاقتصادية الوحيدة الجانب مع بريطانيا العظمى، وجعلهم في وضع انتقالي محجوز، من إقطاع باتَ شديد التهافت، إلى رأسمالية تتسم بالشلل في الريف، وتقتصر في المدينة على المجالات المكمِّلة لبنية التبعية المصرية، التي شكَّلت الرافعة الأكثر صلابة لمختلف أشكال استغلال الجماهير على يد هذه الطبقات، والحماية لامتيازاتها (امتيازات الطبقات المحلية المسيطرة) في الوقت ذاته. وفي هذا السياق، ترصد الباحثة عددًا من النتائج التي ترتبت على المعطيات السابقة، منها أن"التغلغل الأوربي لم يقمْ بإلغاء كل الأنشطة والمؤسسات السابقة عليه؛ حيث إن خصائص المجتمع المحلي، وهياكل الإنتاج والإنجاب، والإيديولوجيا التي سبقت مجيء المصالح الاقتصادية الغربية، أدت جزئيًّا إلى تحديد نتاج التفاعل بين الغرب والمجتمع المحلي، كما أن خصوصية مصر في بدايات القرن التاسع عشر- من حيث تكوينها الاجتماعي الواسع- ساعدت على تشكيل مسار التوغل الغربي"..بالإضافة إلى أن"عملية الاندماج (اندماج مصر المتزايد في الاقتصاد العالمي) تأثرت بالمصريين أنفسهم، لا من أعضاء دوائر النخبة السياسية، بل من قِبل الرجال والنساء من الفلاحين وأعضاء الطبقات الأدنى"، ذلك أن"الرؤية الخاصة بوجود تاريخ شعبي أو جماهيري؛ باعتباره فوق كل شيء هو تاريخ المقهورين وتاريخ ضحايا المسار التاريخي، هي رؤية تتضمن عنصرًا من الحقيقة، ولكنها تتجاهل الدور الحقيقي الفعلي الذي لعبه الشعب في تشكيل هذا المسار". وقد تحملت المرأة العبء الأكبر من الاستغلال والاستلاب في سوق العمل المأجور، ومن تفاقم مشكلة البطالة والبطالة المقنعة، وبخاصة العاملات الزراعيات ونساء الطبقات الدنيا، وفي صناعة النسيج، سواء في الغزل أو التمشيط أو التبييض، ويرصد "محمود حسين" في كتابه"الصراع الطبقي في مصر 1945إلى 1968"هبوط الإنتاج الزراعي في الفترة الواقعة بين 1914و1947ليصبح معدله 4,.%، وأن الجماهير ذات الطابع البروليتاري التي تعيش في البؤس، أخذت تشكِّل 39%من سكان الريف، أما الملاكون الكبار والفلاحون الأغنياء فازدادوا ثراء بصورة مطلقة ونسبية، وخضع توظيف قسم من الفائض الزراعي لمقتضيات السياسة الاقتصادية البريطانية، كما أدى استيراد المنتجات الأوربية إلى تدهور التجارة المحلية، وتردي أوضاع التجار المحليين لصالح الشركات الأوربية وعملائها، لكن قدرة النساء"على إقامة مؤسساتهن الخاصة أو حتى حمْل نضالهن من أجل بعض الحقوق إلى الشارع أسهمت في صنع تاريخهن". بَيْدَ أن السكان المصريين،رجالًا ونساء، لم يشهدن"تحولات القرن التاسع عشر بروح سلبية أومنقادة؛ فقد كافحت نساء كثيرات- على سبيل المثال- لحماية العادات وأشكال العلاقات الأسرية التي كانت تبدو في صالحهن، وعلى المستوى الأعمّ الخاص بالتمرد الجماهيري، وعلى الساحة المصغرة الممثّلة في المعارك القانونية الفردية، قام الناس بمقاومة التغيرأو التكيف معه بأساليب ساعدت على تحديد معالم المجتمع الناشئ. ويشكِّل دور النساء في بناء تاريخ مصر الحديث جانبًا نهائيًّا وحاسمًا في تاريخ نساء تلك الحقبة". ومن ثم؛ فإن لهذا الجانب بُعدًا طبقيًّا حيويًّا نأى بها عن مزالق التركيز على نساءالنخبة، وتوجيه اهتمامها إلى الجماهير العريضة غير المستقرَّة ذات الطابع البروليتاري في الريف وفي المدينة، والتي خرج من صفوفها جُلُّ من حوَّلوا التمرد إلى عنف شامل. وهو ما يكشف عن الوعي التاريخي المصري الشعبي الذي ظل حتى وقت قريب مطمورًا أو مقموعًا ، منطلقة (جوديث تاكر) من المفاهيم التي طوَّرها حول الذاكرة الشعبية والوعي الشعبي أنطونيو جرامشي وراناجيت جوها وجماعة الذاكرة الشعبية ورايموند وليامز وآخرون. وقد استجابت المرأة للمبادرات التي دعتها إلى التعليم وأهميته؛ مما بَثَّ بعض أشعة الضوء في الفترة الممتدة من 1907إلى1912وفقًا لما نقلته "ليلى أحمد" في كتابها المذكور سالفًا، عن سلامة موسى، متمثّلًا في نجاح الآنسة نبوية موسى " بوصفها أول شابة تحصل على الشهادة الثانوية برغم رفض جيمس دانلوب المستشار البريطاني لوزارة التعليم، أن يسمح لها بدخول الامتحان لأنها امرأة، ومع ذلك أصرَّت نبوية موسى على موقفها، وفي عام1908دخلت الامتحان ونجحت. وكان لهذا الحدث صدًى كما نشرت عنه الصحف". أما الشعاع الثاني" فهو أنه للمرَّة الأولى ترى مصر امرأة تكتب في الصحف"، أو بمعنًى أدقَّ كانت ملك حفني ناصف"المرأة الأولى التي نشرت مقالاتها بانتظام في الصحف العادية، بينما أصبحت إنجازات نساء أفراد وأفكارهم جزءًا من وعي الشخص المتعلم ". ثم تتالت التغيرات من "حجاب ثقيل إلى حجاب رقيق، وبحلول عام 1901أصبح السفور في زيادة مستمرة، وازداد عدد بنات المدارس ومدارس الفتيات أيضًا زيادة ملحوظة". وقد حرَصت"جوديث تاكر"على التأكيد على أن"كل النساء لم تعايش تلك التغيرات بنفس الطريقة؛ حيث انتمت نساء مصر إلى طبقات مختلفة، وأقمن في أماكن جغرافية متنوعة"، وأن دراستها هذه ركزت جُلَّ اهتمامها على"الفلاحات ونساء الطبقة الدنيا الحضرية، ولا تتمُّ الإشارة إلا عابرًا إلى نساء النخبة في الحضر والأقاليم؛ وذلك عندما تُسهم تجاربهن في توضيح تطور أدوار النساء". وهنا طرحت الباحثة أبعادًا أربعة متداخلة لتحديد أدوار النساء ومكانتهن وهي: إمكانية التملُّك، والعلاقات العائلية، والمشاركة في الإنتاج الاجتماعي والمجال العام، والتعريفات الإيديولوجية السائدة.. مشدِّدة على حيوية معالجة كل بُعدٍ من هذه الأبعاد في إطار "التغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي