الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مقدمة الناقد والشاعر محمد مظلوم ل (صمتٌ مسموع )

عدنان الزيادي

2019 / 3 / 10
الادب والفن



فتنةُ الإصغاء
محمد مظلوم
أنْ تقدِّم شاعِراً بنصِّه لا بِشخصه، فذلك أمر ينطوي على معرفة أخرى مختلفة، فالشاعر كائن من بلاغة وسيرة في مزيج بين المتخيَّل والمعاش، ونصُّه مستودع لذلك كله، ومن المفترض إنه هويته الإبداعية والإنسانية، ولكن يبنغي البحث في هذا المستودع عن ذات الشاعر لا عنْ شخصه، وعدنان الزيادي الشخص لم التق به، لكنني أعرف نصَّه منذ ربع قرن من خلال مجموعته الشعرية الأولى «عن دويِّ الفاكهة ومناقير الصخب» والتي كتبتُ عنها وقتها، كما قرأته لاحقاً في مجموعته ««شيء مثل إطباقة باب» وكتبتُ عنها كذلك، وها أنا أجد نفسي إزاء مجموعته الجديدة (صمت مسموع) لأقدِّمها هنا، لا بدافع نقدي، وإنما قراءة شاعر لشاعر، في هذا النسب المعقد بين الشعر والشعراء، فكم من شاعر، عرفته في المقهى والحانة، في الوطن والمنفى، ولكن صداقتنا لم تدم في الشعر والكتب، بينما لم يجمعني بهذا الشاعر مكان واحد سوى هذه الكتب التي تخترق الأمكنة عبر ربع قرن. وفي كل مرَّةً أجدُه مستغرقاً بنوبة ذهول في خضمَّ الشعر.
إنه من أولئك «الفتية» الذين آمنو بشعرهم! وما زالوا على ذلك الإيمان الغضّ وهم في كهولتهم، أمنوا بخذلان العالم من حولهم، وارتضوا بخسارتهم المرحة، وها هو يحتفي بالذكريات وبالأشياء العابرة من حوله احتفاء طفل لا يريد للعالم من حوله أن يشيخ، ولا للأشياء أن تبتعد عن حميميتها الأولى. ولا للذكريات أن تختفي تماماً وإن بهتت.
منذ عنوان المجموعة «صمت مسموع» يخلق الزيادي مفارقة لكن المفارقة ليست السمة الأساسية لشعره، بيد أن الصوت المضمر هنا إن هو إلا ترجيعٌ لصدى داخلي، إنه وجع مكبوت يضيء في الداخل ويشعَّ في العزلة، وهذا امتياز، لكن من كان معه الشعر لا يمكن أن يكون وحيداً. فهو يجعل من تلك الوحدة عالماً يضجُّ بالأشياء والكائنات، ويجعل من المشهد لُقىً ثمينة ونوعاً من المكافأة المجزية لذات زهدت بكل ما هو متاح وحلمت بكل ما هو غير مستطاع.
ولذا فإن مونولوغ الزيادي ليس مونولوغاً خالصاً، بل يمكن نعته بالحوار شاسع المديات، إنه حوار مع الأثير الأبدي بقدر ما يحاور الشاعر أصدقاءه في البعيد: في الأساطير والعوالم الغابرة والشعر القديم، وهكذا يغدو «الصمت مسموعاً» وقابلاً للإصغاء: صمت أولئك الموتى مجازاً، إزاء ضجة هؤلاء الأحياء مجازاً.
وبقدر ما يبدو العنوان متناقضاً ظاهرياً، إلا أنه ينطوي على جناس ناقص وطباق موجب في الوقت ذاته: صمت وصوت، وهو ما يشير إلى عناية الشاعر بالبديع، وهي سمة إضافية في شعره، لكن أيّ صوتِ مُضمر؟ إنَّه صوت العَصَب الداخلي، وإذا كان لكلِّ صوتٍ إيقاعُهُ، فمن الخطأ الظنّ أن الصمت يخلو من الإيقاع، لكنه نوع من الإيقاع المتشكِّل لا عبر ضجيج الصوت بل عبر تفاصيل الصورة، وعبر ذلك التداعي النفسي والتداخل بين الذاكرة والمخيلة.
أجمل ما في شعر عدنان الزيادي إن أساطيره متخفية ببراعة، فهي تتجول في الحاضر وكأنه عالمها الحقيقي، وكذلك المرجعيات التراثية والدينية، حين ينحو أحيانا إلى لغة تجمع بين نشيد الإنشاد والقرآن (مستهل قصيدة غيوم) كما أنه يمزج اقتباسات ويخفيها بمهارة، حتى لتشعر إنها جزءٌ حيويٌّ من قصيدته، وهي اقتباسات متنوِّعة المصادر من الشعر العربي القديم إلى المعاصر، إلى الشعر العالمي، والأعمال الكبرى. وبذا فهو لا يعبر عن مثاقفة ما، وإنما عن تجاسد مع تلك النصوص والعبارات.
