الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الديمقراطيات الصعبة- العراق أولاً

آزاد أحمد علي

2006 / 4 / 24
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


عندما فتح العرب المسلمون أرض السواد في جنوب العراق عام 16 للهجرة، وتوسعوا شرقا وشمالا، كانت تلك الأرض تختزن كل الإرث الحضاري لوادي الرافدين وميديا وفارس، إضافة إلى بعض مؤثرات الثقافة اليونانية ـ الرومانية.
لقد كان عدد العرب الذين استقروا في جنوب العراق ـ حسب أغلب المصادر العربية ـ حوالي أربعين ألفا، معظمهم من الفاتحين الذين قدموا من الحجاز واستقروا في مدينة الكوفة، هذه المدينة التي نشأت كأول مستقر حضري كان الهدف من إنشاءه هو استيعاب الجنود وأسرهم، وفي الوقت نفسه كانت أول مدينة تؤسس للعرب الفاتحين خارج الجزيرة العربية.
لاشك أن عدد العرب الفاتحين كان قليلاً بالنسبة للسكان الأصليين في العراق في تلك الفترة، إذ تشير نفس المصادر العربية إلى كثافة سكانية كبيرة في مناطق العراق الحالي وجواره، حيث قدر مجموع عدد سكانها في تلك الفترة بحوالي أربعة ملايين نسمة. ومهما كانت دقة هذه الأرقام، أو تم المبالغة فيها زيادة أو نقصاناً، تظل معضلة التباين البشرية قائمة إبان الفتوحات الإسلامية، هذه المعضلة التي تتلخص في نسبة وتناسب عدد السكان الأصليين إلى الفاتحين الوافدين، وبالتالي درجة تضاد ثقافات الأرض (أرض الرافدين وجوارها) والثقافة الجديدة العربية الإسلامية التي كانت تتكون وتتنامى باطراد وتعيد صياغة ملامحها بالاحتكاك مع الجوار (المختلف) في المراحل الأولى من الحكم العربي الإسلامي.
إن الغاية من هذا المدخل التاريخي هو التذكير بأهمية القراءة التاريخية المتأنية لخصوصية واقع العراق الذي تكون عبر آلاف السنين من جهة، والإشارة إلى أن طبيعة الشعارات الانتخابية التي تصاعدت إبان الانتخابات التي جرت نهاية عام 2005 والتي كانت تستمد صداها من ذلك العمق التاريخي، حيث كانت الشعارات تتركز بشكل خاص حول الأصول غير عربية لهذا الطرف أو ذاك من المكونات الراهنة للشعب العراقي.
إضافة إلى تمحور عدد من الشعارات السياسية والبرامج الانتخابية حول أولوية عروبة العراق أو انتماءه الإسلامي مستقبلا.
وبالتالي فالانتخابات التي جرت وما رافقها وتبعتها من إصطفافات سياسية ومذهبية وقومية وقبائلية هي أحد التعبيرات المتوقعة عن استطالة الصراع الحضاري والسياسي الذي جرى طوال قرون وعقود من الزمن على أرض العراق وامتد إلى الوقت الراهن، حيث فجرت الانتخابات مجمل التراكمات المذهبية والفكرية وبعضا من الاحتقانات التاريخية والتي تجسدت بصيغة أو أخرى في شكل وحدة الشعارات المرفوعة: [ الأمويون لن يحكموا العراق مرة أخرى ... الصفويون قادمون إلى بغداد، البرامكة ينشرون الرعب..إلخ]
إن هذه الشعارات والإصطفافات والتفاعلات مع الرموز والمعطيات التاريخية تكشف عن مدى حضور الماضي السياسي العراقي في حاضره، وتبين إلى أي درجة قد أثقلت الصراعات التي جرت في العراق والمنطقة كاهل المجتمع العراقي المعاصر، فقد ساهم الماضي الاجتماعي والسياسي والمذهبي للمجتمع العربي الإسلامي طويلا في صياغة باطن الثقافة السياسية العراقية، وبما لا يمكن التخلص السريع والسهل من هذا الماضي، فالعراق مثقل بالتاريخ ومكبل به في الوقت نفسه، وليس كل ما يمارسه أهل العراق في سياق الحراك السياسي الراهن هو ترفيه فكري وتخندق مذهبي أو استجابة لتآمر إمبريالي!
ففي العراق تجري اليوم عملية تصفية وتنقية لمجمل صراعات المشرق منذ الإمبراطوريات المشرقية قبل الإسلام مروراً بصراعات السلطة والمذاهب داخل الإمبراطورية العربية الإسلامية التي جرت بشكل رئيسي على أرض العراق، وصولاً إلى صراعات القرن العشرين السياسية التي جرت بإشراف وتحريض أوربي ـ كولونيالي وما نتج عنه من الهياكل السياسية الهشة والمرتجلة للمرحلة اللورانسية والملكية والبعثية أخيراً.
لقد أنعش الحراك السياسي العراقي الراهن هذه الصراعات وعومتها وأظهرتها على السطح، لدرجة قد تم من خلالها وعبرها ترحيل كافة الصراعات والمعضلات التاريخية من العصور القديمة إلى يومنا الراهن، والعراق المعاصر يتحمل وحده وزر هذا الترحيل، وعلى ما يبدو من الصعوبة أن يتمكن الشعب العراقي وحده حل هذه المعضلات السياسية والفكرية والنفسية المتفاقمة خلال فترة زمنية قصيرة. لذلك ليس مستغرباً أن تكون الانتخابات التي جرت خاصة واستثنائية، جديدة وفاقعة بهذا الشكل. ومن المتوقع أن تطول فترة ترجمة هذا الاستحقاق الانتخابي في سياق تنصيب العملية السياسية، وأن تكون الحوارات المرافقة لمرحلة استخراج عراق جديد ديمقراطي معاصر من عباءة التاريخ ساخنة وشاقة.
وعلى الرغم من إشكالية وجود عامل الاحتلال وتواجد قوات متعددة الجنسيات على أرض العراق، بوصفها ملابسات ومحفزات في الوقت نفسه ترافق وسترافق عملية الدمقرطة إلى حين، فإن مسيرة الديمقراطية الواعدة في العراق ستكون صعبة نظراً لخصوصية واستثنائية الوضع العراقي نفسه، ونظراً لخصوصية موقع العراق على خرائط العالم، ليست الجيوسياسية فحسب، وإنما الخارطة التاريخية والحضارية والمذهبية والنفطية في نهاية المطاف.
ومن السذاجة الانتظار لأن تجري قريبا انتخابات عامة سلسة على أساس (( سياسي ـ حزبي )) أو(( وطني ـ مواطني)) كما يطالب بها البعض بكل حسن نية، فلا الرؤى والنظريات السياسية ـ الأيديولوجية ولا الانتماء الوطني يقومان اليوم بفعلهما المباشر والمؤثر على اصطفافات العراقيين السياسية، كما لن تتوافر قريباً حياة حزبية ـ سياسية بالمفهوم النظري للحزب، وقياساً على النموذج الأوربي أو غيره من المجتمعات الصناعية والبرلمانية.
فالعملية السياسية في العراق أعقد من كل ذلك ونموذج الديمقراطية الغربية مازال رداءً فضفاضاً على المجتمع العراقي، وكذلك على كثير من المجتمعات المشابهة لها في الدول النامية، وفي مناطق أخرى متباعدة من العالم.
لكن أهمية العملية السياسية الديمقراطية في العراق اليوم تأتي من كونها تشكل أحد أهم التجارب المعاصرة خارج العالم الرأسمالي والتي مازالت ترجح وتؤكد مقولة: أن مسيرة الديمقراطيات الجديدة في كثير من مناطق العالم عاثرة وتسير ببطء، لحين إيجاد حلول أكثر مواءمة لواقعها، وحتى يتم في الوقت نفسه نسيان النموذج الغربي الأوربي ـ الأمريكي النمطي.
إن مسؤولية العراقيين تزداد اليوم كونهم يخوضون امتحان صعبا وكبيرا، فنجاح تجربتهم السياسية ـ الديمقراطية مطلع الألفية الجديدة تخولهم لتقديم نموذج معاصر لبناء ديمقراطيات جديدة لعوالم مختلفة عن الغرب ومنبثقة ومشتقة من تجربتهم الرائدة ولكن بصيغ إبداعية مبتكرة.
فمجمل الفعاليات التي جرت وتجري على الساحة العراقية هي مداخل موضوعية وجادة وفاعلة لصياغة الديمقراطية العراقية الوليدة والمنتظرة، التي تشكل أساسا لبناء دولة متعددة القوميات، ونجاحها يتوقف أساساً على مدى استجابة نخبها السياسية والثقافية، الدينية منها والعلمانية لدعوات الحوار والمكاشفة والقراءة الموضوعية للواقع الجغرافي وللمعطيات التاريخية، ولمجل التطورات على الساحتين الدولية والإقليمية.
لذلك يبدو أن العراقيين اليوم يخوضون تجربة سياسية صعبة ورائدة نيابة عن البشرية المعاصرة في إحدى أهم منعطفاتها وفي إحدى أهم نقاط " اللاتوازن" الفكري والأيديولوجي التي تمر بها المجتمعات المدنية المعاصرة، وإن صدق نواياهم ونظرتهم الاستراتيجية الصائبة لبناء مجتمع جديد ودولة ديمقراطية ـ دستورية متعددة الثقافات والتكوينات، ستساهم في تراجع العوامل المعرقلة(الداخلية منها والخارجية) لهذه المسيرة الاستثنائية والصعبة. وهذا النجاح مشروط ومرتبط عضويا بالقناعات الراسخة والمصداقية لدى الغالبية في التخلص من ارث تجربة الدولة الاستبدادية الشمولية، التي مازلت احتمال عودتها تدغدغ أحلام ومشاعر بعض الفئات، لخوفها من مستقبل التجربة الجديدة ومفاعيلها ومفاجآت تطبيقاتها العملية.
لذلك تبقى التجربة العراقية الوليدة وإلى حين، حالة اختباريه حساسة قد تنتج عن نجاحها أو فشلها معطيات في غاية الأهمية والخطورة لمسيرة المجتمعات المعقدة والمركبة التي تسير نحو صيغ فدرالية وديمقراطيات واعدة ومبتكرة. وبناء على هذا المستوى من الأهمية السياسية والحضارية فإن الأطراف العراقية المخلصة لنجاح هذه العملية والتي يهمها مصالح شعوب المنطقة والعراق بشكل خاص، مدعوة لأن لا تهلل لهذا التيار ضد ذاك، أو " تتخندق هنا ليعم هذا الرأي أو ذاك " وإنما المهم هو ممارسة النقد الموضوعي البناء لانطلاقة العملية السياسية ولخصوصية مرتكزاتها الديمقراطية، والتأني في طرح المقترحات السياسية والإدارية والسعي الدائم للتعاون المؤسساتي لنجاح هذه التجربة الصعبة، وهذه الحالة الاختبارية التي يبدو أنه لا خيار لها ولأهلها سوى السير معا، وقدماًُ نحو النهايات المنتظرة والواعدة، والتي قد تكون التجربة الأولى والرائدة مطلع الألفية الجديدة، لأن نجاح التجربة العراقية الراهنة وتخطيها عتبة المصاعب الموضوعية ستفتح آفاق رحبة لشعوب عديدة، وإن درجة رقي التجربة السياسية ستؤكد من جديد على أن غياب الاستبداد عن العديد من الدول في العالم لا يؤدي بالضرورة إلى غوص هذه البلدان والمجتمعات في أوحال الفوضى والتناحر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رفح والعلاقات بين مصر واسرائيل .. بين التوتر والحفاظ على الم


.. الجدل المتفاقم حول -اليوم التالي- للحرب في غزة.. التفاصيل مع




.. حماس ترد على عباس بشأن -توفير الذرائع لإسرائيل-.. فما انعكاس


.. قتلى ومصابون في يوم حافل بالتصعيد بين إسرائيل وحزب الله | #ر




.. جدل مستمر وخلاف إسرائيلي وفلسطيني حول مستقبل حكم غزة | #التا