نشأت جزئيًّا عن الاندماج المتواصل لمصر ضمن نظام اقتصادي يسيطر عليه الغرب".. أي في سياق دمج مصر في السوق الرأسمالية العالمية، وتفكيك اقتصادها وتحطيم قدرتها على النمو المستقلِّ، والاتجاه بنشاطها الاقتصادي إلى تلبية احتياجات الأسواق الغربية، لا احتياجاتها الداخلية. وتذكر جوديث تاكر أن محاولة "التحقُّق من آراء النساء في مصرالقرن التاسع عشر" جعلتها محددة"بإطار الوثائق المكتوبة والاستنتاجات المستخلصة من مَجريات الأحداث المعروفة"؛ حيث المواد المكتوبة من حوليات أو بيانات رسمية أو وثائق قانونية، إنما تعبِّر عن آراء ثقافة رجال الطبقة العليا"، والاعتماد على محاضر قضايا المحاكم الدينية التي تكشف بقدر من التفصيل عن تصورات الرجال والنساء على حدٍّ سواء؛ وهي المحاضر التي تُسجِّل أصوات المتقاضين من مختلف الطبقات الاجتماعية". غير أن "دراسة نساء الطبقة الدنيا وأنشطتهن الخاصة "فرضت عليها" استخدام سجلات المحاكم الشرعية استخدامًا كبيرًا"؛ لأنها"المؤسسة الوحيدة التي تضمُّ سجلات متاحة للنساء من جميع الطبقات، وكانت هي المكان الذي يمكن للنساء فيه سرد حكاياتهن وتقديم شكاواهن".. إلا أنه على الرغم من أنه"تمَّت الاستفادة من سجلات المحاكم الإسلامية لإلقاء الضوء على عالم النساء في الأناضول في القرن السابع عشر، فإن سجلات القرن التاسع عشرالمصرية تعرضت للتجاهل". لكن مسيرة السلطة القضائية وتنظيم المحاكم الشرعية عبر القرن التاسع عشر حفلت" بتاريخٍ من الصراع والتعاون بين سلطة الدولة والنظام القضائي"، أو شهدت "صراعًا متناميًا بين علماء الدين ورجال الدولة من أجل السيطرة على النظام القضائي". بَيْدَ أنه"في أعقاب المحاولة القصيرة والمجهضة التي قامت بها قوات الاحتلال الفرنسي لفرض السيطرة على نظام المحاكم الشرعية في أواخر القرن الثامن عشر، تحرَّكت الدولة في القرن التاسع عشر بقدر أكبر من الحرص والحذر، وكذلك بدرجة أكبر من الدقة سعيًا وراء التحكم في النظام القضائي". إلا أن ماعرفه الجزء الأخير من القرن التاسع عشر "من نشأة المحاكم المدنية، وتنامي جهاز الدولة، أديا إلى تطويق نطاق أنشطة المؤسسات"التقليدية" وتحديده كالمحاكم الشرعية، مع نقل وظائفها إلى عدد من المؤسسات الجديدة". وبذلك أتيحت "مصادر أخرى من المعلومات؛ حيث بدأت الدولة بجهد متزايد في عرض النشاط السكاني" ومسحه وتسجيله؛ فزاد الاعتماد "بمرور سنوات القرن التاسع عشر، على موادَّ صادرةٍ عن جهاز الدولة بدلًا من نظام المحكمة الشرعية"؛ مما حمل د.جوديث تاكر على الاعتقاد "بأن الدولة وخصوصًا في شكلها الاستعماري تزايد تأثيرها على سكانها، وأن السياسة الرسمية أخذت تلعب دورًا واضحًا في حياة النساء والرجال".
