الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


على هامش الرحلة، وإصلاح الجامعة المصرية

أسامة عرابي
(Osama Shehata Orabi Mahmoud)

2019 / 2 / 21
مواضيع وابحاث سياسية


على هامش الرِّحلة، وإصلاح الجامعة المِصريَّة
أسامة عرابي
يُمثِّل د.محمد أبو الغار أستاذ الطب النابه بقسم التوليد وأمراض النساء بكلية الطب - جامعة القاهرة، ظاهرة علمية.. فكرية.. سياسية جديرة بالانتباهِ والالتفات، عبر سعيه إلى عصرنة المجتمع المصري ودمقرطته ؛ من أجل تاريخ جديد يسعُ الجميع، ويصنعُه الجميع. وقد تنوَّعتِ اهتماماتُه وأدوارُه العامَّة لتشملَ : رئاسة الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي سابقًا.. وعضوية مجلس أمناء جائزة ساويرس الثقافية، وجماعة العمل من أجل استقلال الجامعات، المعروفة إعلاميًّا بجماعة 9 مارس. وأحد حُكَّام كرة القدم المعتمَدين من اتحاد الكرة المصري، وحامل راية في مباراة الزمالك والبلاستيك تحت 21 عامًا عام 1966. بالإضافةِ إلى أبحاثه في تخصُّصِهِ الدَّقيق، وكتاباتِه الصَّحفيةِ، وولعِهِ بالتَّاريخ والأدَّب والفنّ لاسيما الفن التشكيلي والموسيقى. حتى إنه كان ولايزال"يُعطي نفسه الوقت الكافي بعد نهاية كلِّ مؤتمر علميّ يُشارك فيه، لمعرفة البلد الذّي يزوره وشوارعه وناسه ومتاحفه ومسارحه وأوبراه وموسيقاه الكلاسيكية والفنون التَّشكيلية بأنواعها كافة، وأدبهم وديمقراطيتهم"؛ إيمانًا منه بأنه"إذا كان لنا تاريخنا وثقافتنا الخاصَّان، فإن الثَّقافة الأوربية هي خلاصة تقدُّم البشرية جمعاء". الأمرُ الذي يَشي بجديَّةِ تعامُلِهِ مع الهموم السِّياسية والثَّقافية العامَّة التي دعته إلى أنْ يستخلصَ من وقتِ بحوثه العلمية وممارسة مهنة الطب عاميْن لإنجاز كتابه"يهود مصر من الازدهار إلى الشَّتات"؛ ليُقدِّمَ لنا قراءة سياسية وتاريخية متميزة، مُشدِّدًا النَّبْرَ على أن من واجب كلٍّ من الدَّارس والقارئ أنْ يُراعي عند تقييمِ الأحداثِ والكتاباتِ والمواقفِ السِّياسية والتَّاريخية الزمنَ الذي حدثتْ فيه هذه الأمور، على حدِّ تعبيرِهِ. ولعل مَنْ طالعَ أسفاره الثَّلاثة: إهدار استقلال الجامعات.. يهود مصر من الازدهار إلى الشَّتات.. على هامش الرِّحلة، يُدرك حيوية الطَّابَعِ الثَّقافي الموسوعي لهذا الرَّجل، وهو يُعبِّرُ عن وعيه بالمسئولية الأخلاقية للباحث والمفكِّر ورجل العلم، حين يُواجه اختياراته السياسية التَّاريخية، ومشروعه في النُّهوض الوطني والمجتمعي. فقد آمنَ منذ البدءِ بمقولةِ عميدِ الأدبِ العربيِّ د. طه حسين:"لا ينبغي أنْ ننتظرَ تعليمًا صحيحًا مُنتجًا من جامعةٍ لا يتمتعُ رجالُها بالاستقلال والحرية التي تُمكنهم من العناية بالعلم من غيرِ خوف". لذا عُنيَ في كتابيْه: إهدار استقلال الجامعات -2001، وعلى هامش الرِّحلة _2004، بمناقشة قوانين تطوُّر الجامعة، وانعكاسها على التَّقاليد الأكاديمية والمستوى العلمي والبحثي في الجامعة. مُطالبًا بتغييرِها لإعطائها دفعة تُساعد المجتمع كلَّه على النُّهوض، وتقليص الأمور التَّنفيذية للمجلس الأعلى للجامعات، والتَّركيز على دوره الأساسي وهو التَّنسيق والتَّخطيط والمتابعة للجامعات، مع إعطاء أكبر قدرٍ من الاستقلال للجامعات؛ حتى يُمكنَ أنْ تتمايزَ لخدمة المجتمع. لهذا أهدى كتابه"إهدار استقلال الجامعات" إلى رواد استقلال الجامعات: الشيخ مصطفى عبد الرَّازق أستاذ الفلسفة الإسلامية، وأحمد لطفي السَّيِّد أستاذ الجيل، والشَّيخ أمين الخولي رائد التَّنوير، والدّكتور طه حسين عميد الأدب العربي، مُدافعًا عن حرية التَّفكير والبحث والنّشر واتخاذ القرار؛ لإدراكِهِ الشَّديدِ بأن استقلال الجامعات جزءٌ مُتمِّمٌ للحريات الأكاديمية التي تمَّتْ صياغتُها في"إعلان ليما للحريات الأكاديمية" الذي نصَّ في مادته الخامسةَ عشرةَ على أن استقلال الجامعات يشملُ حقَّها في إصدار قراراتِها الإدارية، وتحديد سياستها التَّعليمية والبحثية، ومُختلِفِ صور النَّشاط بها.. بعيدًا عن وصاية وزير التَّعليم العالي، وهيمنة المجلس الأعلى للجامعات الذي حوَّلَ الجامعاتِ المِصريةَ إلى وحداتٍ إداريةٍ تابعةٍ له، وأصبحَ له حقُّ رسمِ السِّياساتِ العامَّةِ للتَّعليم.. أو بتعبيرِ د. أبو الغار:"أصبحَ للمجلس الأعلى للجامعات حقُّ التَّدخُّلِ في أبسطِ شئونِ مجالس الأقسام، مُطيحًا بالدّخل المتواضع وحقِّ العلاج في مكانٍ لائقٍ للرّواد من الأساتذة الكبار". بَيْدَ أنَّ ظهورَ البترولِ – كما يقول د. أبو الغار- كان سببًا مهمًّا في النَّكسة العلمية والاقتصادية والثَّقافية التِّي أصابتْ مصرَ"فقد منعَ التَّطوَّرَ الطَّبيعيَّ للاقتصاد، وحَدَّ من الابتكار، والاعتماد على النَّفس؛ وذلك لوجود مصدرٍ سهلٍ وبسيطٍ للرِّبحِ. وكانتْ أموالُ البترولِ وراءَ بناءِ كَمٍّ هائلٍ من القرى في السَّاحلِ الشَّماليّ لا تُستغلُّ إلَّا بضعة أسابيعَ في العامِ.. وكان هذا الحجمُ الضخمُ من الاستثمارات كفيلًا ببناء قاعدةٍ صناعيةٍ تصبُّ فيها مدخراتُ المِصريين. كما عملتْ أموالُ البترولِ على تصديرِ الثَّقافةِ البدويةِ السَّلفية الِّي أثَّرتْ على العمالة المِصرية التِّي أقامتْ هناك سنواتٍ، أو بالتَّأثير الإعلاميِّ داخل مصرَ.. وانتشرَ الفسادُ، وترسَّختْ تبعية مشايخ البترول للإمبريالية العالمية". لهذا نلتقي في كتاب د. محمد أبو الغار"على هامش الرِّحلة" الذي صدرتْ طبعتُهُ الأولى عام 2003 عن"الهيئة المِصرية العامَّة للكتاب"، وطبعتُهُ الثَّانيةُ عن"دار الشُّروق" عام 2011، نلتقي بحصادِ رحلةٍ طويلةٍ مُضنيةٍ لمسارِهِ الاجتماعيِّ والتَّعليميِّ والعلميِّ والوجدانيِّ والأخلاقيِّ، يمتزجُ فيه الخاصُّ بالعامِّ، ويتجادلُ فيه الذاتيُّ مع الموضوعيِّ، والوقائعيُّ مع التَّحليليِّ؛ ما يعكس لنا هُوِيَّتَهُ الفكريَّة، ورؤيتَهُ للعالمِ وللتَّاريخ، وتصوُّرَهُ للمستقبلِ. لذا يندرجُ كتابُهُ في إطارِ جنسٍ مُخالفٍ لجنس السِّيرةِ الذَّاتية المُعتادة، ليُشكِّلَ ما يُمكنُ أن ندعوَهُ بالسِّيرة الثَّقافية العلمية.. أو بتعبيرِهِ هو:"إنه نوعٌ من السِّيرة الذَّاتية التي يلعبُ فيها الوطنُ دورَ البطولة". فالذَّاتُ هنا ليستْ هُوِيَّةً دائرية مغلقة، بل هي مُنفتحةٌ على أزمنةٍ لا حصرَ لها، لتتخذَ مواقفَ واضحةً منَ التُّراث والتَّاريخ والواقع والسِّياسة، واستيعاب منجزات الثَّورة العلمية والتِّكنولوجية، والتَّأسيس لاختياراتِهِ الحرَّةِ، ومُجابهة الإشكالياتِ التي يطرحُها واقعُهُ الرَّاهن. من هنا؛ جاء كتابُهُ"على هامش الرِّحلة" جدارية تشملُ أهمَّ المحطاتِ والتحوُّلاتِ الكبرى التي عرفتها مصرُ منذ الرُّبعِ الأخيرِ من القرن التاسعَ عشرَ حتى نهاية السَّبعينيَّاتِ منَ القرنِ العشرين، من تاريخِها الاجتماعي والاقتصادي والثَّقافي، وما حايثها من تطوُّرٍ قِيميٍّ، عبر رؤيةٍ نقديةٍ، لا تركِنُ إلى إجابةٍ كسولٍ، ولا إلى تمذهُبٍ قاصرٍ. فقد أمضى الرَّجلُ جُلَّ حياته مُستقلًّا، لم تعرفْ قدماه الطَّريقَ إلى تنظيمٍ أو حزبٍ أو هيئةٍ ما؛ مُعلِّلًا ذلك بأن عائلتَهُ كانتْ مُحايدةً للغايةِ، ولا تتدخَّلُ في السياسة حسبما أسرَّت له جَدتُهُ. ومن ثَمَّ؛ لم تكنْ لأسرته علاقاتٌ ولا صداقاتٌ بأيٍّ منَ السِّياسيين، أو منْ له صلةٌ بالشَّأنِ العامِّ. مُعترفًا بأن الإخوانَ المسلمين كانتِ الجماعةَ الوحيدةَ التي حاولتْ تجنيدَهُ. "ولم يحدثْ أن حاول اليساريون على اختلاف جبهاتِهم ضمّي إليهم، على الرَّغمِ من تعاطفي الشديدِ معهم، والذي استمرَّ حتى الآن.. ولم أُدعَ إلى أيٍّ من تنظيمات الدَّولةِ بدءًا من هيئة التَّحريرِ، وصولًا إلى الحزب الوطنيّ". وإنْ شاركَ د. أبو الغار عقب ثورة الخامس والعشرين من ينايرَ 2011 في تأسيس الحزب المِصريّ الدِّيمقراطيّ الاجتماعي، وأصبح أولَ رئيسٍ له، وهو حزبٌ_ كما نعلم _ يتبنَّى إيديولوجية ليبرالية اجتماعية، تُؤمنُ باقتصاد السُّوق. وقد رصدَ لنا د. أبو الغار، وهو بعدُ طالبٌ في مدرسة الإبراهيمية الثَّانوية، طبيعةَ الصِّراعاتِ السياسيةِ التي نشأتْ بين التَّنظيمات والأحزاب المختلفة، لاسيما بين جماعة الإخوان المسلمين وهيئة التَّحرير، وكيف كان يجري تجنيدُ الطُّلابِ لكليْهما.. فبينما كان تنظيم الإخوان المسلمين يقومُ على السَّمع والطَّاعة والنِّظام،"ويدفعُ أعضاؤه قروشًا قليلة كرسمِ اشتراك... كانتْ تتمُّ دعوةُ بعضِ التَّلاميذِ للانضمامِ إلى هيئةِ التَّحريرِ مقابلَ بعضِ المميزاتِ الماديةِ والعينيةِ المتمثِّلةِ في نقودٍ تُمنحُ لهم ورحلات وحفلات مجانية"، مؤكِّدًا أنهم "كانوا أسوأَ الطَّلبةِ خلقًا، كل هَمِّهم هو ترديدُ الشِّعارات المُملاةِ عليهم دون وعي أو اهتمامٍ يُذكرُ بمضمونِها"؛ الأمرُ الذي جعلهم يتقلَّبون بين ظهراني الأحزاب المختلفة كالاتحادِ القوميِّ والاتحادِ الاشتراكيِّ وحزب مصرَ فالحزب الوطنيِّ" دون خجلٍ أو تبريرٍ لسلوكهم هذا؛ فقادوا حركة الفسادِ الضخمةَ داخل نظام الحكمِ بعد اعتلائهم مُختلِفَ المناصبِ" وفقَ تعبيرِهِ. وهنا رأى د. أبو الغار أن الطَّابَعَ اللاديمقراطيَّ الذي وسمَ مجتمعَنا المِصريَّ بميسمِهِ، وأفضى إلى تصفية الحياة السِّياسية، واعتقال النَّاشطين فيه، وممارسة وصاية إيديولوجية على الجماهير الشَّعبية، صرفَ طاقة شباب أبناء جيله"باتجاه لعبِ وتشجيعِ الكرة، وأشياءَ أخرى مشابهةٍ ؛ بعد أن توقَّفَ حماسُ الشَّبابِ لمبدأ من المبادئ أو لحزبٍ من الأحزاب.. وتوقَّفَ أيضًا التَّفكيرُ والكفاحُ في القضية الوطنية والمستقبل؛ بعد أن وكَّلتِ الأمَّةُ راضية ومُجبرة في آنٍ واحدٍ الزَّعيمَ عبدَ النَّاصرِ لاتخاذ ما يراه لازمًا في مُختلِفِ قضاياها". ويُضيفُ د. أبو الغار قائلًا:"وحين أفكِّرُ الآنَ فيما حدثَ لنا خلالَ السبعين عامًا الماضية في الأخطاء الفادحة التي دفعَ الشَّعبُ ولايزالُ يدفعُ ثمنَها، وربما سوف تستمرُّ أجيالٌ قادمة في دفعِ الثَّمنِ، أعتقد أن جذور المشكلة بدأت في تلك الحقبة".. وحين كان شبابُ تلك الفترة – وهو أحدهم- يبحث عن"دورٍ يُشاركون فيه لخدمة الوطنِ ومستقبلِهِ، وجدوا البابَ أمامهم مغلقًا، ولا تُوجدُ فرصة حقيقية لأن تقولَ رأيَكَ ولا حتى أن تُفكِّرَ.. الفرصة الوحيدة هي الانضمام إلى هيئة التَّحرير". وبذلك انتهى الأمرُ ببعض أبناء جيله إلى"أنْ يأخذَ السِّياسة هواية شخصية ليستْ للممارسة، ولكنْ للفهمِ الشَّخصيِّ"، وانقسمَ جيله إلى أقسامٍ أربعةٍ على نحو مايذهب إليه"أكبرهم فئة التِّكنوقراط التي نسِيتْ تمامًا قضية الوطن والمستقبل والتَّفكير في مصر، ولم يجذبْها أيُّ تيارٍ يساريٍّ أو يمينيٍّ، وتعيشُ في حالةِ انقطاعٍ تامٍّ عن الفكر والمعرفة والتَّاريخ، ولا يوجد في مكتبتِها كتابٌ واحدٌ سوى القرآنِ الكريم وبعضِ الكتبِ المُهداةِ من المؤسسات والشَّركات. وهؤلاء هم قادة المؤسسات العلمية والجامعية والهيئات الفنية والتِّكنولوجية في مصر وكبار رجال الحزب الحاكم السابق. القسم الثَّاني: دخلَ لُعبة السِّياسة من أجلِ الوصول إلى السُّلطة، والحصول على الثَّروة والنِّفوذ. القسم الثَّالث: كان عددُهُ قليلًا، أرادَ المشاركة بفكرٍ حقيقيٍّ، معلنًا رأيه؛ فضُربَ بقسوةٍ وصلت- في بعض الأحيان _ إلى الفصلِ من العمل، والزَّجِّ به في غياهب السّجون والمعتقلات ؛ في رسالةٍ واضحةٍ للجميعِ بأن أيَّ تفكيرٍ يستهدفُ التَّغيير ولو كان بسيطًا، شيءٌ غيرُ مسموحٍ به على الإطلاق. القسم الرَّابع: عاش على الهامش على الرَّغم من اهتمامه بالسِّياسة، وحبِّه لوطنه، وثقافتِهِ الكبيرة، وإجادتِهِ تخصُّصَهُ.. فكان يُسمحُ له بين حينٍ وآخرَ بأنْ يقولَ كلمة، أو يكتبَ مقالًا، لكنَّه ظلَّ طَوالَ الوقتِ مُهمشًا". بل وصلتِ الدِّيماجوجية بالآلة الإعلامية للنِّظام حدَّ استثمار دعوة الفيلسوف الفرنسيّ "جان بول سارتر" ورفيقة دربه "سيمون دو بوفوار" إلى مصر، في مارس/ آذار 1967، بدعوةٍ من جريدة الأهرام، كان مهندسها المرحوم لطفي الخولي، في تجيير صورة النِّظام وتجميلها؛ فذهبوا بهما إلى قرية كمشيش بمحافظة المنوفية؛ ليلتقيا بمجموعةٍ من الفلاحين والفلاحات، الذّين كُتبتْ لهم أسئلة راحوا يقرءونها من ورقةٍ لا يعلمون عن فحواها ومضامينها شيئًا يُذكر؛ "عن الدِّيناميكية والمرجعية وأنواع الوجودية، ومقارنة فلسفة سارتر بفلسفات الوجوديين الأوائل. وسألتِ الفلاحاتُ سيمون دو بوفوار عن روايتها الأخيرة، وحبكتها الدِّرامية". ويُعلِّق د. أبو الغار على هذه الواقعة الخطيرة فيقول:"عندئذٍ أدرك سارتر وسيمون أنه جرى توظيفُهما في مسرحيةٍ رديئةٍ للدعاية المزيَّفةِ للنظام؛ بدءًا من هُتاف التَّلاميذ لهما عند قُدومِهما: يعيش سارتر.. تعيش سيمون.. مُرورًا بضرب الشُّرطة للفلاحين بالقايش في زحامهم للدخول، انتهاءً بمهزلة الأسئلة. وكتبَ سارتر بعد ذلك كلامًا سلبيًّا عن نظام الحُكم في مصر، مُقارنًا بما كتبه عن إسرائيل". وبذلك يرى د. أبو الغار أن تجاوزَ الإخفاق السِّياسي، ومواجهةَ شططِ السُّلطة وفائضِ قوتِها البوليسيّ، لن يتأتيا دون مشروعٍ سياسيٍّ يتمثَّلُ في الحرية والعقلانية، وبناء المواقف والتصوُّراتِ القادرة على رسم معالم المستقبل؛ دفاعًا عن ثقافة التَّحديثِ والتَّقدُّمِ. لهذا توقَّفَ عند دِلالات المعركة الانتخابية النيابية التي دارتْ رحاها بين الصَّاغ مجدي حسنين _ من الضباط الأحرار، صفّ ثانٍ_ الذي رأس مشروعَ مديرية التَّحرير عام 1954، وبين الكاتب الصحفيّ موسى صبري، في دائرة قصر النيل، وكيف كان أنصارُ مجدي حسنين يرفعون شعاراتٍ طائفيةً في مواجهةِ مُنافِسِهم موسى صبري، هاتفين: يسقط موسى صبري شنوده... يسقط شنوده... موسى صبري شنوده هذا خائنٌ للوطن.. لتنتهيَ المهزلةُ بشطبِ موسى صبري وكلِّ منْ لم يحظوْا برضا النِّظام وعطفه؛ فيفوز مرشحو النِّظام بالتَّزكية، وفي طليعتهم مجدي حسنين، فتعلَّمِ د. أبو الغار"أول درسٍ انتخابيٍّ على الطَّبيعةِ في الدِّيمقراطية الجديدة" على حدِّ تعبيرِهِ. ولاحظَ د. محمد أبو الغار بحقٍّ محاولاتِ النِّظام الحثيثةَ لإقناعِ الشَّعب بإمكانِ تأجيل الدِّيمقراطية حتى يتمكنَ من استئصالِ شأفةِ الفساد، عبر جهازه الإعلاميّ وكُتَّابه ؛ لكي يَقرَّ في روع الجميع أن النِّظامَ هو وحده صاحبُ الحقِّ في احتكارِ المبادرة السِّياسية ؛ وبحيثُ يمتنعُ على الجماهير تصوُّرُ أيِّ تغييرٍ لصالحها إلَّا عبر السُّلطةِ التَّنفيذية، وباعتبارِهِ منحةً منها. لذا لا يُمكنُ تخطي عتبة التَّأخُّرِ وبناء النَّهضةِ المنشودة دون مشروعٍ شاملٍ يجلو لنا أسئلة واقعِنا المِصريّ في ارتباطها بفضاء الصراع السِّياسيّ والثَّقافيّ، وتحصيل ما يُؤهلنا لانخراطٍ فاعلٍ في مجتمعِنا وزمانِنا. من هنا؛ جاءَ مغزى إشارةِ د.محمد أبو الغار في كتابه"على هامش الرِّحلة" إلى" أن فارق المستوى العلمي عند دخوله إعدادي طب في أول أكتوبر 1956، بين أستاذ العلوم المِصري ونظيره الإنجليزي أو حتى الأميركي، كان مُتقاربًا، وكانتِ الأبحاثُ المِصريةُ تُنشرُ في كبرى المجلات العلمية، والتَّرقياتُ في الجامعة تتمُّ بالمنافسة بين أحسنِ الباحثين، وكان التَّحكيمُ في كلية العلوم دقيقًا وأمينًا، وكثيرًا ما كانتْ تُرسَلُ الأبحاثُ إلى الخارجِ للتَّحكيم". غيرَ أنه وجد"أننا في ذلك العصر الذَّهبيّ لكلية العلوم، لم نخترعْ شيئًا أو نقدِّمْ تطويرًا مهمًّا في التِّكنولوجيا، وأعتقد أن ذلك راجعٌ إلى أن معظم أعضاء هيئة التَّدريس كانوا يُعطونَ وقتهم للتدريس، أما البحثُ فلم يكنْ له وقتٌ كافٍ، والأموالُ التي تُصرفُ عليه كانت محدودةً". وقد حدَّثنا د.أبو الغار في دراسته المهمَّة"إهدار استقلال الجامعات"عن أنه بعد ثورة يولية مباشرة عام 1952، كوَّنتْ حكومة الضُّباط الأحرار لجنة على مستوًى عالٍ لدراسة أحوال الجامعات، وتقديم اقتراحاتٍ لإصلاحِها.. برئاسة عليّ ماهر باشا، وعضوية أحمد لطفي السَّيِّد وعبد الرَّزَّاق السَّنهوري وأحمد زكيّ وشفيق غربال ووليم حنا، وانتهتْ إلى توصياتٍ تقضي بضرورة الاستعانة ببعض الأساتذة الأجانب من أوربا وأميركا، بغض النَّظر عن الاختلافات السِّياسية بين الدُّول. وركَّزتْ على نقطةٍ جوهريةٍ مؤداها: أن التَّعليمَ الجامعيَّ يحكمُهُ مبدآن. الأول: هو الاستقلال والحرية التَّامَّة للجامعة. والآخر: هو أن الجامعة حرَّة في التصرُّف في الميزانية المخصَّصَةِ لها في الأوجه التي تراها مناسبة. وعلى الأساتذة أنْ ينتخبوا العميد لمدَّة عاميْن غيرِ قابلةٍ للتَّجديد. لكن حكومة الثَّورة الرَّشيدة لم تأخذْ بهذه التَّوصيات، وفصلتْ سبعين عضوًا من أعضاء هيئة التَّدريس؛ منهم لويس عوض ومحمود أمين العالم ومحمد عوض محمد، وعُيِّنَ د.أحمد كامل مرسي مديرًا لجامعة القاهرة، ودفعوا د. يوسف مراد أستاذَ علم النَّفس بكلية الآداب- جامعة القاهرة وصاحب المدرسة التَّكاملية إلى إيقاف مجلته"علم النَّفس"، والتَّخلي عن رئاسة قسم علم النَّفس عام 1957؛ بتهمٍ كاذبةٍ ملفَّقةٍ مُفادُها إجبارُهُ الطَّلبةَ على الاشتراكِ في مجلتِهِ، على الرَّغم من أن عدد الطَّلبة المشتركين في المجلة كانوا سبعة من أكثرَ من مائتي طالبٍ يُشكِّلون قوامَ قسمه بالكلية؛ ومن ثَمَّ؛ كان يقوم بتمويلِها من جيبه الخاص، بالإضافة إلى اشتراكات الشَّركات والهيئات المختلفة. ما أدَّى إلى إحكام القبضة البوليسية على الجامعات المِصرية، والسَّيطرة عليها من خلال مجموعةٍ من القرارات والقوانين الجائرة، في إطار مُناخٍ قمعيٍّ شملَ جميعَ القوى السِّياسية والفكرية يمينًا ويسارًا،"فأصابت هذه المعتقلاتُ الرَّوحَ المِصرية في مقتلٍ بإهدارِها كرامةَ الإنسان، ووضعَ الشَّعب المِصريّ كلُّه في معتقلٍ كبيرٍ حدودُه مصر؛ ففقدَ نفسه وفكره وقدرته على الإبداع والتَّفكير"، بل وصل الأمرُ عام 1958 إلى"أن توقَّفَ الانتماءُ الطُّلابيُّ لأيِّ نشاطٍ سياسيٍّ في أيِّ اتجاهٍ، ولم يعدْ أيٌّ من الطُّلاب يُبدي أيَّ اهتماماتٍ سياسيةٍ أو وطنيةٍ غير تأييدِ الزَّعيم عبدِ النَّاصر"، في الوقتِ الذّي كان فيه الجيل السَّابق على جيل د. محمد أبو الغار( أي الجيل الذّي ولدَ بين أعوام 1920 و 1935) "مهتمًّا بالقضية الوطنية، وتنوَّعتْ أفكاره ومبادئه؛ فانخرط في شبابه الباكر في مختلِفِ التَّنظيمات السِّياسية من اليسار، إلى التَّيار اللِّيبرالي في حزب الوفد، إلى التَّنظيمات اليمينية بدءًا بمصر الفتاة وانتهاءً بالإخوان المسلمين" وفق ما يذهبُ إليه. الأمرُ الذِّي أفضى إلى انهيار الأوضاعِ الجامعية تدريجيًّا.. بحيثُ أصبح العمل السياسيَ في الجامعة مُجرَّمًا منذ عام 1954، وأصبحتِ الجماعةُ الإسلاميةُ القوةَ السياسيةَ الوحيدةَ الموجودةَ على المسرح السياسيَ الجامعيَ، وتوقَّفتْ على نحوٍ شبه تامٍّ جميعُ الأنشطة الطُّلابية، وألغيَ انتخاب العمداء في عام 1994، وفي عام 2000، صدرَ القانون الذِّي يسمحُ للمجلس الأعلى للجامعات بالسَّيطرة الكاملة على الجامعات بلوائحِها وسياساتِها وأقسامِها؛ حتى غدتِ"الجامعةُ المِصريةُ جزءًا من الجهاز الحكوميّ، يُنظِّمُها صوريًّا قانونٌ خاصٌّ ومجالسُ لأقسام الكليات والجامعات.. وتُركتْ قيادة الجامعة في أيدي السِّياسيين المنافقين.. وبدلًا من النَّشر في مجلاتٍ عالميةٍ لها قيمتُها، أو في بعض المجلات المحلية المعقولة نسبيًّا، أنشئتْ مجلاتٌ وهمية ليس لها أثرٌ في أيِّ مكتبةٍ أو جامعةٍ لنشر مجموعةٍ من أبحاثِ راغبي التَّرقي مقابل مبالغَ كبيرةٍ من المتقدِّمين، من دونِ تحكيمٍ ولا تقييمٍ لها، وإنما هي جزءٌ من مسرحية هزلية، يقومُ بإخراجها المهيمنون على الجامعات المِصرية بأسلوبٍ رديء" على حدِّ تعبيره. لذا يُطالبُ د. أبو الغار باستقلالِ الجامعاتِ وتحريرِها من الوصايةِ الأمنيةِ ، وتغيير نظام الامتحان لتحقيق العدالة، وتحديد النَّابغين المؤهَّلين للالتحاق بسلك هيئة التَّدريس، ورفض تعيين العمداء، الذّي أتاح للوساطة وللأجهزة الأمنية ولوزير التَّعليم العالي ولرئيس الجامعة تعيين غير الأكْفاء علميًّا وإداريًّا.. والقضاء على روتينية لجنتي التَّرقية اللتيْن نادرًا ما ترفضان ترقية أحد المتقدِّمين بصرف النَّظر عمَّا يُقدِّمُه من أبحاثٍ لا ترقى إلى المستوى المنشود. غيرَ أن د. محمد أبو الغار يُنبِّهُنا إلى ضرورة إعادة النَّظر في الهيكل الوظيفيّ مرَّة أخرى، وتحديد عدد وظائف الأساتذة المساعدين والمدرِّسين والمعيدين بكل قسم، والإعلان عن خلو أيِّ وظيفةٍ والتقدُّم لها لكلِّ منْ يرغبُ إذا استوفى الشُّروط ، وتكون التَّرقية بتقييم الأبحاث، مع وضع قواعدَ واضحةٍ لتقييمِها، ويُمكن الاستعانة بمُحَكِّمين من الخارج، تُرسل لهم الأبحاث لمنع المحسوبية والوساطة في التَّرقية. لافتًا إلى "مشكلة كليات الطب الإقليمية التِّي بدأتِ العملَ من دون أقسامٍ أكاديميةٍ ، والتِّي حوَّلتْ مستشفياتٍ إقليميةً صغيرةً إلى مستشفياتٍ جامعيةٍ ؛ بتغيير الاسم المكتوب على لافتة المستشفى ، وتعيين عميدٍ للكلية ورؤساء أقسام مختلفة. وتبارى المحافظون في تحويل المستشفيات الإقليمية إلى مستشفيات جامعية. فأصبح لدينا أطباء في المستشفيات والوحدات الرِّيفية دون تدريبٍ ولا عملٍ". لذلك يرى د. أبو الغار" أننا لو تركنا الجامعات حسب الدّستور مستقلَّة لحُدِّدتِ الأعداد المقبولة الملائمة لتخريج أطباء أكْفاء على مستوًى عالٍ من التَّدريب، ولم تُفتحْ جامعاتٌ جديدة إلَّا بعد استكمال البنية الأساسية لها، وبعد أن تُفيدَ دراسة الجدوى بأهمية إنشائها".
أجلْ.. إن سيرةَ الدكتور محمد أبو الغار الذَّاتيةَ "على هامش الرِّحلة" تُقدِّمُ لنا صورةً مضيئةً لمثقفِ نقديٍّ يعمل على تطويرِ مشروعٍ نهضويٍّ عربيٍّ، يتطلعُ إلى تجاوز التَّخلفِ التَّاريخيِّ، وتأسيسِ برنامجٍ تغييريٍّ يدفعُ باتجاهِ خلقِ روحٍ جديدةٍ، ووعي فاعلِ قادرٍ على المجابهةِ والتَّصدي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -تشاسيف يار-.. مدينة أوكرانية تدفع فاتورة سياسة الأرض المحرو


.. ناشط كويتي يوثق آثار تدمير الاحتلال الإسرائيلي مستشفى ناصر ب




.. مرسل الجزيرة: فشل المفاوضات بين إدارة معهد ماساتشوستس للتقني


.. الرئيس الكولومبي يعلن قطع بلاده العلاقات الدبلوماسية مع إسرا




.. فيديو: صور جوية تظهر مدى الدمار المرعب في تشاسيف يار بأوكران