الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قانا في الذكرى العاشرة: المجازر ومساكنة الذاكرة

صبحي حديدي

2006 / 4 / 22
حقوق الانسان


المجازر، سيّما تلك التي تُرتكب ضدّ المدنيين الأبرياء على نحو جماعي عشوائي، لها أقدارها العجيبة التي لا تخصّ القاتل (الذي قد يكرّر المجزرة هنا وهناك، فيبدّل تفاصيلها على هذا النحو أو ذاك، ولكن دون أن يتبدّل هو أو تتبدّل هوية القتل)، بل تخصّ الضحية ذاتها أو الطرف الذي يزعم تمثيلها.
خذوا، في مثال أوّل، مجزرة مدينة حماة السورية (1982: قرابة 20 ألف قتيل، وقصف معظم أحياء المدينة، واستباحتها بالمعنى الحرفيّ للكلمة): كيف انقلب بعض زعماء جماعة الإخوان المسلمين السورية ـ وهم الذين زعموا تمثيل الضحايا والمدينة الشهيدة بأسرها، وكانوا في خندق المواجهة مع النظام من الوجهة اللوجستية والعسكرية على الأقلّ ـ إلى نطاسيين يصرفون الجهد اليوم في غسيل كفّ عبد الحليم خدام (نائب الرئيس السوري ساعة المجزرة) لأنهم ببساطة صافحوا تلك الكفّ، غير الطاهرة البتة والملوّثة بآثام وآثام، وبالتالي لا تجوز لأمثالهم مصافحة كهذه... شرعاً، والله أعلم!
أو خذوا، في مثال ثانٍ، مجزرة العامرية في بغداد، حين قامت القوّات الأمريكية بقصف الموقع بالقذائف الحارقة الخارقة للتحصينات، رغم معرفتها المسبقة أنه ملجأ مدني (أواسط شباط/ فبراير 1991: أكثر من 700 جثة محروقة من المدنيين الأطفال الونساء الوشيوخ). كانت تلك أمثولة صارخة على انفلات الضمير الأمريكي (بل والضمير الغربي إجمالاً، ودونما استثناءات ذات قيمة) من أيّ وازع أخلاقي؛ وكانت كذلك مثالاً مبكراً على انزلاق عمليات «عاصفة الصحراء» نحو عتبة محتومة، بربرية وحشية صرفة، ستعيد تذكير العراقيين والعالم أجمع بأن آخر سابقة لهذه العربدة البربرية كان تدمير المغول لبغداد عام 1258.
وفي بغداد ذاتها، ولكن قبل أقلّ من عام، اكتشف الإحتلال الأمريكي ـ وليس أجهزة الحكومة العراقية، للمفارقة! ـ ملجأ الجادرية الذي كان مسرح عمليات اعتقال وتعذيب للعراقيين، بيد العراقيين أنفسهم، في عراق ما بعد صدّام حسين، بإشراف وزارة الداخلية العراقية. وفي تقريره الرسمي إلى رئيس الوزراء العراقي إبراهيم الجعفري، روى اللواء جواد رومى الداينى، آمر اللواء الثاني، تفاصيل مريعة عمّا كان يجري في ذلك الملجأ، بينها هذه الشهادة التي أدلى بها مواطن عراقي، ليس أمام ضابط عراقي للأسف، بل أمام الجنرال الأمريكي هورست، الذي اقتحم الملجأ: "قوّات الحسين من مغاوير الداخلية اغتصبت زوجتي أمامي وأمام أخوتي الأربعة الموجودين معي في المعتقل حالياً، مع العلم أنني من عائلة شيعية وليس لي علاقة بالإرهاب".