سمة أخرى في هذا الديوان وفي مجمل تجربة الشاعر تتمثل في الاشتغال بترسُّل على اللغة، اشتغالاً على مستوى بناء الجملة وبلاغة العبارة وتماسك التركيب. فالزيادي شاعر يعتني بالديباجة، بالمفهوم التراثي للنقد العربي، بمعنى إنه (يزخرف) لغته مفردة وعبارة وتركيباً، وهذا ما يعني أن الاشتغال، جزء أساسي من شعره، وعندما ينجو الاشتغال من الصنعة القسرية، والتكلف المقصود، فلسوف يمنح النصّ حصانة وفصاحة في الآن ذاته. وخلف هذه الحصانة والفصاحة يتاح للطبيعة والأشياء أن تتحرك، بترسل كذلك، وبشبحية أحياناً، وتتحرك في خلفيتها ملامح لحروب، أقولُ حروباً لأن لا سمات خاصة لحرب محددة في شعره.
غالباً ما تشعر أن الزمن في مجمل قصائد الديوان هو كناية عن «فوات أوان» وهذا الفوات لا يتجسَّد في الماضي وحده، بل في اللحظة نفسها، اللحظة التي لا تتحقَّق إلا لتُعلنَ انصرامها، ولذا فثمة مواعيد فائتة بين الموت والميلاد، حتى لتبدو الأبدية خيبة أمام الحوادث الطارئة. وهذا الفوات ما يجعل البرهة الزمنية ملتبسة بين «الأنا» و«الآخر»
فإذا كانت «الأنا هي الآخر» كما قال «رامبو» ذات يوم، إلا أن لا شيء يحسم هوية الآخر نفسه، ما إذا كان آخر منشوداً، أو مُجتنباً، طريد الذات، أو مطارِدُها، كما أنه لا يحتِّم وجود خلف كل «أنا» آخر مستتر أو محتجب فحسب، بل ربما ما من أحد خلف هذا «الأنا» سوى ظِلالها وربما ضَلالها. هكذا تغدو صيغة المونولوغ نوعاً من الغنائية المواربة، ودهاء الشعر يكمن في تلك المواربة في الكشف والاحتجاب:
«نفضتُ يديَّ كمَن يُنهي معركةً بين آتٍ مِن فضائه
وبينَ عابرٍ بدرَّاجتِه يشغلهُ التفكيرُ بما يتسوَّقُ هذا اليوم
كأني أحدٌ غيري»
ومثلما تبقى «الأنا» مُبهمة حتى للذات نفسها، تبقى الحكاية داخل القصيدة حكاية ناقصة هي الأخرى، وكل قصيدة محاولة لتتمة تلك الحكاية التي تبقى مصرة على نقصانها وعصيانها على الاكتمال أو بالأحرى تمنُّعها بما يجعل النهاية مفقودة، والبحث عنها نوعاً من الشغف بما هو غير متاح وغير موجود.
وإذا كان الشاعر يريد لصمته أن يكون مسموعاً، فإنه بالتأكيد لا ينوي أن يخلق له ضجة، وفي الوقت نفسه هو الصمت الباحث عن إصغاء مختلف، إصغاء إلى المشهد: إلى شريط الأيام والأشخاص الذين يعبرون بثرثرة غامضة في قصائده كما في حياته. وحتى إلى الطيور الغريبة سواء تلك المحلقة في السماء أو القتيلة في الشوارع:
«ولهُ مِنَ الريشِ ما
يجعلكَ عاريا»
في عالم تحوَّلتْ فيه الأحلام إلى كوابيس، لم تبق من مراهنةٍ رابحة، فكل الصفقات هي من ضروب «القسمة الضيزى» والمصائر الباطلة، من هنا يبدو الوهم هو الشي الوحيد المؤكد بالنسبة للشاعر وهو وحده الجدير بالثقة!: «ذلك الوهم لا ريبَ فيه»
ورغم إنها مراهنة معروفة نتائجها سلفاً، لكنها تبقى ممتعة في انتظار ما تؤول إليه ليكتشف الشاعر إنه واثق من هزيمته وليزداد ثقة بيأسه!

دمشق- صيف 2018








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم شقو يضيف مليون جنيه لإيراداته ويصل 57 مليونًا


.. أدونيس: الابداع يوحد البشر والقدماء كانوا أكثر حداثة • فرانس




.. صباح العربية | بينها اللغة العربية.. رواتب خيالية لمتقني هذه


.. أغاني اليوم بموسيقى الزمن الجميل.. -صباح العربية- يلتقي فرقة




.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى