الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هنريك، ملك الدانمارك

منير المجيد
(Monir Almajid)

2019 / 2 / 16
سيرة ذاتية


«أرى في الشعر فرصة للإنغماس في زمن سطحي تهيمن عليه الأخبار وبرامج الترفيه إلى درجة تُفقدنا الجذور وتشعرنا بالقلق. إنّه يُقرّبنا من طبيعة عالمنا الحقيقية، وفيه بوسعنا أن نقترب من الأسئلة الأبدية مثل الحب والشعور بالوحدة و الموت».
هكذا يصف الأمير هنريك الشعر لمناسبة صدور ديوانه عام ٢٠١٠.
قبل ثلاثة أيام مرّت الذكرى السنوية الأولى لرحيله بهدوء في قصر «فريذينسبورغ» مُحاطاً بزوجته، ملكة الدانمارك، وولديهما، لتتكشّف إحدى مآسي هذه البلاد: «النفاق».

هذا يتطلب بعض التفاصيل.
وُلد هنري ماري جان أندريه دو لابورد دو مونپيزات (هذا هو إسمه في الواقع) عام ١٩٣٤ في تالينس قرب بوردو، من عائلة فرنسية نبيلة.
انتقلت العائلة إلى فييتنام (كانت حينذاك مستعمرة فرنسية) فعاش هناك خمس سنوات. عادت العائلة إلى فرنسا بعد إندلاع حرب الهند الصينية الأولى. في مطلع الخمسينات ذهب إلى فييتنام ليُكمل دراسته، ثم إلى هونغ كونغ قبل أن يخدم في الجيش، مُشاركاً في الحرب الجزائرية (هنا لا نعرف الكثير من التفاصيل ومدى تورّطه في حرب فرنسا القذرة. لكن متى كانت جيوش الإحتلال مهذبة على مرّ التاريخ؟). بعد إنتهاء خدمته إلتحق بالسلك الدبلوماسي عوض الإلتحاق بالكونسرڤاتوار في باريس ليحترف عزف البيانو، شغفه الكبير.
خدم كسكرتير في السفارة الفرنسية في لندن، وهناك إلتقى بوليّة العهد الدانماركية مرغريته، لينتهي الأمر بهما إلى الزواج عام عام ١٩٦٧، وسرعان ما صارت زوجته ملكة البلاد عام ١٩٧٢ مباشرة بعد وفاة والدها الملك فريديريك.

شخصية الرجل تعرّضت طيلة السنوات الخمسين الماضية إلى الإنتقاد، لا بل إلى السخرية أيضاً. فالرجل فرنسي لم يتمكّن من لفظ اللغة الدانماركية المستحيلة أبداً، وهو لم يخف طريقة ملبسه ومأكله على الطريقة الفرنسية، في وقت لم تكن تعرف البلاد سوى بضع أكلات فقيرة قوامها لحم الخنزير والبطاطا.
وطبيعته، كما أهل الجنوب، تمثّلت أيضاً في طريقة تربيته لطفليه، التي لم تخل من صفعهم أحياناً. يقول في ذلك «أحب الأطفال كثيراً، إذا كانوا متربّين بشكل جيد. الأطفال مثل الكلاب والأحصنة، يجب كبحهم للتواصل معهم. أنا شخصياً حصلت على نصيبي من الصفعات حينها وهي ليست مُضرّة».
مثل هذه الأقوال لا تسير على نحو سهل في هذه البلاد، التي كانت قد نفضت عنها سنوات الحرب العجاف ودخلت عصر التطور الإقتصادي الباهر.

