الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
حبل الوريد.. ولانهائية المرويّ
أسامة عرابي
(Osama Shehata Orabi Mahmoud)
2019 / 3 / 4
الادب والفن
في روايته الثالثة "حبل الوريد" للكاتب والإعلاميّ المصريّ المتميز المرحوم "محمد زهران"، بعد"بشارة لـ40 " 2006 الفائزة بالجائزة الذهبية الأولى في مسابقة مدينة الشيخ زايد عام 2009، ورواية"فارس كور"2010، ثُمَّ روايته الأخيرة "منتصر" الصادرة عام 2015 ، يُواصل الكاتب ما بدأه في روايته الأولى، أي تجربته المتمردة "على أصول الحكي..على الزمان والمكان والبطل..ذلك الثالوث المُقدَّس الذي أودى بنا إلى التيه" على حد تعبيره، ثُمَّ مهرها بتوقيع مشترك"الكاتب/الراوي"؛ ليضعَهما معًا في مواجهةٍ أقربَ إلى لُعبة المرايا المتقابلةِ التي تشفُّ وتبينُ عن توجهاتِها الجماليةِ ورؤاها الفنيةِ بوصفها فضاءً حاضنًا للأسئلة والمناخات. لهذا رأى أنَّ "الراوي" "ذلك الكيان الهامشي الافتراضي، والذي اخترعه أجدادي الحكَّاءون العظام كحيلة فنية وهمية، ووسيلة للاتصال بين عقل متفرد متميز، وعقول جموع العامة؛ بهدف تثبيت القلوب، ووأد بوادر الفتن وزيغ الأبصار... الراوي! آن له أن يتمرد ويتحدَّث بصوته هو دون حاجةٍ لوصايةٍ مني...هل يقوى على ممارسة دوره بعيدًا عن سطوتي وتدخلي الحكيم في رسم الصورة المثلى المتوارثة عبر الأجيال؟". وبذلك يكتشف محمد زهران حكايته وجدوى كتابتها، عبر لغة تفتح الأفق على المِلاط القائم بين اليوميِّ والتاريخيِّ؛ ليستقطرَ تجرِبتَه الحيَّةَ ونسغَها الوجوديَّ في المسافة الموزعة بين الصمت والكلام، أو بين الموت والحياة؛ لتغدو مروياته وتمثيلاته الكنائية والرمزية في سياق لانهائية المعيش، ولانهائية المرويِّ. لذا استحالَ الموت الذي يتخلل حنايا "حبل الوريد" إلى فعلِ صراعٍ يُزيح النقابَ عن الحقائق المختبئة وراء قشرة واقعنا، وما يرين عليه من علاقاتٍ مشوَّشةٍ يُقيمها بين العرضيِّ والجوهريِّ..غيرَ أنَّه لا يني يحرس ذكرياته..وأزمنة الحلم والتاريخ، مستنطقًا عوالمَهم، وما حملته من أحداث ورؤى؛ بغيةَ الحفاظِ على سيرورةٍ تواصليةٍ حقيقية. لهذا حفلت لغته بالدلالات والصور الشعرية المرهفة. تبدأ الرواية بإهداء يقول:"إلى قبلة الحياة "زينب".. من منحتني رغبة الصراع من أجل البقاء، بعد عمليةٍ جراحيةٍ كنتُ فيها أقربَ للموتِ من الحياة.. ما أعيشه من عمرٍ إضافيٍّ يرجع لسر نفحتك المقدسة". في إشارة جليَّة إلى طبيعة الدور المحوري الذي نهضت به الزوجة- الحبيبة تُجاه شريك حياتها، في محنته الصحية التي ألمَّتْ به، وأفضت إلى استئصال الكُلى، لكنها استطاعتْ بصمودها وصبرها ومؤازرتها، بعث الحياة والأمل في نفسه. وهو ما تؤكده صفحات الرواية وتثمِّنه في غيرِ موضعٍ ومكانٍ من قبيل : "أجمل ما يجذبني لزينب هو توافق أذواقنا وتقاربنا العمري.. شاهدنا نفس الأفلام والبرامج التلفزيونية..استمعنا لنفس الأغاني؛ فأرانا على توافقٍ فيما نَحِنُّ إليه ونسترجعُه من أفلامِ ومسلسلاتِ وأغنيَّاتِ جيلِنا"، بعد أنْ تعرَّفَ إليها في معهد السينما، الذي التحق به بعد أنْ رفضَ العملَ معيدًا بكلية الخدمة الاجتماعية بالفيوم، وتراجعَ عن فكرة الالتحاق بمعهد الفنون المسرحية، وجمعَهما معًا حبُّ التمثيل، لكنه قرأ في عينيْها "حالة فطرية وتلقائية ومدهشة"؛ دفعته إلى الارتباط بها، على الرغم من ظروفهما المادية المتعثرة. وبذلك يحتفي الراوي بزينب حفاوته بالحياة؛ فيخلق منها أسرابًا مدهشة، وصورًا مجنحة.. أي عالمًا حرًّا، ودنيا شاسعة، ولغة نبيهة بلا حدود، بعد أن استطاعتْ أن تخلقَ بداخله "الصراع من أجل البقاء"، مردِّدة جملتَها المعتادة : "وقت الانتكاسات : الحياة إرادة". ألم يقلْ نقاد"فلوبير"إن "مدام بوفاري" هي الكاتب/ نفسه، أو الوجه الآخر له الذي لا يعرفه الناس؟ ثم أردف الإهداء برباعية لشاعرنا الكبير الرائد "صلاح جاهين"، تتمحورُ حول علاقةِ الآنيةِ بالزمانية، وما ينطوي عليه وجودُنا من صراعٍ مع الموتِ المُحايثِ لحياتِنا، من خلال محاولات الإنسانية الدءوب فهمَ معضلة الأبدية وفكَّ طلاسمها، بوساطة مخيالها الجمعي."خرج ابن آدم م العدم قلت يا ا ا ه/ رجع ابن آدم للعدم قلت يا ا ا ه/ تراب بيحيا وحي بيصير تراب/ الأصل هو الموت ولا الحياة؟". وهنا نتوقف عند تجربة الموت التي صاحبت رحلة الراوي، وأوقفته على الشواطئ التي تحدث عنها "هاملت" عندما قال : إن أحدًا لا يعود منها، وجعلته يُعايشُ الموت في صراعه مع الحياة التي يُهدِّدُها الموت، الذي يقبع تحت جلودنا. وهو ما عبَّر عنه الراوي بقوله : "الموت يُسيطرُ عليَّ منذ طفولتي خصوصًا عند حلولِ الليل، أما بعد العملية فأصبح هو المسيطر ليل نهار..ومع الاستيقاظ ومرور يومٍ أتساءل : هل سأعيشُ لتشرقَ عليَّ شمسُ يومٍ آخرَ. مع كل وجبةٍ ومشروبٍ أو خروجِ، أعتبرُ أنَّ هذه هي المرة الأخيرة". حتى إن المحيطين به، راحوا يُردِّدون سؤالَهمُ السخيفَ إثر إجرائه عمليةَ استئصالِ الكُلى : "هُوَّ فيه حَدْ يقدر يعيش من غير كليتين؟! وكانت إجابتي المتكررةُ الضجرةُ مع الابتسامةِ البلهاءِ التي ترتسمُ على وجهي : مانا قدامكو أهو". لهذا كما احتاج"جوزيف كونراد "في روايته "لورد جيم" إلى الراوي الخاصِّ به الذي يُمثِّل همزةَ الوصلِ بين "جيم" الغامضِ، وبين القارئ المتحيِّرِ، فإن راوي رواية "حبل الوريد" يتولَّى طرحَ أسئلتِهِ الخاصَّةِ، وفتحَ نافذةٍ على واقعه بغية تحويلِهِ، وجعله في حالة تجاوزٍ دائمٍ لمعطياتِهِ، وكأني به يُردِّدُ مع الفيلسوف اليوناني القديم "أبيقور" : "إذا كنا لا يكونُ الموت، وإذا كان الموتُ لا نكون". الأمر الذي جعله، ربما، يستدعي المأساة، ويكشف عن عمق الأزمة المفتوحة على الزمن والتاريخ، في إحالتها ميتافيزيقا الحضور الإنساني في العالم إلى مركز مرجعي ثابت غدا ميكانيزمَ كبحٍ، وجدارًا يحجب الكينونة في صورتها الأولى؛ بفضل الهُوَّة القائمة بين الوجود والموجود. لذا جرى تقسيم الرواية إلى صورة أولى، وتاريخيْن رئيسيْن هما :5 يناير 2013، أي بين الإعلان في جريدة الجمهورية عن طلب متبرع بينه وبين مريضنا توافقُ أنسجةٍ، في الوقت الذي عاود فيه "مرض بهجت" الظهور بمتاعبه وآلامه الرهيبة، ووصفة د.حسن عبد العال استشاري الجلدية الناجعة لإلزامه حَدَّه، وبين 24 يناير 2013، أي بين توقعاته وتوجساته مما يمكن أن تئول إليه التطورات السياسية المصرية التي نجمت عن ثورة 25 يناير 2011، باستثناء بعض التظاهرات التي لا ترقى إلى مستوى "ثورة جديدة؛ فالمجتمعات لا تقومُ بثوراتٍ كلَّ يومٍ"، ومن ثَمَّ مراوحة حياته بين برامج التوك شو وزينب واللاب توب، لتدورحولهما فصول سبعة تبدأ من "2" إلى "8"، موزعة بين كتبه وكراسات يومياته ذات الورق الأصفر وألبومات صوره القديمة، الحاملة الحلمَ والوعيَ والرغباتِ والذكرياتِ والأشياءَ الصغيرةَ والأصدقاءَ، وكأن الراوي العليم يتقمصُ دورَ الباحثِ المتأمِّلِ الذي يرصدُ ويدوِّنُ ما يدور ويحدث من حوله، متوسلًا بنية حكائية تُعيِّن ما تحدسه البصيرة، ولا يلمحه البصر، وفق ما يذهب إليه الراوي : "تنتابني الغُصَّة عندما أتذكرُ أنَّه سيأتي يومٌ لا أصحو فيه ثانية، ولا أتناولُ الإفطارَ والعصير، وبعدهما القهوة. أتابعُ أخبارَ الصباحِ في التلفزيونِ والصُّحف، وأقودُ سيارتي للتلفزيون، وأقابل الأصدقاء وزملاء الغسيل بالمستشفى ومشاكساتي ومداعباتي لزينب ولحماتي والفُسح والسَّهرات ولعبة الجنس، وتتابعات ما بها من نجاحٍ وإخفاق، والجلوس أمام التلفزيون والدردشة على اللاب.."، ثم تُخايلُه أطيافُ الرؤى ومظاهرُ الحياةِ وسجالاتِها ومآلاتِها؛ فيتذكرُ محاوراتِ سقراطَ لتلاميذه ونقاشهم عن الروح بعد فناء الجسد، والكلمة الدَّالة التي تمَّ فيها تشبيه الروح والجسد بشمعة : أين ذهبَ الضَّوء الذي يُمثِّلُ الروح؟ إنه - بكلِّ بساطةٍ - تلاشَى في الفراغ الكونيّ..لِمَ هذه الحياة إذن طالما نهايتها التلاشِي، حتى لو كانت هناك روحٌ ستبقى؛ فمتعة الحياة في هذه المتع الحسية الملموسة؟". وهنا يلجأ الراوي إلى بعضِ التمثُّلاتِ الخاصَّةِ بما يعنيه الدينُ لنا كذريعةٍ لمساءلتِهِ؛ ومن ثَمَّ صيرورته ودلالته، فيستعيد صورته طفلًا تخايله صورة الله، وما تطبعه على مخيلته من تحقُّقٍ وتجلٍّ بوصفه تصورًا للحقيقة والمكوث فيها والاكتفاء بها. أما صورة الملائكة فقد جاءوا أقوياء في لون"عنترة بن شداد". فهل تخصيص قناع للإله بطريقة ما، ملازم لظهور البطل التراجيدي وإلباسه شكلًا دراميًّا كما قال "نيتشه"، أم هي المتعة الأوليَّة التي تُذكِّر بالقوة التي تشكِّل العالم، والتي قارنها "هيراقليطس" يومًا بطفلٍ يُكدِّسُ أكوامًا من الرَّملِ على شاطئ البحر" يُعليها ثمَّ يَهدمها"، ثمَّ يُعيد لعبته إلى ما لانهاية؟ يقول الراوي : "كان الطفلُ بفطريةٍ مدهشةٍ يُدركُ منذ زمنٍ بعيدٍ، أن نهاية الرحلة عدمٌ، فماذا سيفعلُ الإلهُ بكلِّ هذه الأرواحِ التي سيجمعُها عنده، وحوله كلُّ هؤلاء الملائكةِ الأشداء؟"، ثمَّ يُضيفُ : الولد الذي يحب الحلوياتِ وأمَّهُ ومشاهدةَ التلفزيون، يصعُب عليه أن يتحوَّل يومًا لعدم...". لكن الراوي هنا لا يصدر عن عدميةٍ تدفعُهُ إلى القنوط والابتئاس، ولكنه يُعبِّر عن شكٍّ مُتبادَلٍ بينه وبين محيطِهِ الإنسانيِّ والفيزيائيِّ، مُناقشًا علاقة الحياة بالحياة، رائيًا أنَّ المعاناة هي العنصرُ الإيجابيُّ في هذا العالمِ، بل هي الرابطُ الوحيدُ بين هذا العالمِ وبين الإيجابيِّ؛ وهنا فحسب تكونُ المعاناةُ معاناةً! وعلى هذا النحوِ، يُحيلنا عنوان الرواية "حبل الوريد" المأخوذ من الآية 16، في سورة "ق"، إلى الحياة. لذا يُضرَبُ به المثلُ في القربِ؛ فأقرب شيء إلى قلبك هو حبل الوريد، وأقرب من كلِّ شيءٍ فيهِ الحياةُ هما الوريدان (عن يمين وشمال). لذلك رأى "القرطبي" في تفسيره، أنَّ الحبلَ هو الوريد، وقد أضيفَ إلى نفسه لاختلافِ اللفظيْن. وهذا تمثيلٌ للقربِ، أي نحنُ أقربُ إليه من حبل وريده الذي هو منه، وليس على وجهِ قُربِ المسافةِ. من هنا؛ ظلَّ الراوي"اللامسمى" قناعًا مُعْلنًا لمواجهةٍ مستمرَّةٍ مع المجهولِ الذي يُحيطُ بالحقيقةِ باستمرارٍ؛ لتأخذَ علاقتُهُ بالمرضِ، علاقةَ التَّطهيرِ بالمقاومةِ التي تُخرج جسدَه من سديمِ الموتِ، إلى لحظةٍ ديناميةٍ وجوديةٍ، أو تُحيلُه إلى رعشةٍ روحيةٍ تستنطقُ اللاوعي،مزاوجة بين المخبوء والدافعية في إطار الوعيَ والاختيارَ؛ مما أتاحَ له تنويعَ أصواتِ السَّردِ، وزوايا رؤية ماهيةِ العَلاقةِ التي ربطته برفاق رحلة حياته وآماله ونجاحاته وانكساراته : زينب ومنال وشهدي وريهام وحسين وسمير؛ ومن ثَمَّ بالحياة في صراعِها مع الواقعِ المُسيطرِ وشيئيتِهِ، وما لهذا من أثرٍ في استقراءِ الأواصرِ القائمةِ بين التجرِبةِ الفعليةِ والتجرِبةِ الأدبيةِ، بعد أن استحالتْ إلى حكايةٍ جمعتْ في إهابِها بين الحلم والحياة.. الذكريات والمشاهدات.. الثورة والحرية، عبرالمخاطرة بالحياة، بالنزول إلى الشارع أملًا في المشاركة في اعتصام ميدان التحرير؛ لتحرير الموت من عاديتِهِ، ليُمسيَ عنصرًا مُكوِّنًا لوعينا بالذات، وتمردًا على النظامِ السياسيِّ والاقتصاديِّ والاجتماعيِّ والأخلاقيِّ السائدِ، واحتجاجًاعلى فكرة المعيارية ذاتِها، أو بتعبير الراوي نفسه : "ما زلنا نعيشُ بُدائية الإنسان الأول ذي الدورة الحياتية التي لا تتجاوزُ الأربعين، بعدها يبدأ التأهيل للقبر، وانتظار دور الفناء". وقد نجا نصُّ الكاتب القدير محمد زهران من التَّرهُل والثرثرة؛ بقدرته على التأليف بين التفاصيل، وإضفاء معنًى إنسانيٍّ كاشفٍ عليها، والتقاط المفارقة، وروح الفكاهة السوداء اللتيْن تتخللان الموقفَ الفنيَّ بتناقضاتِهما الظاهريةِ الناعمة، والبنية المتوازنة، واللغة السلسة المتدفقة التي تمزجُ بين الفصحى والعامية وفاءً بمقتضيات السرد والصوغ والإيحاء، مُتخلِّصًا من عبء المسافة المتوهمة بين الذات والعالم الموضوعي؛ فبقيَ مشدودًا طَوالَ الوقتِ إلى روح المجازفة والمخاطرة في علاقته بالحياة. لذا ظلَّ الراوي "الولد ابن تمنتاشر الوفيّ لحلمه القديم، الرافض رفضًا قاطعًا فكرة الموت"، مضيفًا : سيموتُ كلُّ النَّاسِ، وسيأتي الأمرُ عنده، وستحدث له معجزة فلا يموت". وَلِمَ لا، وهو المؤمنُ إيمانًا راسخًا بأن : "هناك الكثير الذي يستحقُّ أن نعيش من أجله، وسأصارع من أجل البقاء لأحقِّقَ لزينبَ كلَّ أحلامِها"؟ رحمك الله يا صديقي النبيل دومًا "محمد زهران". فقدناك حقًّا وصدقًا، بل لا أُغالي إن قلتَ: إنَّ القدرَ ظلمَك حينَ فرضَ عليك موتًا باكرًا. فقد كنتَ أحد آمالِنا الأدبية الكبيرة.
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. المنتجة ندى رياض : فيلم -رفعت عيني للسما- متاح في السينما من
.. -لبلبة ربنا تاب عليها واتحجبت-???? لما لبلبة مشيت في الشارع
.. مخرجة الفيلم الفلسطيني -شكرا لأنك تحلم معنا- بحلق المسافة صف
.. كامل الباشا: أحضر لـ فيلم جديد عن الأسرى الفلسطينيين
.. مش هتصدق كمية الأفلام اللي عملتها لبلبة.. مش كلام على النت ص