الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جدل الحكاية والمكان

أسامة عرابي
(Osama Shehata Orabi Mahmoud)

2019 / 2 / 23
الادب والفن


جدل الحكاية والمكان
أسامة عرابي
يُتيح لنا كتاب "إرث الحكاية" للكاتبة نسمة جويلي (مدربة كتابة إبداعية، تُدرِّس الأدب العربي بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، وتتعلَّم من الروايات والسفر وحكايات الناس)، الصادر عن دار الشروق، التعرف على تجربةٍ ورؤيةٍ في الأدب والفن، جديرتيْن بالاهتمام، عبر صوت متفرد، يطرح علينا الكثير من أسئلة الكتابة، ضمن معادلة وجودها، وشرائط تحققها، وطرائق استيلادها المعنى، وكيفية تأسيسها جماليًّا من خلال دينامياتها الداخلية، وما يمكن أن تُفيده من الخبرة الإنسانية الكبيرة. لذلك كانت"الحكاية"طريقها إلى أرض تجربتها؛ طامحةً إلى اكتشاف أسرار الكون والحياة والحب والموت، مثيرةً للخيال والتأمل ومغامرات الجسد والروح، في إطار مشروع "لتعارفوا للثقافة والفنون" الذي أنشأته"لاستخدام الكتابة والتصوير أداتيْن للتعريف بالناس وحكاياتهم وأماكنهم وثقافاتهم"على حد تعبيرها. وقد حدَّثنا الفيلسوف الألماني"والتر بنيامين"عن حيوية التفكير في التصوير الفوتوغرافي على أنه"تقنية للاشعور البصري" الذي يحوِّل العوالم الغامضة في اللاشعور إلى مشهد، بالإضافة إلى محاولة الإمساك بالزمن الماضي، واسترجاع ذكريات الأشياء والأماكن والأشخاص؛ حيث ترتبط الذاكرة بالصورة أو تنبثق منها. كما حدَّثنا المؤرخ البريطاني الكبير"إيريك هوبزباوم" في الجزء الأول"عصر الكارثة" من كتابه الأشهر"عصر النهايات القصوى.. وجيز القرن العشرين 1914-1991"، عن القرن العشرين بوصفه" قرن الناس العاديين"، وكيف"غلبت عليه الفنون المصنوعة لهؤلاء الناس وبواسطتهم"، وأن"ثمة آلتيْن مترابطتيْن قد جعلتا عالم الرجل العادي واضحًا على نحوٍ غير معهود من قبلُ، وقابلًا للتوثيق هما:التحقيق الصحفي، وآلة التصوير".. ومضى يضيف:لم يكنْ أيٌّ منهما جديدًا، ولكن كليْهما دخل عصر وعي الذات الذهبي بعد عام 1914". ولعلنا نلمس بعضًا من تجليات ذلك لدى الكاتبة حين زاوجت الصورة الفوتوغرافية (تصوير:سيف الدين خالد،وأحمد صفي الدين) بالكلمة، أو بين العين والإحساس.. الملاحظة والتشكيل؛ فقدَّمت لنا رحلة فنية ممتعة نتملى فيها جمالية الصورة بتقاسمها وأبعادها، داخل نص شعري..صوفي مترع بدفء الحياة والانطلاق والحركة، واصطياد اللحظات الخاصة الثرية بالدلالات والحيوية، والتعامل- من ثم- مع المكان بحسبانه روحًا تُغذي لدينا الرغبة في معرفة العالم، واكتناه أسراره. لهذا أهدت كتابها"إلى الله..الذي كتب الحكاية.. وإلى أمي..أول من استمع لحكاياتي"، ثم أردفته بتوطئة تذهب إلى أن"إرث الطريق هو الحكاية..إرث الحكاية هو الحكمة"؛ في إشارة إلى ما يَسِمُ الحكاية من مزجٍ للواقعي بالحلمي،والتاريخي بالأسطوري،والشفاهي بالمكتوب. لذا اتخذتْ من"السفر والحكاية"مرآتيْن مزدوجتيْن: واحدةً بين الكاتبة ونفسها؛ لمساءلة الذاكرة واللغة بمرجعية المتخيل، والأخرى مواجهة مع المجهول بهاجس الحرية الكامن في روحها.. وراحت تكتب"من وحي الأماكن"، مُضيفةً: من وحي رحلتي إلى مصر التي كشفت لي أجزاء مني، ومن مكاني لم أكن أعرفها".. رابطةً المكان بالزمن"؛ لأن عام 2013 لم يمرّ عاديًّا على مصر.. ولم أمنعْ نفسي من التأثُّر بلحظة بعينها". فذهبتْ إلى القليوبية والإسكندرية والشرقية وسيناء وسيوة ومطروح والمنيا وأسيوط والنوبة؛ مأخوذة"بفكرة أن نسافر لنعرف بعضنا بعضًا"، موضحةً : الثورة (ثورة 25يناير2011) خلَّفت داخلنا جرأةً ورغبةً في الامتداد، وأن نكون واحدًا" على حد تعبيرها، بعد أن رفدت الثورة الطريق إليها بأسئلة التغيير، وعلاقة الذات بالمجتمع وبالآخر، وتماسَها مع التحديات التي تنهض أمامنا. غير أن الحكاية لدى "نسمة جويلي" تبدأ في مكان، وتنتهي في مكان آخر؛ وكأنها تبحث عن جذورها التي تربطها بعالمها الواسع، أو تُلملم خيوطها التي تُعينها على أن تحمل في داخلها الوعد الذي لا تستطيع العيش من دونه. الأمر الذي حدا بالكاتبة إلى توسُّل "تقنية الرسائل"، أي صياغة التجرِبة في شكل رسائل تخاطب فيها بعضًا من شركاء رحلتها أو حكايتها؛ لإذكاء فاعلية الطاقة الإنسانية التي تقاوم الزمن،كما فعلتْ مع:مروة..مريم..مونيكا..صفي..هيمن..سولا..نوران..مليكة..
شهريار..مهند..أو في محاولتها استعادة"رواية التكوين"على نحو ما جرى مع"جدو سلامة"عند عودتها إلى بيتها أو نفسها أو هُويتها وتاريخها.. مُنقّبةً في كل ذلك عن حكايتها الثاوية في حنايا جغرافيا الذاكرة الجماعية والخاصة؛ في سعيها إلى الاقتراب من هواجس وفضاءات مشحونة بالشغف، وبوميضٍ لا ينطفئ،رمستكشفةً حقيقة الغياب. وهنا تطرحُ الكاتبة سؤاليْها التالييْن:"كيف لو أن الغريب أتى ليُخضعَ المكانَ لصورته هو عمَّا ينبغي أن يكون عليه المكان؟ هل الأماكن مثل البشر يا مونيكا...تخضعُ وتقاومُ؟"، ثم أخذت تُجيب:"أتى الغريب أول الأمر مع الاحتلال (الفرنسي والإنجليزي)"، وكلاهما ووجِهَ بمقاومةٍ ورفض. وبذلك يتبدى المكان لديها بوصفه خارطة للزمن،وهوية للمقاومة،وتعزيز التضامن، وتولُّدِ إمكانات ذات طابَعٍ تحرري؛ مما يُسهم في شحذ الوعي باللحظة الراهنة، عبر سؤال التاريخ، وتطوُّر الرؤية والمعرفة. عندئذ.. أدركت"نسمة جويلي" أن "المكان الصغير الذي احتواني كحضن دافئ، لفظَ الغريب الذي أتى ليُغيِّرَه ويُخضعَه"، وأن النيل الذي بدا لها في أسيوط"وكأنه يمشي في عكس اتجاهه.. كأنه في سريانه يا مونيكا..كان يعكس صورة المكان داخله". لذا بدتِ الكاتبةُ والمكانُ لحظتيْن وجوديتيْن لحقيقةٍ واحدة، تحمل معنًى نابضًا، يستشرفُ حاضرًا يَجدِلُ الماضي بالمستقبل، من خلال استحضار وبعث وإعادة خلق شيءٍ قائم في عمق الأزمنة، وفي قرارة كل إنسان؛ إذ إن هناك علاقة تربط المكان بالحواس بالجسد؛ تُسهم في إعادة اكتشاف الماضي، والوعي به وبمناحيه، من خلال ما يدعوه"مارسيل بروست" في روايته "بحثًا عن الزمن الضائع" بـ"ذاكرة غريزية في الأطراف"، قال إنها "تعيش أطول، تمامًا كما تعيش حيوانات معينة غير عاقلة، ونباتات، أطول من الإنسان"؛ إذ إن "أرجلنا وأذرعنا مثقلة بذكريات الماضي النائمة".. فهل ذلك ما عنته "نسمة جويلي" بقولها : نخون الماضي يا مريم حين نعتاد الحاضر.. لكن الماضي يتخبَّأ فينا فقط.. وأجفل يا مريم..من اللحظة التي يصحو فيها الحنين داخلي.. فأجد نفسي موروطة ما بين زمنيْن وعدة أماكن.. وأحمل فيها غربتي في كل الأماكن. بما فيهم مكاني الأول.."؟ إن ذاكرة الماضي،ومشهد الحاضر يطرحان علينا أسئلة الوطن والثقافة والقيم الحاكمة لنظرتنا تُجاههما؛ ومن ثَمَّ الوقوف على تجربة جمالية، وممارسات اجتماعية وفكرية، تنتميان إلى جدل الحرية والإبداع. ولعل ذلك ما يبرِّر خوف"نسمة جويلي" ممَّا صرَّحت به لصديقها "هيمن" قائلة : "يراودني دومًا خوف أن أفقد ذاكرتي وأنا على سفر.. أخاف أن أصحو في المكان الغريب فأظن نفسي منه.. فكيف تشعر أنت، وأنت تفتح عينيْك كل يوم في المكان الغريب؟". فهل تخاف من التمزق والاقتلاع وطمس جذورها الحقيقية، أم هو الخوف من انقسام الوعي على ذاته، ومراوحته بين اختيارات وآمال عدة؛ على نحو لا يمكِّنها من تحقيق صيرورتها وتحرير روحها؟ لا تقدم الكاتبة هنا أجوبة جاهزة، ولا حلولًا توفيقية سعيدة تؤالف بين الماضي والحاضر، بل راحت تفكر بصوت عالٍ يدعونا جميعًا إلى تلمس البدايات، ومعاينة الجذور، وتأمل المغامرة الأولى كشرط للعثور على وطننا الحقيقي الراقد في ثنايا حكايتنا، والتعرف من ثَمَّ على بيتنا الأول"اللغة" التي تداعب حنينًا غائرًا حيال الأرض التي تركناها، لكنه"استيقظ بالسفر" وفق تعبيرها. فهل كان"السفر"رحلة بين الضوء والظل..بين الحياة والموت تحثنا على التفكير في الإنسان كحضور وغياب؟ لا، بل كان السفر بالنسبة إليها "كشفًا ورحلة تعلُّم"؛ جعلتها تُحسُّ طَوال الوقت أننا "أغنى بالأماكن والبشر"، مُوصيةً صديقتها "سولا" "أنْ ربِّي ابنتكِ على الحكاية لتُحبَّها.. ومَلِّكِيها أرضكِ وجذركِ.. وأوقفي هذا العالم لتراه"، مُضيفةً: واخلقي حيزًا لخيالكِ المُخبَّأ فيكِ ليحيا.. ودعي الحياة تستحضر منكِ ما يلائمها.. واعلمي أني أحبكِ.. مهما اختلف الخيال ما بيننا". وبذلك يأتي كتاب "إرث الحكاية" لـ"نسمة جويلي"محاولة طموحة لاكتشاف المكان؛ بوصفه مدًى مفتوحًا يتحوَّلُ فيه كل شيء إلى حياة، وإلى صراع لتأكيد هُويتنا وتاريخنا الخاص، ويبدو فيه الخيال طاقةً مُخْصِبة للمستقبل، وللتواصل الإنساني، والعودة إلى الجذور"إلى الطفل الدائم، طفل كل الأماكن" بتعبير"أندريه ميكيل"، من خلال سرد غنائي لا ينقصه الشعر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط


.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية




.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس


.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل




.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة