الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مذكرات الغرفة 8 مع أمل دنقل.. وفروسية أمل دنقل شاعرًا وإنسانًا

أسامة عرابي
(Osama Shehata Orabi Mahmoud)

2019 / 2 / 11
الادب والفن


مذكرات الغرفة 8 مع أمل دنقل.. وفروسية أمل دنقل شاعرًا وإنسانًا
أسامة عرابي
يُقدِّم الأكاديمي والكاتب فهمي عبد السلام في كتابه الثالث"مذكرات الغرفة 8 مع أمل دنقل"، الصادر عن مركز المحروسة للنشر، بعد مجموعتيْه القصصيتيْن"حجرة الفئران" عام 2000، و"صاحبي الذي ضلّ..صاحبي الذي غوى" عام 2010، يُقدِّم تجربة فريدة في تناول ظاهرة أمل دنقل ( 1940_ 1983) أحد طلائع الحداثة الشعرية العربية عبر تجريب أشكال شعرية جديدة، وتأسيس قيم جمالية ترفض كلَّ معيارية قَبْليَّة، وكلَّ مرجعية متعالية، من خلال وعيها المرهف باللغة والشعر وجمالياتهما. الأمر الذي دفعَ ناقدًا سوريًّا كبيرًا "صبحي حديدي" إلى أن يقول:" إن قصائد أمل دنقل كانت ستتعمق أكثر بفعل التطورات الكبرى التي شهدتها نظرية الشعر في عصرنا، وكانت استطرادًا ستأخذ منحًى آخرَ مختلفًا".. ويُضيف:" وهذا استنتاج لا ينهض من فراغ، كما أنه لا ينطلق من الترجيح وحده، بل ثمَّة في أحاديث أمل دنقل وأفكاره النقدية عشرات الإشارات إلى مواقف تقدمية من أشكال كتابة الشعر، شديد الانفتاح والمرونة". وقد استلهم فهمي عبد السلام عنوان كتابه من ديوان أمل دنقل الأخير"أوراق الغرفة 8" التي كان يُعالج فيها بالدور السابع في "معهد الأورام" من مرض السرطان اللعين الذي أصيب به في سبتمبر عام 1979 بعد مُضي أشهر تسعة على زواجه. من هنا جاء عنوان كتابه لحظة تحاور واشتباك، تمثيل وتجسيد في آنٍ، مُحقِّقًا رؤًى إنسانية مجدولة على همومها وأسئلتها المفتوحة على العالم. وليس أدلّ على ذلك، من اللوحة التي رسمتها لنا زوجُه الكاتبة الصحفية عبلة الرويني في كتابها"الجنوبي" قائلة:" كان للغرفة ( 8) ملامحُها الخاصَّة وإشعاعُها الجميل. على الجدران صورٌ ملوَّنة وقصائدُ شعرٍ. وعلى مِنْضدةٍ قريبةٍ كان هناك العديدُ من الكتب والأوراق والأقلام، إلى جانب جهاز تلفزيونيّ صغير وجهاز تسجيل ومجموعةٍ من الشرائط تحمل أغنيَّاتٍ عديدةً". وبذلك واجهَ أمل دنقل الموتَ بكل حضوره وامتلائه الإنسانييْن، دافعًا الروح إلى كامل بهائها، مُعيدًا الربط بين طرفي الوجود: الإنسان/ الوعي. لذا عمدَ فهمي عبد السلام إلى استثمار"مذكرات الغرفة 8 مع أمل دنقل" ليحتفيَ بالراهن المتحرِّرِ في تشابكه اليومي والوجودي مع الحياة. والتي لخَّصها أمل دنقل بقوله:
بين لونيْن:أستقبل الأصدقاء
الذي يروْن سريري قبرا
وحياتي.. دهرا
وأرى في العيون العميقةِ
لونَ الحقيقةِ
لونَ ترابِ الوطنْ.
وبهذا استطاعَ فهمي عبد السلام أن يلتقطَ الخيط الناظم لحياة أمل دنقل وشعره، وتقاطع مواقفه الخاصَّة والعامَّة، ومراوحته الدرامية بين اللغة والوجود، بين المعنى والكينونة، على نحو ما يُلخِّصه لنا همُّه الكوني ووعيُ تجرِبته المعيشة والحيَّة. الأمر الذي حَدَا بفهمي عبد السلام إلى أن يُزاوجَ بين السيرتيْن: الذاتية والشعرية، مُحلِّلًا ومُنقِّبًا عن منظومات قصائده الفنية والدِّلالية، من خلال تمثيلاتها اللغوية، ومستوياتها الرمزية المُركَّبة، واقتراحاتها الجمالية، بمنأى عن أي تصوُّرٍ نفعي ضيِّقٍ للعالم. ألم يقلْ لنا أمل دنقل في "أوراق الغرفة 8":
واحد من جنودكَ – يا أيُّها الشِّعر-
هل يصل الصوت؟
هل يصل الصوت؟
أم يصل الموت؟
قل لي، فإني أُناديكَ
من زمن الشُّعراء - الأناشيدِ
للشعراء- السجاجيدِ
من زمن الشُّعراء - الصَّعاليكِ
للشعراء المماليكِ؟
وهنا نلمح انحيازَ أمل دنقل الواضحَ إلى مفهومٍ للشعر، ينبني على موقفٍ واضحٍ لا لبْسَ فيه من السلطة وممارساتها السياسية والاجتماعية القمعية، رافضًا مهادنتها والتحالفَ معها، حريصًا على استقلاله الفكري والأخلاقي، لذلك أشار أمل دنقل إلى شجرة نسبهِ الشعري التي تمتدُّ لتصلَ إلى زمن الشعراء الصعاليك الذي أخذَ عنهم قواعد الفتوَّة والسلوك النبيل كما وضعها فيلسوفهم"عثمان الخيَّاط"، وأحد شعرائهم الكبار"عروة بن الورد" الذي دعا إلى تحطيم أسوار العالم القديم، وبناء عالم جديد ينهض على العدل والحرية والمساواة.
لهذا عُنيَ فهمي عبد السلام بتصويب ما يتردَّدُ عن شاعرنا الكبير أمل دنقل من أغاليط وشائعات رَمَتْ إلى تشويهه واغتياله معنويًّا، خصوصًا لدى الشباب" الذين أحبوا شعره، وتألموا من القصص المرويَّة عن عدوانيته المزعومة"، بعد أن خبره الكاتب عن كثبٍ عشرة أعوامٍ، "من صيف 1973 حتى وفاته المحزنة في ربيع عام 1983 " على حدِّ تعبيره. مما أتاحَ له أن يلمسَ فيه" إنسانًا رقيقًا جميلًا..وفارسًا نبيلًا.. مُحبًّا للناس وللحياة.. ذا شخصية أبيَّة تستنكف الظلم.. صُلبًا.. عنيدًا.. مُقاتلًا.. مرحًا خفيف الظلِّ.. حريصًا على كرامته طَوالَ الوقت، رافضًا العلاج على نفقة منظمة التحرير الفلسطينية والشاعر الكبير محمود درويش وأثرياء الخليج.. يُشجِّع أصحابَ التجارِبِ الجديدة من الشعراء صغار السنِّ، كما حدثَ مع الشاعر والمترجم د.عبد المقصود عبد الكريم، الذي ذهب وهو بعدُ طالبٌ في السنة الأولى بكلية الطب إلى دار الأدباء فصادفَ هناك الشاعريْن: محمد إبراهيم أبو سنة وأحمد سويلم اللذيْن انهالا عليه نقدًا وهجومًا، حتى وصل أمل دنقل واستمعَ إلى قصيدته، مُبديًا إعجابه بها، واعدًا إياه بالاتصال بالناقد الكبير فاروق عبد القادر المُشرِف على الملحق الأدبي لمجلة الطليعة لينشرها له".. كما لفتَ نظره فيه" اعتداده بنفسه، ومشيته التي يميل فيها إلى الخلف قليلًا بنصفه الأعلى". وهو ما أكَّده أيضًا صديقنا الكاتب الكبير الراحل"سُليمان فياض" في شهادته التي ألقاها في احتفالية المجلس الأعلى للثقافة بالذكرى العشرين لرحيل أمل دنقل بقوله:" كان شديد الاعتزاز بنفسه، لا يُحِبُّ أن يرى منه أحدٌ إلَّا قدرته على السير والجري والوثب من قمَّة إلى قمَّة". الأمر الذي يدعونا إلى التساؤل: لمصلحة مَنْ يجري تشويه البعض، وتمجيد البعض الآخر؟ ولماذا حدثَ ذلك مع شاعرِنا الكبير أمل دنقل؟ ففي مثل هذا المُناخ الثقافي والسياسي والاجتماعي المعتلِّ، لا تكون قيم الجدارة والاستحقاق هي الأوْلى بالاعتبار والاعتداد في التقييم والتقويم، بل أضحت تخضع لضغوط آليات تتجاوز الأعراف والأخلاقيات المصطلَح عليها؛ لنغدوَ حيال ما يُعرف بـ "الكاستينج" الذي يتمُّ فيه صُنع المغنين والممثلين؛ بحيث تترسَّخ في عقولنا صورة معينة لا تمتُّ إلى الحقيقة بصلة.. فهذا كاتب حقيقي، وذاك مديوكر.. هذا إنسان خلوق رصين، وذلك عدواني قبيح...إلخ. وهو لا شكَّ من آفات حياتنا العامَّة المُتخمة بالشللية وجماعات المصالح والثرثرة والنمائم. لهذا يعزو فهمي عبد السلام ذلك إلى موهبة أمل دنقل الكبيرة التي جلبت له" الكثير من الصداقات ومن الحب ومن الاهتمام من أسوياء، كما جلبت له العداوات والحقد والحسد والتشنيعات والتخرُّصات من أنصاف الموهوبين وأرباعهم"، وهم بتعبيره" جيش جرار موجود في كل الساحات الأدبية من أيام ديستويفسكي في سان بطرسبورج، على نحو ما نُطالعه في رائعته الخالدة " الشياطين". لذا كان أمل دنقل كثير التهكُّم على هذا الوضع الرثِّ الذي يَعزّ على الوصف، حريصًا على فضحه والإبانة عن مفارقاته، وتحويل أبطاله إلى مأساة ساخرة. ألم يقلْ لنا أمل دنقل في قصيدة" الموت في الفراش":

أيها السادةُ لم يبقَ انتظار
قد منعنا جزية الصمتِ لمملوكٍ وعَبد
وقطعنا شعرة الوالي "ابنِ هند"
ليس ما نخسرهُ الآنَ
سوى الرحلةِ من مقهى إلى مقهى
ومن عارٍ.. لِعَار.
من هنا؛ جاء اتهامه بالعدوانية والتطاول، على نحو ما هو مستفاد مثلًا من القصة التي رواها فهمي عبد السلام عن كاتب صحفي شهير، له عمود يومي في إحدى الجرائد المُسمَّاة بالقوميَّة، ومن المُقرَّبين من السادات، وكان شديد الرجعية مُعاديًا لليسار وللناصريين. لذا لم يتورعْ عن مهاجمة الكُتَّاب الذين نعوْا صديقهم الكاتب الكبير الراحل يحيى الطاهر عبد الله في جريدة الأهرام، مُطالبًا وزير الداخلية بالقبض عليهم باعتبارهم أعضاء خلية شيوعية! فتقمَّصَ أمل دنقل شخصية ليبي يشغل منصب مسئول التنسيق الجماهيري الشعبي للحوار العربي. ومن ثَمَّ؛ فهو مُخوَّلٌ من قِبلِ الدولة الليبية ومن السلطة الثورية في ليبيا بالاتفاق معه على وضع كتابٍ عن ثورة الفاتح العظيم، وعن دور الأخ القائد معمر الجدافي في التخطيط لها والقضاء على الرجعية العربية مقابل آلاف الدينارات؛ شريطة الانتهاء منه؛ أي من الكتاب، خلال أسبوع، وتسليمه له في مكتب الملحق الثقافي الجزائري.وكان بين هذا الملحق والكاتب الصحفي لددٌ في الخصومة لم تُفلح الأيام في معالجته. ليكتشف الكاتب الصحفي عند تسليم الكتاب في الموعد المُحدَّدِ أنه كان ضحية "مَقْلبٍ" مُدبَّرٍ من لدن أمل دنقل؛ فجرَّدَ حُسامَه للنيْلِ منه في عموده اليومي، ناعتًا إياه بذلك" الصايع القابع على مقهى ريش ليلَ نهار، وعامل شاعر، فإذا رأيتموه فابصقوا عليه فهو لا يستحقّ سوى البصق... إلخ". واحتفل أمل دنقل وأصدقاؤه من روَّادِ مقهيي ريش والمُستودَع بهذا المقلب- الحدث الذي أتاه له ولهم تلقين الكاتب الرجعي درسًا لا ينساه؛ نتيجة مواقفه التي لا تعرف شرف الخصومة، ولا تتورع عن الإبلاغ الأمني عن خصومه الفكريين والسياسيين للتخلُّصِ منهم. لهذا كان أمل دنقل امتدادًا لسلالةٍ من الظُّرفاء ضمَّت: حِفني باشا محمود وعبد العزيز البشري وحسين شفيق المصري وإمام العبد وكامل الشناوي وعبد الرحمن الخميسي ومَنْ إليهم ممن اتَّخذوا من "المقالب" سبيلًا إلى معابثة الواقع وخمش جهامته والاحتجاج عليه. لذلك لم يكتفِ فهمي عبد السلام بسرد مواقف أمل دنقل وتَعْدادِها، بل سعى إلى ضَفْرِ الذاتي بالموضوعي من خلال شعره الذي كرَّسه كلَّه للدفاع عن الإنسان وحريته، راصدًا محاولاته الانعتاق من إطاره الفردي الضيِّق، ومعانقة قلبه الجريء وحلمه المختلف، على نحو ما عثرَ عليه فهمي عبد السلام في غير موضعٍ ومكان من شعره، مثل قصيدته" من أوراق أبي نُواس":
(الورقة السادسة)
لا تسألْني إن كان القرآنْ
مخلوقًا.. أو أزَلي
بل سَلْني إن كان السُّلطانْ
لِصًّا.. أو نصفَ نبيّ
***
(الورقة السابعة)
كنتُ في كَرْبلاءْ
قال لي الشيخُ إن الحُسينْ
ماتَ من أجلِ جرعةِ ماءْ!
وتساءلتُ
كيف السيوفُ استباحتْ بني الأكرمينْ
فأجابَ الذي بصَّرتْه السَّماءْ
إنه الذَّهبُ المتلألئ في كلِّ عينْ
إن تكُن كلماتُ الحسينْ
وسُيوفُ الحُسينْ
وجَلالُ الحُسينْ
سَقَطَتْ دون أن تُنقذ الحقَّ من ذهبِ الأمراءْ
أفتقدرُ أن تنقذ الحقَّ ثرثرةُ الشُّعراء
والفراتُ لسانٌ من الدمِ لا يجدُ الشَّفتينْ
...
ماتَ من أجل جرعة ماءْ
فاسقني يا غُلام.. صباحَ مساء
اسقِني يا غُلام..
علَّني بالمُدام..
أتناسى الدّماءْ.
وبذلك يُشير فهمي عبد السلام إلى ملمحٍ رئيسٍ يَسمُ شعر أمل دنقل، وهو توظيفه تراثَنا العربيَّ في معالجة قضايا آنيَّة مُلحَّة؛ ذلك أن الشاعر من وجهة نظر أمل دنقل مُطالَبٌ بدوريْن في ظلِّ الظروف الاجتماعية والسياسية السائدة في العالم العربيّ:" دور فني؛ أن يكون شاعرًا. ودور وطني؛ أن يكون مُوظَّفًا لخدمة القضية الوطنية وخدمة التقدُّم، ليس عن طريق الشعارات السياسية ولا الصياح والصراخ، وإنما عن طريق كشف تراث هذه الأمة وإيقاظ إحساسها بالانتماء وتعميق أواصر الوحدة بين أقطارها".
لذا استدعى أمل دنقل من جوف التاريخ زرقاء اليمامة وأبا موسى الأشعري والمتنبي وأبا نؤاس وكُليبًا وصلاح الدين وصقر قريش وسواهم، فضلًا عن إفادته من التوراة والقرآن الكريم وتراثه الأدبي، مُتخذًا من شخصية الحسن بن هانئ المكنى بأبي نُؤاس أو نُواس أشهر شعراء الدولة العباسية، كما في القصيدة السابقة، قناعًا يطرح من خلاله قضايا الحكم والسياسة والحقِّ والقوَّة، دون أن يعني ذلك التطابقَ الكليَّ بينهما على الرغم من استخدامه ضمير المُتكلّم، مُستعيدًا محنة خلق القرآن التي أثارها المُعتزِلة، وآمن بها الخليفة المأمون، واستهجنها الكثير من الأئمة وفي طليعتهم الإمام أحمد بن حنبل الذي كان عُرضةً للتعذيب بسببها، رائيًا أن ما يَهُمُّ الناس في معاشهم وحياتهم؛ لا القضايا المُجردة، ولا الحقائق الكلية الميتافيزيقية، بل العدل في الحكم والقسمة، ونهوض الحاكم ببناء مجتمع العمران البشري القائم على المساواة وتكافؤ الفرص، لا على الجَوْرِ والفساد والاستبداد. وهنا تتبدى لنا هُوِيَّة أمل دنقل الشعرية الرافضة أيَّ انغماسٍ أو مشاركةٍ زائفةٍ في الواقع الإنساني، الضاجة بالعالم وبمواضعاته الجائرة السائدة؛ ما منحَ فعاليته الفنية دراما قادرة على صياغة تجرِبة حيَّة للفعل الإنساني. لهذا كان يَنْعَى على أدونيس وأنصاره استخدام الحداثة قشرة خارجية تُفرِّغُها من مضمونها الحقيقي، ليقفوا بها عند عتبات الرِّطان الأجوف وصرعات الموضة دون أن يكون لهم موقف واضح مُتبلورمن حكوماتهم الاستبدادية، وطموحات شعوبهم إلى التنمية والاستقلال والتحرُّر الوطني ( مثل برقية عزاء أدونيس في وفاة حافظ الأسد، وبرقية تهنئته لبشار الأسد بتولّيه حكم سوريا عَنوة واقتدارًا دون مُسوِّغٍ دستوريّ). غير أن كتاب فهمي عبد السلام يُقدِّمُ لنا عصر أمل دنقل برجالاته ومناخه الثقافي والاجتماعي والسياسي العام، ومواقف نخبته المثقفة، وعلاقتهم بالمكان بوصفه وجهًا من وجوه تمثُّل الزمن، بما يمتلكه من حضور ملموسٍ لثقافة مقروءة على الأرض، لها طاقة تخييلية قادرة على ربط نفسها بالذاتي والعام. كما أزاح الكتاب النقاب عن جغرافيا عالم المدينة السري، وما يموج به من أطيافٍ شتى من هامشيين وبشر عاديين تضجُّ حياتهم بأحلامٍ وتطلعاتٍ وأشواقٍ ورغائبَ وانكساراتٍ وقهرٍ وإحباطاتٍ وهزائمَ، كما رآهم أمل دنقل في المقاهي الشعبية وبارات وسط البلد؛ الهالجيان وفندق أمية وهاواي والناسيونال وجاميكا وعلام وكارلتون والكوزموبوليتان والجريون وبار مدام روز. كاشفًا عن شخصياتٍ من طراز السيناريست البائس مصطفى الدالي، وصالح زيدان، وجودت جودت، وعامر الشربيني، ومدحت أبو خطوة شقيق كابتن مصر والنادي الأهلي محمود أبو خطوة، وموظفين في أدنى درجات السُّلم الوظيفي، وباعة تذاكر سينما في السوق السوداء، وتجار خردة في وكالة البلح، وأصحاب محال حدايد وبويات، ومقامري سباق الخيل. كما أماطَ الكتاب اللثامَ عن مواقف الكاتب الكبير د. يوسف إدريس المُساندة لأمل دنقل في محنته الصحيَّة، وما تخلَّلها من مفارقات، عبر مقالاته في صحيفة الأهرام، ومُناشدته د.فؤاد محيي الدين رئيس وزراء مصر حينذاك، علاج شاعر مصر الكبير على نفقة الدولة، ومُخاطبته إياه بوصفه زميله القديم في "اللجنة الوطنية العليا للطلبة والعمال"عام 1946؛ وطالب الطب الثوري الذي عرفَ طريقه إلى السجون عقب تظاهره ضد جلاد الشعب إسماعيل صدقي باشا رئيس وزراء مصر الرأسمالي العتيد، مُعرِّضًا حياته للموت حينما فتحَ البوليسُ النارَ عليهما.. مُتذكِّرًا وقفتهما معًا في التخشيبة في انتظار العرْضِ على النيابة. وبذلك استطاعَ د. يوسف إدريس أن يجدَ الوشيجة المشتركة بينه وبين د.فؤاد محيي الدين الذي غادر معسكره اليساري القديم، ليتبنَّى النيوليبرالية ويُمسيَ رئيسًا لوزراء مصرَ. ما سمحَ له بتعريفه بأمل دنقل عبر قصيدته الجديدة المُصاحبة لمقاله عنه، وما يتسم به عالَمُه الشعري من رؤى ودلالات تُعبِّران عن التزامه الوطني والإنساني. فاستجابَ له د.فؤاد محيي الدين، ووافقَ على علاجه على نفقة الدولة؛ بعد أن أدركَ موقعه المتميز على خريطة الشعر العربي المعاصر. وقد أثمرَ موقف د.يوسف إدريس النبيل هذا في دفعِ أمل دنقل إلى كتابة قصيدتيْن من عيون الشعر العربي هما: "ضد مَنْ؟" و"الزهور". بَيْدَ أن كتاب فهمي عبد السلام كشف لنا أيضًا عن جوانبَ مُهمَّةٍ من شخصية د. يوسف إدريس الانفعالية الجموح وتقلباتها السريعة، وحساسية الأنا لديه، كما عكسها لنا حواره مع ابن خالة أمل دنقل الذي أطراه بوصفه كاتبه الأثير؛ ما أثلجَ صدرَ د. يوسف وجعله يعقد آماله العريضة على مثقفي الأقاليم، فلما سأله أمل دنقل عن أيِّ يوسف هو من بينِ مَنْ يعرفهم من يُوسُفيي الأدباء: يوسف إدريس، أم يوسف السباعي، أم يوسف الشاروني؟ أجابَ ابن خالته بثقة الجاهل العصامي: أن البيه هو الأديب الكبير يوسف السباعي طبعًا! فغضبَ يوسف إدريس، ولعنَ الجهل والأمية المُتفشييْن في أوساط المُتعلِّمين! وتركَ مجلسه في مقهى ريش غير آسفٍ ولا آبهٍ بشيء. وضحكَ أمل دنقل الذي أرادَ أنْ يقولَ له بصريحِ العبارة ومُباشِرِها: يا دكتور، لا تُلقِ بالًا لما تسمعه، وضعْه دَبْرَ أُذنيْكَ، فجُلُّهُ لا معنى له ولا قيمة. ولعلَّ هذه الواقعة قريبة الشَّبهِ بواقعة قصيدتي أمل دنقل العموديتيْن اللتيْن كتبهما في رثاء يوسف السباعي جنرال الثقافة المصرية، وإلقائه واحدة منهما في حفل التأبين الذي أقامته له دار الأدباء إثر مقتله على يد شابيْن فلسطينييْن أطلقا عليه ثلاثَ رَصاصاتٍ في مطار لارنكا القبرصي في الثامن عشر من شباط/ فبراير 1978؛ عقابًا له على مرافقته السادات في رحلة العار إلى القدس في التاسع عشر من نوفمبر عام 1977. فاغتنمها البعضُ فرصة للهجوم عليه و"تجريسه"، فهل بمقدور امرئ ما تقييم شاعرٍ كبيرٍ بحجم أمل دنقل، وتجريده من أي فضيلة شعرية، بناء على قصيدةٍ واحدةٍ مهما كان الموقف منها؟ وهل يجرؤ هذا الدَّعيُّ الذي كان يُلقِّبه الشاعر الكبير محمود درويش بـ"خدَّام أدونيس" على نقده؟ ولماذا جَبُن عن نقد أدونيس فيما كتبه عن محمد بن عبد الوهَّاب باعتباره من رموز النهضة الدينية على حدِّ زعمه، وعلاقته بالأدباء والشعراء الإسرائيليين، وتهالكه على جائزة نوبل مهما كان الثمن المدفوع في نيْلها، وقصيدته الشهيرة"تحية لثورة إيران"، في الوقت الذي برَّرَ فيه رفضه تأييد الثورة السورية في أيَّار/ مايو2011 بحجة واهية مؤداها أنها خرجت من المساجد بما يَشي بتوجُّهِها الديني المنغلق؟ في الحقيقة..وأنا لا أبرِّر هنا ما فعله أمل دنقل، كان أمل دنقل يُحسُّ بضعفٍ إنساني تُجاهَ يوسف السباعي على الرغم من يمينيته وتذيُّله السلطة، بعد أن عيَّنه في منظمة التضامن الأفروآسيوي، في الوقت الذي لم يكنْ يملك فيه دخلًا منتظمًا، ولا شقة يُقيم فيها، وظلَّ يُراوح بين الشققِ المفروشة والبنسيونات وبيوت الأصدقاء والمقاهي، حتى غادر الدنيا فقيرًا معدمًا لا يملك شيئًا ولا يملكه شيء. بَيْدَ أن كتاب"مذكرات الغرفة 8 مع أمل دنقل" يُزيحُ النقابَ عن شاعرية أمل دنقل التي تنطوي على موهبة عظيمة، وثقافة واسعة، ومكابدة حقيقية، وموقفٍ مُحدَّدٍ، كما لمسناه في شعره كلِّه، ولاسيما البكاء بين يدي زرقاء اليمامة، وأبانا الذي في المباحث، ولا تُصالحْ، والكعكة الحجرية، وتعليق على ما حدث، ورسوم في بهو عربي، وسفر ألف دال، وسواهم كثير. فالشعر الجديد في نظر أمل دنقل"لم يكنْ ثورة موسيقية"، بل هو" خروج بالبناء الشعري من إطار الموسيقى إلى الإطار التشكيلي أو التصويري" على حدِّ قوله. وهو ما استرعى انتباه فهمي عبد السلام بحكم تمرُّسه بحقلي الدراما التلفزيونية والسينمائية؛ كما في مسلسله التلفزيوني"ميراث الغضب"، وفيلميْه"وتمَّت أقواله"و"بانيو الأحلام"، فعالجه في قصائدَ عديدة منها قصيدة"فقرات من كتاب الموت" التي ضمَّها ديوان"تعليق على ما حدث"، لافتًا إلى استخدام الشاعر آليتيْن؛ أولاهما: الدراما التي تتخللها أحداثٌ ومواقفُ وشخصياتٌ وتداعياتٌ تُعبِّرُ عن أحزان الشاعرِ وهمومه. والآلية الأخرى هي المونولوج الداخلي والحديث بالأنا المتوحِّدة مع أحزانها. وهي حالة رأى أنها شكسبيرية بامتياز، كما عرفناها في مونولوجات هاملت والملك لير وريتشارد الثالث وهنري الرابع...إلخ. بالإضافة إلى قدرته على الإيجاز والاستخلاص وامتلاك الأدوات الفنية.
توقِفُني المرأةُ
في استنادِها المُثيرْ
على عَمودِ الضَّوءِ
(كانت ملصقاتُ "الفَتْحِ" و"الجَبْهَهْ"
تملأ خلفَ ظهرِها العمودا)
تسألُني لفافةً
(لم يترك الشُّرطيّْ
واحدةً من تبغِها الليلىّْ)
تسألُني إن كنتُ أَمضى ليلتي.. وحيدا
وعندما أرفعُ وجهي نحوها
سعيدا
أبصرُ خلف ظهرِها: شهيدا
معلَّقًا على الحائِط, ناصعَ الجبهة
تغوصُ عيناهُ.. كَنصْليْنِ رصاصيَّيْن
أصرخُ من رهافة الحدَّين
.. أمضى بلا وجهة

وبذلك يسعى أمل دنقل عبر متوالياته الشعرية المتدفقة إلى إعادة تخليق الوقائع واستيلادها في حركات إيقاعية متنوعة تنهض على تقنية تعدد الأصوات وتداخلها، وشتل الصور من بعضها بعضًا، ساعيًا إلى مُكاشفة العالم والإصغاء إلى ندائه السري، مشدودًا إلى فسحة الحاضر بكل مفاجآته المدهشة. لذا عُنيَ فهمي عبد السلام بالإشارة إلى حرص أمل دنقل على تدوين تواريخ كتابة قصائده وإثباتها، وما يَدلُّ عليه ذلك من رِهانات معنى يُرسيها شرطها التاريخي، ووعيها النادر بالذات والعالم والمجتمع. على نحو ما نلتمسه، مثلًا، في قصيدة "فقرات من كتاب الموت" الذي كتبها عام 1969 إبان حرب الاستنزاف، واستعدادات مصر لمحو عار الهزيمة الدامية في الخامس من يونية عام 1967، ورفضها الخضوعَ والتطويعَ وقبولَ الأمر الواقع الذي يُحاول العدو الصهيوني فرضه علينا.
كلَّ صَباح..
أفتحُ الصنبورَ في إرهاقْ
مُغتسِلًا في مائِه الرقْراقْ
فيسقُطُ الماءُ على يدي.. دَمَا!
وعِندما..
أجلسُ للطّعام.. مُرغما:
أبصرُ في دوائِر الأطباقْ
جماجِمًا
جماجِما
مفغورةَ الأفواهِ والأَحداقْ!
فاجأني الخريفُ في نيسان
وطائرُ السّمَّان..
حطَّ على شواطىءِ البحرِ الشّماليّة
طلبتُ من تحبّهُ نفسي قبيل النومْ
فلم أجدْ.. إلا عذابَ الصوم
طلبتُ من تحبُّه نفسي
(في الظل والشمسِ)
فلم أجد .. نفسي!
***
وها أنا خلفَ النوافذِ الزجاجيّةْ
أترقبُ عندَ المغربِ الشاحِبْ:
طائريَ الغائبْ.
أو في قصيدته الفاتنة"الزهور" الذي كتبها في مايو 1982، عقب الزيارة التي قام بها وكيل وزارة الثقافة له بتكليفٍ من وزيره المرحوم عبد الحميد رضوان، في الغرفة رقم 8 بمعهد الأورام، حاملًا سلالًا كبيرة من الزهور تقديرًا له، بعد تعليمات د. فؤاد محيي الدين بعلاجه على نفقة الدولة. وفيها يُقدِّمُ أمل دنقل بعضًا من تأملاته في مغامرة الحياة الكبرى، والتساؤل عن مآلات الوجود، حيال التعقيد الذي يرفعه العالم في وجوهنا. أو بتعبير فهمي عبد السلام : "لا يتحدَّث الشاعر هنا عن الطيور فحسب، لكنه يتحدَّث عن نفسه وعمنْ يُشبهونه من المتمردين والآبقين، وعن الحرية التي تذهب هباء حين تنتهي بالموتِ والفناء".
وسلالٍ منَ الورِدِ،
ألمحُها بينَ إغفاءةٍ وإفاقةْ
وعلى كلِّ باقة
اسمُ حامِلِها في بِطاقةْ
***
تَتَحدثُ لي الزَهراتُ الجميلةْ
أن أَعيُنَها اتَّسَعَتْ – دهشةً -
لحظةَ القَطْفِ
لحظةَ القَصْفِ
لحظة إعدامها في الخميلةْ!
تَتَحدَّثُ لي..
أَنها سَقَطتْ منْ على عرشِها في البسَاتين
ثم أَفَاقَتْ على عَرْضِها في زُجاجِ الدكاكينِ، أو بينَ أيدي المُنادين،
حتى اشترَتْها اليدُ المتَفضِّلةُ العابِرةْ
تَتَحدثُ لي..
كيف جاءتْ إليّ..
(وأحزانُها الملَكيةُ ترفع أعناقَها الخضْرَ)
كي تَتَمنى ليَ العُمرَ!
وهي تجودُ بأنفاسِها الآخرهْ!!
***
كلُّ باقةْ..



بينَ إغماءة وإفاقةْ
تتنفسُ مِثلِيَ - بالكادِ - ثانيةً.. ثانيةْ
وعلى صدرِها حمَلتْ – راضيةْ
اسم قاتلها في بطاقةْ.
وبذلك قدَّمَ لنا كتاب" مذكرات الغرفة 8 مع أمل دنقل" للأكاديمي والكاتب فهمي عبد السلام أنموذجًا مُضيئًا لشاعرٍ كبيرٍ ملأ الدُّنيا وشغلَ الناس؛ بشاعريته الاستثنائية، وشخصيته الفريدة، وصعيديته الآسرة، ومُلَحِهِ ونوادره وأفكاره وآرائه في الحياة والبشر. فخسرنا بموته مُبدعًا عظيمًا، ورافدًا ثَرًّا من روافد العطاء والخصوبة؛ بعد أن أهدى ديوان الشعر العالمي بعضًا من صالحاته الباقيات على الزمن، وحفرَ لاسمه موقعًا ومكانة متميزيْن؛ بفضل صدقه الفني، وقدرته على تكوين علاقة حُرَّةٍ غير مُجزَّأةٍ مع الواقع.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مخرجة الفيلم الفلسطيني -شكرا لأنك تحلم معنا- بحلق المسافة صف


.. كامل الباشا: أحضر لـ فيلم جديد عن الأسرى الفلسطينيين




.. مش هتصدق كمية الأفلام اللي عملتها لبلبة.. مش كلام على النت ص


.. مكنتش عايزة أمثل الفيلم ده.. اعرف من لبلبة




.. صُناع الفيلم الفلسطيني «شكرًا لأنك تحلم معانا» يكشفون كواليس