يتألف كتاب "نساء مصر في القرن التاسع عشر" لجوديث تاكر من مقدمتيْن؛ إحداهما للمترجمة؛ والأخرى للمؤلفة، وخمسة فصول توزَّعت عناوينها على النحو التالي : المحراث والنصيب، النساء والإنتاج الزراعي والملكية، المغازل والأغاني، النساء في الأعمال الحضرية، الحياة الخاصة والعامة، النساء ونمو الدولة، النساء والمقاومة والقمع، ممارسة الرق، النساء باعتبارهن ممتلكَات، وخاتمة، بالإضافة إلى ملحق سجلات المحاكم:عرض عام وعينة، وملحق للصور، ثم المصادر العربية والاختصارات الأجنبية. وقد توصلت "الباحثة" من جُمَّاع ما سلف، إلى عددٍ من النتائج التي يمكن تلخيصها فيما يلي:
1- أنه في ظل التغيرات الكبيرة التي حملها القرن التاسع عشر إلى الريف المصري، نجد أن الأسر الفلاحية ولاسيما النساء قد استخدمت المحكمة سبيلًا إلى التمسك بأنماط من المشاركة الاقتصادية والاجتماعية. ولكن الدافع وراء تجميع أملاك الأسرة كثيرًا ما كان على حساب أفراد الأسرة ممن كانت حقوقهم الشرعية والعرفية هي الأضعف مكانة. وأن الأنشطة التي قامت بها النساء أسهمت لا شك في الحفاظ على الروابط الأسرية.
2- أن اقتصاد السوق المتطور في مصر القرن التاسع عشر، والذي شاركت فيه النساء منتجات وتاجرات، مَنَحَ
النساء استقلالًا اقتصاديًّا وأساليب في التعامل مع العالم خارج البيت. لذلك كان في وسعهن اللجوء إلى المحاكم الشرعية بقدر من الثقة دفاعًا عن أملاكهن وحقوقهن في الميراث. وبينما لم يُشرِّع القانون وضع النساء داخل الأسرة والمجتمع، إلا أنه قدَّم الحقوق القانونية والسياق الذي يمكن للنساء الاحتجاج والكفاح فيه بأنفسهن. وقد تطوَّر القانون نفسه متجانسًا مع التطورات الاجتماعية والاقتصادية، وكانت النساء جزءًا من حركة التطوُّر تلك من خلال حمل مشاكلهن إلى المحاكم. وظلَّت روابط النساء بأزواجهن قوية ومعقدة؛ بفضل ما يجمع بينهما من أملاك ومشروعات تجارية مشتركة وديون مسجلة بدقة. الأمر الذي أدَّى إلى أن يُخفّف الرجل من غلوائه في استخدام امتيازاته القانونية والاجتماعية في إساءة معاملة الزوجة أو التخلص منها؛ بسببٍ من وعيه بما تتمتع به المرأة من قوة اقتصادية.غير أن التطورات الاقتصادية المتسارعة في القرن التاسع عشرأثرت على أنشطة النساء في الإنتاج والتوزيع والخدمات، وأفضت إلى انتقال عاملات الحرف،وعدم مساواتهن بالرجال في التعيين بالورش والصناعات، وبينما واصلت التاجرات الصغيرات المنخرطات في أنشطة لا صلة لها بالدولة أوالمنافسة الأوربية، عملهن في بيع منتجاتهن وتحديدًا المواد الغذائية، تعرَّضت التاجرات الثريات للتراجع والتنحية من قِبل الشركات الأوربية ووكلائها المحليين. ولم يعدْ متاحًا أمام الأكثرية الكاثرة من النساء سوى مجال الخدمات فحسب. وزاد الطلب في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، على خادمات المنازل، ومَنْ تُجِدْنَ الخياطة وتصفيف الشعر وأعمال الوشم والعزف الموسيقيِّ. وبحلول نهاية القرن التاسع عشر، تركَّزت النساء في عالم الخدمات العابرة والشبكات غير الرسمية.
3-أن تطوير جهازٍ قويٍّ ومركزيٍّ للدولة في مصر القرن التاسع عشر، لم يترك سوى أثرٍ محدودٍ على المؤسسات الاجتماعية التقليدية: أي الأسرة والعائلة والحي والطائفة والطريقة والمذهب. وبينما سعت بعض البرامج والمراسيم الرسمية إلى تقليل سلطة تلك المؤسسات، إلا أن أثرها كان متدنيًا في ظل تولي الدولة فعليًّا المسئولية عن مجالات الخدمات والأمن المقدمة بواسطة الجمعيات غير الرسمية أو التطوعية. ووجهت الحكومة أنظارها إلى إنشاء مؤسسات جديدة خاضعة لها مباشرة. وكانت الدولة المصرية في القرن التاسع عشر تضمُّ تشكيليْن منفصليْن هما: دولة محمد علي وخلفائه بنظامها الناشئ المطلق، والدولة الاستعمارية الخاضعة للسيطرة البريطانية غير الرسمية ولكن الفعالة منذ عام 1882. وقد تمَّ تجنيد النساء في الدولة المطلقة للعمل بالسخرة وفي المصانع والتدريب على المهن المختلفة. كما أدَّى إغلاق بعض المجالات في وجه النساء، إلى إقبالهن على ميادين أخرى عديدة. أما الأماكن المتاحة في المدارس والبرامج التعليمية والتدريبية المفتوحة أمام الفتيات في الدولة الاستعمارية فكانت غير كافية، فضلًا عن أخذها بالنموذج الضمني القائم في الوطن الأم (بريطانيا) على الفصل بين الجنسيْن. وكانت الفرص المهنية المتاحة أمام النساء محدودة للغاية، جنبًا إلى جنب الالتزام بالقدر الأدنى من إنفاق الدولة على الخدمات الاجتماعية. وهكذا أدَّى التطور الموقوف في نهايات القرن التاسع عشر وقيام الاستعمار بفرض النماذج الأوربية إلى شُحِّ الفرص التعليمية والمهنية المتيسرة للنساء، وإلى إبطاء نموِّ وتطوُّرِ المؤسسات الاجتماعية التي كان بوسعها إشباع احتياجاتها.
4-أن المعاناة التي عاشتها النساء نتيجة لقمع الحركات السياسية الجماهيرية الواسعة تفاقمت مع ارتفاع معدلات الجريمة العامة وتفشي الغياب الأمني في نهايات القرن التاسع عشر. ومع قيام التراجع الاقتصادي والضغوط الاجتماعية لتلك الفترة بتعزيز تنامي مجموعة متنوعة من الجرائم الخطيرة، أصبحت النساء أقرب إلى الضحايا منهن إلى المجرمات. إن الجرائم التي ارتكبتها النساء عامة في الأوقات العصيبة- الدعارة وهجر الأطفال- تركت آثارها الأليمة- في أغلب الأحيان- على المرأة نفسها، وأدَّت إلى إلغاء الروابط الضعيفة أصلًا بالعائلة والتي كانت تدعم وجودها في الماضي. ومن ثم؛ فإن الإجراءات القمعية المفروضة بواسطة الدولة، كانت تميل إلى زيادة مشاكلهن لا التخفيف من حدتها.
5- لم تكن العبودية المصرية بوصفها مؤسسة منزلية، مرتبطة بنظامٍ محدَّدٍ للإنتاج الاقتصادي، بل خلال فترة ازدهار نظام المزارع في مصر كان الرق يشهد مرحلة من التراجع التام. ونظرًا إلى عدم كونها مؤسسة ذات أهمية كبرى في البلاد، أخذت مؤسسة الرق تنهار تدريجيًّا على مدار القرن التاسع عشر متزامنة مع حالة الواقع السياسي والاجتماعي الذي كانت جزءًا منه؛ إذ أخذ يفقد تماسكه السابق. إن نموذج الجارية المصرية، سواء كانت محظية أو خادمة شخصية، كانت تنتمي إلى بيت ذي مكانة اجتماعية وأهمية سياسية؛ حيث عملت على زيادة أعداد أفراده من التابعين المخلصين لأهل هذا البيت دون وجود علاقات التنافس التي تسود بين الأقرباء وأبناء المجتمع الواحد. وكانت أصول هذا النظام بأكمله تمتدُّ جذورها في زمان سابق ممثل في مصر القرن الثامن عشر ذات البيوت الكبيرة للمماليك؛ حيث لم يقتصر الاعتماد على العبيد والجواري على بثّ الحياة داخل الحريم، بل في الحياة المنزلية. وقد أدَّى صعود محمد علي إلى القضاء على الحروب بين تلك الميليشيات الخاصة، وإلى تواري العبيد العسكريين من الساحة، فيماعدا بعض المحاولات قصيرة المدى وغير الناجحة لاستخدام عمالة العبيد في جيش الدولة. أما الجواري في الحريم فاحتفظن بقدر من الأهمية، برغم تقلصه التدريجي؛ باعتبارهن علامة دامغة على الثراء والسلطة الاجتماعية. وعلى مدار القرن التاسع عشر تزايدت السمة الرمزية لتلك الأهمية، فلم تكن أدوارهن مؤثرة وفعالة بوصفهن منتِجات لبعض الأغراض المنزلية أو حتى منجبات للعبيد والجواري؛ فقد كانت الحريم أقرب إلى استهلاك المنتجات اليدوية وليس العكس، كما أن الممارسة الشائعة بشأن عتق الجواري لكونهن في سنِّ الزواج والإنجاب، أدَّت إلى تقليص أدوار الجواري بوصفهن أمهات لجيل جديد من العبيد والجواري. وفي النطاق السياسي، نجد أن عملية ترسيخ دعائم الدولة البيروقراطية تحت حكم محمد علي أولًا ثُمَّ تحت حماية الاحتلال البريطاني، أدَّت إلى تقليل أهمية البيوت والعائلات ومن ثَمَّ إلى انخفاض حاجتها إلى المزيد من الأفراد الذين يقتصر دورهم على الولاء لأهل البيت والاعتماد عليهم. وقد قامت الدولة بتجريم تجارة الرق دون أن تلقى معارضة شديدة. إذ بمجرد وقف استقدام العبيد والجواري، وبمجرد أن أصبح في إمكان العبيد والجواري السعي بحرية للحصول على العتق، انتهت مؤسسة الرق في مصر نهاية فورية غير أليمة. ولم تقم الحملة البريطانية سوى بالإسراع بالعملية التي بدأ مسارها قبل اتفاقية 1877بزمان.
وبذلك استطاعت د.جوديث تاكر في بحثها القيِّم هذا"نساء مصر في القرن التاسع عشر"، أن تقدِّم لنا جدارية تُوضِّح بنية الصيرورة الشاملة لعلاقة المرأة بمجتمعها، وماهية الأدوار التي نهضت بها، في ظل واقعٍ معتلٍّ سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا، ومثقل بالاستلاب والقهر الثقافي والروحي، أنتجته ظروف التبعية بالغرب الاستعماري..أو على حد تعبيرها:"وهكذا تشكَّلت تفاصيل حياة المرأة في مصر القرن التاسع عشربتداخلٍ بين العوامل الاقتصادية الخاصة بالتملك والمشاركة في الإنتاج الاجتماعي ، وبين العوامل الاجتماعية المتعلّقة بالإنجاب في الأسرة، وبين العوامل السياسية المتصلة بتطوُّرِ سلطة الدولة، وهي العوامل الواقعة في قبضة الوعي الاجتماعي السائد والممثّل في القانون والأعراف الإسلامية. ولكن قامت النساء أنفسهن بمساهمة كبيرة في تشكيل تاريخهن من خلال مشاركتهن النشطة في سياسات الشارع والمعارك في المحاكم وفي الشبكات الاجتماعية القائمة في تلك الفترة من الزمان".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ماذا وراء استئناف الخطوط الجوية الجزائرية رحلاتها الجوية من


.. مجلس الامن يدعو في قرار جديد إلى فرض عقوبات ضد من يهدّدون ال




.. إيران تضع الخطط.. هذا موعد الضربة على إسرائيل | #رادار


.. مراسل الجزيرة: 4 شهداء بينهم طفل في قصف إسرائيلي استهدف منزل




.. محمود يزبك: نتنياهو يريد القضاء على حماس وتفريغ شمال قطاع غز