كان مهتماً، على نحو إستثنائي بالفنون والأدب. كتب، بالفرنسية رغم أنه كان يجيد الفييتنامية والصينية والإسبانية والإنكليزية أيضاً (لن أذكر الدانماركية)، عدة دواوين شعرية، وحفر العديد من التماثيل على الخشب. كتب في الطبخ ومارسه، واستمر في عزف البيانو. حتى أنه كتب كلمات أغنية أدتها فرقة «مايكل ليرنز تو روك» وشاركهم بالعزف على البيانو. كل هذا في الوقت الذي استمرّ فيه الدانماركيون بالسخرية منه.
لكن السخرية صارت إلى غضب حينما تسّربت الأنباء حول تذمّر الرجل وعدم رضاه عن الدور الذي يلعبه في البلاط الملكي الدانماركي. هو في الواقع لا حاجة اتيكيتية له سوى أنه جعل الملكة حبلى مرّتين. في الإستقبالات الرسمية كانوا يلبسونه ثياب عسكرية ويُثقلونه بالنياشين، ليُشبه ديكتاتوراً من أمريكا اللاتينية، ويكون دوماً خلف الملكة. وحينما صار إبنه البكر ولي عهد البلاد إنخفض مقامه وصار الشخصية الثالثة.
قبل ثلاث سنوات طالب بالمساواة في البلاط الملكي على نحو منطقي للغاية، فقال إذا تزوّج ملك من إمرأة فإنها ستكتسب لقب ملكة، أما إذا تزوّجت ملكة من رجل فإن الأخير سيصبح أميراً.
كان يحرد أحياناً فيذهب إلى قصره الريفي في فرنسا، هناك حيث يُنتج نبيذاً لم يلق إستحسان أحد ويُقدّمه خادم مغربي للضيوف، فتذهب الملكة لمراضاته وتعيده إلى قصر أماليان وسط العاصمة كوبنهاغن. «تصرفات صبيانية»، قال الدانماركيون.
في السنوات الأخيرة إزداد وزنه على نحو ملحوظ وكثُرت أمراضه. أعلن، على نحو مفاجئ، أنه لا يريد أن يُدفن في المقبرة الملكية في مدينة روسكيله، كما جرت العادة منذ مئات السنوات، بل يرغب أن يُحرق. قبل شهرين أعلن البلاط، في تصريح غير اعتيادي، أن الأمير مُصاب بالخرف.
في رحلة إلى مصر، التي كان يحبّها، عاد، قبل شهر من وفاته مُعانياً من إلتهاب رئوي، سرعان ما كشفت التحاليل عن ورم سرطاني.

حال إعلان نبأ موته، تبدّلت لغة الناس الساخرة، فشرعوا في امتداحه وفداحة خسارة البلاد لفقدان شخصية أعطت الكثير للبلاد. ذهب الناس إلى مختلف القصور الملكية في المدن الدانماركية ووضعوا الزهور والشموع. كتبوا على صفحات التواصل الإجتماعي معلّقات في حب الأمير. محطات التلفزيون رمت إلى جانب معظم البرامج التي خُطّط لها من قبل وصارت ترسل بشكل مباشر. كثُرَ الـ «مختصون» بمدح الرجل، وبُثّت عشرات الوثائقيات عن مطبخه وحديقة خضراوته، عن نبيذه وقصائده وعزفه ومنحوتاته.
وتكرّر إسم «هنريك»، أو «هنري»، أو حتى «أونري» حوالي مائة مليون مرة السنة الماضية، مثل هذه الأيام، لتمضي ذكراه الأولى بهدوء مريب. ذُكر بضع أحيان، وكتبت الصحف القليل عنه، ثم انتهى الأمر.
قد يُطلق أسمه على بعض الشوارع والساحات، وقد تُنصبُ له بضع تماثيل هنا وهناك قريباً، أو فيما بعد، وسوف تنتهي على الأرجح وصلة النفاق الدانماركية المرعبة فيما يخصّ الأمير هنريك، أو الملك هنريك كما أريد أن أنصّبه أنا. بالرغم من أنني شخصياً، وأقولها دوماً، لا أرى حاجة دول هذه القارة العجوز لملكات وملوك وأمراء وألقاب زرقاء. هؤلاء هم مجرّد أضحوكة في ديمقراطيات كبيرة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فصل جديد من التوتر بين تركيا وإسرائيل.. والعنوان حرب غزة | #


.. تونس.. مساع لمنع وباء زراعي من إتلاف أشجار التين الشوكي | #م




.. رويترز: لمسات أخيرة على اتفاق أمني سعودي أمريكي| #الظهيرة


.. أوضاع كارثية في رفح.. وخوف من اجتياح إسرائيلي مرتقب




.. واشنطن والرياض.. اتفاقية أمنية قد تُستثنى منها إسرائيل |#غرف