أو خذوا مجزرة قانا، التي حلّت ذكراها العاشرة قبل أيام معدودات: أكثر من 100 قتيل مدني، من الأطفال والنساء والشيوخ كالعادة، جرّاء القصف الإسرائيلي لموقع تابع للأمم المتحدة اتخذه هؤلاء ملاذاً، ثم عرقلة عمليات الإنقاذ عن سابق عمد وعن طريق مواصلة القصف المدفعي والصاروخي. كيف تجد بعض قيادات "حزب الله"، الذي كان يقود مقاومة الإحتلال الإسرائيلي وكان ذريعة القصف كما قال الإسرائيليون، أنها اليوم تقف عملياً ضدّ رغبة غالبية اللبنانيين في التحرّر أكثر فأكثر من تراث الهيمنة الأمنية والعسكرية التي مارسها النظام السوري طيلة عقود؟ وكيف يحدث أنّ قيادات المقاومة لا تدافع اليوم عن أحد قدر دفاعها عن نظام الإستبداد السوري، بل وعن "سورية حافظ الأسد" و"سورية بشار الأسد" لكي نستخدم التعبيرين الرثّين اللذين نطق بهما الشيخ حسن نصر الله نفسه، أمام الملايين، في قلب بيروت؟
صحيح أنّ "حزب الله" كان حليف النظام السوري على الدوام، وأنّ لهذا التحالف موجبات تكتيكية واستراتيجية وجيهة رغم أنها ليست في معظمها سليمة أخلاقياً، ولكن ألم تتغيّر الأحوال والمعادلات والتوازنات على نحو يدفع بالمقاومين السابقين إلى ترجيح الكفة الأخلاقية قليلاً، دون خسران الكثير؟ وكيف يصحّ أنّ "حزب الله"، في إحياء الذكرى العاشرة لقصف ملجأ القوّات الفيجية في قانا، يبدو وكأنه يبصم بالأصابع العشرة على السياسات ذاتها التي كان يعتمدها، ليس بصدد إسرائيل أو الاستبداد السوري أو حافظ الأسد أو وريثه بشار الأسد، بل بصدد آمال الشعب السوري في التحرّر والحرية والديمقراطية والكرامة، هذا الشعب نفسه الذي لم يبخل على المقاومة اللبنانية بأية تضحية، في أيّ يوم؟ وهل من مفارقة في أنّ أشدّ مظاهر إحياء الذكرى العاشرة فعاليةً لا تجري في قانا ذاتها، وليس على يد قيادات "حزب الله"، بل في الولايات المتحدة حيث يقوم "مركز الحقوق المدنية" CCR برفع دعوى قضائية ضدّ الرئيس السابق للمخابرات العسكرية الإسرائيلية، موشيه يعلون، نيابة عن أسر الضحايا؟
وقانا هذه كانت مجزرة مكشوفة صريحة نُفّذت عن سابق عمد وتصميم، كما برهنت تحقيقات الأمم المتحدة ومنظمة العفو الدولية والتقارير الشجاعة التي كتبها الصحافي البريطاني روبرت فيسك، وكانت في الآن ذاته جريمة حرب فظة قائمة على بربرية متعمدة. لكنّ القتلة ظلوا بمنجى عن أية مُساءلة داخلية (أمام ما نطلق عليه تسمية "الديمقراطية الإسرائيلية" إياها)، أو محاسبة دولية (أمام الهيئات التي تسترخي في أروقة محكمة لاهاي الدولية، وتستفيق من رقادها بين حين وآخر للمحاسبة على جرائم الحرب التي تجيز الولايات المتحدة الحساب عليها). ولهذا فإنّ استذكار قانا ـ إلى جانب الدروس العديدة السياسية والأخلاقية والتاريخية التي تصنعها مجازر حماة وحلبجا والعامرية والفلوجة وجنين... ـ ترتدي طابع اقتران الحاضر بدروس/ كوابيس الأمس، وكأنّ الإنسانية لا تتعلّم إلا على نحو انتقائي، أو لا تتعلّم إلا لكي تنسى وتتناسى، أو تجهل وتتجاهل.
وفي ما يخصّ دارفور، أو مزارع شبعا، أو التحقق من تنفيذ القرار 1559، أو مقاطعة الحكومة الفلسطينية لأنها تمثل "حماس"، أو إدانة "الإرهاب" الفلسطيني... فإنّ الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان أسد هصور وفارس لا يُشقّ له غبار. لكنه في ما يخصّ المجازر الإسرائيلية ضدّ الشعب الفلسطيني، والمجازر الأمريكية ـ البريطانية ضدّ الشعب العراقي، مجرّد نعامة مهذبة مذعورة خجولة تدفن رأسها في الرمال، وكفى الله الأمين العامّ شرّ القتال! ولهذا فإنّ الذكرى العاشرة لمجرة قانا تذكرة بهذا النظام الدولي الرثّ الذي يجعل أنان اليوم صورة طبق الأصل عن سلفه بطرس بطرس غالي قبل عشر سنوات، أيّام مجزرة قانا. وإذا كان الأخير قد اضطر إلى نشر تقرير الأمم المتحدة الذي يثبت مسؤولية إسرائيل عن مجزرة قانا، فدفع الثمن مباشرة حين أطاحت به وزيرة الخارجية الأمريكية الأسبق مادلين أولبرايت بالضربة القاضية القاتلة، فإنّ أنان مضطر اليوم إلى حضور اجتماعات قادة الحلف الأطلسي بوصفه رجل تضميد الجراح حين يأتي دور الدبلوماسية، ورجل الإدانات اللفظية والمناشدات الكلامية.
لكنّ للمجازر أقدارها في ما يخصّ القتلة كذلك، وهاهو شمعون بيريس، جزار قانا ورئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، يفتتح الكنيست الإسرائيلية الجديدة بوصفه النائب الأكبر سنّاً... فقط، وليس أكثر! في عبارة أخرى، لم يعد لهذا السياسي الإسرائيلي المخضرم الأقدم خبرة وخبثاً سوى رصيد السنّ، وما تبقى ذهب أدراج الرياح في ناظر شارع إسرائيلي متقلّب مضطرّب تمنحه "الديمقراطية الإسرائيلية" ذاتها فرصة إنزال العقاب بالساسة الشيوخ والساسة الشباب، المدنيين والجنرالات على حدّ سواء. ونتذكر أنّ هذه الديمقراطية استنكفت تماماً عن محاسبة القتلة المسؤولين عن مجزرة قانا، بل وأنكرت أن يكون قصف الملجأ قد تمّ عن سابق قصد وتصميم.
في المقابل، ما فعله المجتمع الإسرائيلي (أو نصفه على الأقلّ) كان الإطاحة بفريق السلام (بيريس وحزب العمل) واستقدام فريق الحرب (بنيامين نتنياهو وحزب الليكود)، وكأنّ المجتمع يقول: نريد نتنياهو، ليس من أجل المزيد من أمثولات قانا (أو دير ياسين، أو صبرا وشاتيلا) فحسب، بل من أجل ترقية رجل لن يتردد في إلغاء ما تعاقدت عليه الدولة من مواثيق واتفاقات. كانت قانا أمثولة أمنية لشارع إسرائيلي هستيري باغتت فكرة السلام حصونه الأمنية، ثمّ أفزعته على نحو وجودي شامل فأطلق رصاصة المسدس على «نبيّ السلام» الأوّل إسحق رابين، وبعدها أطلق رصاصة صندوق الإقتراع على «نبيّ السلام» الثاني شمعون بيريس.
وكان بيريس قد ارتكب العديد من الأخطاء القاتلة التي أفضت إلى هزيمته وتمريغ كرامة مشروعه الشخصي عن السلام و"الشرق الأوسط الجديد" في أوحال بلاغة نتنياهو ومناخات الترهيب الداخلي عن طريق التلويح بأشباح «الإرهاب» العربي والفلسطيني. المفارقة، مع ذلك، ظلت كامنة في أن خطأ بيريس الأكبر كان جزءاً لا يتجزأ من ميله (وهو، هنا أيضاً، ميل صهيوني عريق) إلى ممارسة الإرهاب لأسباب وجودية. وبهذا المعنى فإنّ بيريس في تنفيذ مجزرة قانا لم يكن قد ارتكب «خطأ»، بقدر ما انخرط في ممارسة تلقائية كانت ستندرج في خانة المآثر الكبرى الكفيلة برفع رصيده السياسي وتجميل صورته في عين الناخب الاسرائيلي.
ذلك الإرهاب التلقائي النابع من أسباب وجودية قاد بيريس إلى قرار اغتيال يحيى عبد اللطيف عياش، أو "المهندس"، أحد أبرز كوادر كتائب عز الدين القسام، وتحميل العملية (الطافحة أساساً بالكثير من الإثارة المسرحية، لأنّ الاغتيال جرى عن طريق عبوة ناسفة زُرعت في هاتف جوّال كان "المهندس" يستخدمه) رسالة بليغة إلى الفلسطينيين تفيد باستمرار تواجد الاحتلال، والتذكير بأن ذراع الدولة العبرية الضارب هو أقرب من حبل الوريد. المفارقة أنّ استشهاد «المهندس» جرّد قيادات «حماس» السياسية من ذرائع الإعتدال وانتظار استكمال الانتخابات بوصفها الاستحقاق السياسي الفلسطيني الأبرز في ذلك الطور من العملية السلمية (ألا يعيد التاريخ نفسه، في موقع "حماس" السياسيّ اليوم؟)، وأفسح المجال أمام انعتاق الحرج الآخر الذي كان يكبّل فصائل عز الدين القسام ويشلّ عملياتها.
وكان طبيعياً أن تكرّ السبحة: استشهاد «المهندس» أفضى إلى العمليات الانتحارية لشهر آذار (مارس) 1996، وإلى انفتاح الملفات الأمنية التي طمست دروس اغتيال رابين، وانعقاد قمّة شرم الشيخ حيث بدا بيريس أشبه بطفل مدلل يسهر العالم بأسره على ضمان راحته السياسية، وعملية «أعناب الغضب» التي استهدفت تعميد بيريس بدم «الإرهابيين» وإكسابه بعض خصال الـ Mr. Security فانتهت إلى تلطيخ يديه بدم الأبرياء في قانا، مرّة وإلى الأبد.
ويبقى أنّ للمجازر أطوارها الغريبة في مساكنة الذاكرة على نحو لا تفلح في طمسه تبدّلات الزمن وتحوّلات السياسة وميل التواريخ إلى تكرار الوقائع الدامية التي تُنسي الآدميّ درساًعتيقاً، لصالح الدرس الجديد. ولم تكن المصادفة وحدها هي التي أدخلت أشلاء الإسرائيليين إلى قلب الذكرى العاشرة لمجزرة قانا، حين توجّب إجراء المقارنات بين ضحايا العملية الإنتحارية الأخيرة في تل أبيب، وضحايا مجزرة قانا، فضلاً عن المشهد الذي لا يغادر سيكولوجية اليهود الجمعية: الجثث المحترقة في أوشفتز! المشهد الثالث يُبقي اليهودي في ذاكرة الكابوس والاحتراس والشكّ في نوايا العالم «المتمدن» دون سواه، شرقاً وغرباً على حدّ سواء؛ والمشهد الثاني يُبقي اليهودي في شرنقة الأمن وثقافة الإنكفاء على الذات وإدمان العصاب الجماعي، ولكن دون أن يخلّص الشرنقة أو الذات أو الجماعة من هواجس الوجود والعدم؛ والمشهد الثالث يذكّر بأنّ تلك الهواجس لا تسير إلا من سيء إلى أسوأ!
وهذه، في نهاية الأمر، بعض طبائع التاريخ في مساكنة الذاكرة...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تونس.. مؤتمر لمنظمات مدنية في الذكرى 47 لتأسيس رابطة حقوق ال


.. اعتقالات واغتيالات واعتداءات جنسية.. صحفيو السودان بين -الجي




.. المئات يتظاهرون في إسرائيل للمطالبة بإقالة نتنياهو ويؤكدون:


.. موجز أخبار السابعة مساءً - النمسا تعلن إلغاء قرار تجميد تموي




.. النمسا تقرر الإفراج عن تمويل لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفل