الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
في الذكرى التَّاسعة لأستاذ الفلسفة المرموق د.فؤاد زكريا
أسامة عرابي
(Osama Shehata Orabi Mahmoud)
2019 / 3 / 10
مواضيع وابحاث سياسية
في الذكرى التاسعةِ لأستاذِ الفلسفةِ المرموقِ د. فؤاد زكريا
العلمُ وإشكاليةُ الثقافيِّ والأخلاقيِّ في "التفكيرِ العلميِّ" لفؤاد زكريا
في الحادي عَشَرَ من مارس/ آذار تحلُّ الذكرى التاسعةُ لرحيل أستاذ الفلسفة المرموق د. فؤاد زكريا (1927-2010 ) الذي تميَّزتْ قراءتُهُ للفلسفة بطابَعٍ نقديٍّ واضحٍ وصريحٍ يُولي أصالة السؤال الحي ضد ما بدا أنه أنساق مغلقة أو أجوبة نهائية أهمية كبيرة. لذا عمد إلى تفكيك الأقنعة الفكرية والسياسية التي يضعها العقل اليقيني بين المعنى والقيمة ؛ لتكريس سلطته الشمولية التي تَعُدُّ نفسَها معيارًا نهائيًّا للحقيقة ، ونموذجًا كاملًا للتفكير. وراح ينتقد ميوعة المثقف العربي في مواجهة التراث، وعدم قدرته على تناول مناحيه السسيولوجية والتاريخية ، ورفعها إلى صعيدها الفلسفي ليستخلصَ منظورها الإبستمولوجي والمفهومي ؛ ويبدأ التحرير الكبير للروح والعقل. مَنْ منَّا ينسى دوره التأسيسي عندما رأس تحرير مجلتي "الفكرالمعاصر" و"تراث الإنسانية"، وفي قسم الفلسفة بجامعة عين شمس، وفي قسم الفلسفة بكلية الآداب بجامعة الكويت ، وفي سلسلة "عالم المعرفة" الكويتية، ومؤلفاته الرائدة عن اسبينوزا ..نيتشه.. نظرية المعرفة والموقف الطبيعي للإنسان .. مشكلات الفكر والثقافة ..عبد الناصر واليسار المصري .. العرب والنموذج الأمريكي ..كم عمر الغضب؟هيكل وأزمة العقل العربي .. آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة .. الحقيقة والوهم في الحركة الإسلامية المعاصرة .. الصحوة الإسلامية في ميزان العقل.. خطاب إلى العقل العربي .. التعبير الموسيقي .. وترجماته : جمهورية أفلاطون ..العقل والثورة لهربرت ماركوز أو ماركوزه بالألمانية.. الفلسفة.. أنواعها ومشكلاتها لهنترميد.. حكمة الغرب لبرتراند راسل.. الفن والمجتمع عبر التاريخ لأرنولد هاوزر.. نشأة الفلسفة العلمية لهانزرإيخينباخ وسواها من العمد الرئيسة التي مثَّلت مَعْلَمًا فارقًا في حداثتِنا المعاصرةِ ؟
لهذا هاجمَ د.فؤاد زكريا بضراوةٍ ما يدعوه بـ"مذهب الحقيقة الواحدة الذي لا يقبلُ تعدُّدًا ولا تغيُّرًا، ويمحو كلَّ ما عداه، وينظرُ إليه، لا على أنه وجهة نظر مختلفة، أو خُطوة في الاتجاه الصَّحيح، بل على أنه كلَّه بطلانٌ وبهتان". ورأى أنَّ " كثيرًا من أعضاءَ المدرسة الفكرية التي أفرزتها ثورة 23 يوليو لا تستطيع أن تُفكِّرَ إلَّا من منظور "الحقيقة الواحدة"، وتجد لزامًا عليها أنْ تهدِّمَ الجميعَ قبل أنْ تُقيمَ بناءها الخاصَّ. وهذا ما فعلته مقالات حسن حنفي عندما سعتْ إلى الدِّفاعِ عمَّا يُسميه بـ"الأصولية الإسلامية" على حدِّ تعبيرِهِ. مُنبِّهًا إلى ما أنَّ ما يُسميه البعضُ بـ"الصَّحوةِ الإسلامية"، بصورتِها الرَّاهنةِ، ليس سوى "مظهرٍ لذلك التَّخلُّفِ الذي سادَ العالَمَ الإسلاميَّ، والعالَمَ العربيَّ بوجهٍ خاصٍّ، في السَّبعينياتِ من القرن الماضي".. أي أنَّها ( الصَّحوة) "هي الانعكاسُ المباشرُ للهزائمِ والإحباطاتِ في وعي النَّاس، وليستْ "ردَّ فعلٍ" عليها أو محاولة لتجاوزِها". ومن ثَمَّ؛ كان "الهروبُ إلى الشَّعائرِ الشَّكليةِ، وإغماضُ العينِ عن المشكلاتِ المُتجسِّدةِ في الحياةِ الواقعيةِ، أو الطَّاعةُ المطلقةُ، وإلغاءُ العقلِ النَّقديِّ، أو العودةُ إلى الماضي، والتَّغاضي عن كلِّ ما أتتْ به قرونٌ عديدةٌ من تحوُّلاتٍ وتغيُّراتٍ، ليس هذا كلُّه سوى "فكرِ الهزيمة" ذاتِهِ، وانعكاسٍ للإحباطِ العامِّ الذي ولَّدته على وعي البشر". لذا كان د. فؤاد زكريا شجاعًا في الكشفِ عن أنَّ هذه الظَّاهرةَ المدعوَّةَ من قِبل البعضِ بـ"الصَّحوةِ الإسلاميةِ" (ليستْ وليدةَ سخطِ الأجيالِ الجديدةِ على الأوضاعِ القائمةِ وإخفاقِ الشبابِ في التَّوحُّدِ مع السُّلطةِ، كما يذهبُ بعضُ الباحثين "سعد الدين إبراهيم مثلًا"؛ لأنَّ هذه العواملَ ذاتَها كانتْ قبلَ ذلك، وحتى أواسط السَّبعينيات، تُولِّدُ لدى الشَّبابِ فكرًا يساريًّا)، بل هي"تعبيرٌ مباشرٌ عن بلوغِ الانحطاطِ الفكريِّ ذُروتَهُ، وعن وصولِ النَّزعة التَّسلُّطيةِ بعد ثلاثين عامًا من تزييفِ الوعي إلى نتيجتِها الطَّبيعية. فنفسُ الجوِّ العقليِّ الذي جعلَ من ثروت أباظة أديبَ مصرَ الرسميَّ، ومن أنيس منصور ومصطفى محمود أهمَّ المُفكِّرين والفلاسفةِ، ومن أحمد عدوية أكثرَ الفنانين شعبيةً، هو الذي جعلَ من التَّطرُّفِ الدِّينيِّ أوسعَ الاتِّجاهات انتشارًا بينَ الأجيالِ الجديدةِ من الشَّبابِ". وهنا وجدَ د.فؤاد زكريا أنَّ "بلادَنا يبدو أنَّها أصبحتْ أمامَ خِياريْنِ كلاهما أتعسُ من الآخرِ : فإمَّا أنْ نكتفيَ بفكرٍ مُتقدِّمٍ، مستنيرٍ قادرٍ على الفهمِ والنَّقدِ والتَّحليلِ، ولكنَّهُ عاجزٌ عن الحركةِ، وإمَّا أنْ نسيرَ وراء فكرٍ مُتخلِّفٍ، قاصرٍ في فهمِهِ ونقدِهِ وتحليلِهِ، ولكنَّه هو وحده القادرُ على التَّحرُّكِ". وبذلك أضحتْ بلادُنا بين شِقي الرَّحى "فكر بلا فعلٍ، وفعلٍ بلا فكرٍ". إذن.. أينَ نجدُ خشبةَ خلاصِنا؟ يقولُ د.فؤاد زكريا في دراستِهِ "مستقبلِ الأصوليةِ الإسلاميةِ": "وأحسبُ أنَّه لنْ يكونَ لنا خلاصٌ إلَّا في اليومِ الذي يصلُ فيهِ الذين يُفكرونَ إلى المستوى الذي يُتيحُ لهم أنْ ينقلوا فكرَهم إلى حيِّزِ الفعل المؤثِّرِ والفعَّالِ، أو يصلُ الذين يفعلونَ إلى المستوى الذي يُدركونَ فيهِ قيمةَ الفكرِ المتفتِّحِ والعقلِ المُستنيرِ". وعلى هذا النحوِ، استطاع د. فؤاد زكريا من موقعِهِ المستقلِّ أنْ يرصدَ التَّياراتِ والاتِّجاهاتِ الفكريةَ والسِّياسيةَ المختلفةَ، ويُوضِّحَ جوانبَ القوَّةِ والضَّعفِ فيها، ناشدًا دومًا الحقيقة المجرَّدة، ومصالحَ بلده العُليا، مُردِّدًا مع الفيلسوفِ الألمانيِّ "إيمانويل كانط"، أنَّه لا يخشى أنْ يُفنَّدَ، بقدرِ ما يخشى أنْ يُساءَ فهمُهُ. لافتًا إلى أنَّ "مصرَ أوسعُ وأرحبُ من أنْ تُختزلَ إلى هذه الثُّنائية الضَّيِّقةِ المحصورةِ في إطارِ ثورةِ يولية، وبأنَّ العهديْن النَّاصريَّ والسَّاداتيَّ، وإنِ اختلفا تمامًا في مضمونهما وأهدافهما، قد أخضعا مصرَ لأسلوبٍ فرديٍّ في الحكمِ، كان هو المسئولَ عن القدرِ الأكبرِ من هذا التَّدهورِ الذي نلمسُهُ في كلِّ جوانبِ حياتِنا، وهذا الانهيارِ القاتلِ في معنوياتِ الإنسانِ" وفق ما يذهبُ إليه في مقدمةِ كتابِهِ "كم عمرُ الغضبِ؟ هيكل وأزمةُ العقلِ العربيِّ". لذا وجدَ نفسَهُ "مدفوعًا بقوَّةٍ عارمةٍ إلى تسوية الحسابِ، لا مع هيكل بالذاتِ، بل مع كلِّ القيم وأساليبِ الفكرِ والحكمِ التي كان يُجسِّدها ويُبرِّرُها..."، مُضيفًا : "كان يكفي أنْ أتأمَّلَ هذا كلَّه لكي أغضبَ، ولكنَّ غضبي لم يكنْ وليدَ خريفٍ عاصفٍ، بل كان عمرُهُ أطولَ بكثيرٍ...". ألم يقلْ لنا د. فؤاد زكريا في مقدمة الجزءِ الثَّاني من ترجمتِهِ البديعةِ لكتابِ "برتراند رسل"(حكمةِ الغربِ) : "ولكنَّ الفيلسوفَ كان يرى نفسَهُ على الدَّوامِ مُختلفًا عن المُؤرِّخِ : إذ إنَّ الحقيقة المُنزَّهة، الخالصة، التي تسمو على العواملِ الذَّاتيةِ كافة، هي هدفُهُ المُعلنُ دائمًا. ومع ذلك فإن الفيلسوفَ إنسانٌ؛ ومن ثَمَّ؛ فهو لا يستطيعُ أنْ ينسلخَ كُليةً عن حضارتِهِ، وعن بيئتِهِ، وعن بلدِهِ، وعن تربيتِهِ"؟ وهو عينُ ما توخاهُ د. فؤاد زكريا في درسِهِ الفلسفيِّ.
وفي كتابه "التفكير العلمي" ( "عالم المعرفة ،الكويت،1978) و"مكتبة الأسرة" (2012، في سلسلة الثقافة العلمية)، يُواصل د.فؤاد زكريا دفاعَهُ الذي لا يلين عن العلم والعقل ، راميًا إلى تحريرهما من سلطة الموروث الاتِّباعي ، وبنائهما في ضوء الشروط الموضوعية التاريخية والحاجات الإنسانية ، أي بوصفهما فعالية وجدلًا مع محيطهما العام ؛ من أجل استيعابهما في مَخاضهما المتجدِّد، وتساؤلهما الذي لا ينقطع عن الواقع والنظريات ، في مواجهة حملات التجهيل المأجورة ، وعمليات تسويد الأفكار المتخلِّفة التي تحول دون الإنسان وإنتاج المعنى اللازم لحياته.
ينقسم الكتاب إلى مقدمة وفصول ستة اتخذت العناوين الآتية : سمات التفكير العلمي .. عقبات في طريق التفكير العلمي .. المعالم الكبرى في طريق العلم .. العلم والتكنولوجيا .. لمحة عن العلم المعاصر ..شخصية العالِم ..ثم خاتمة ومراجع . داعيًا إلى مراجعة الفكر الإيديولوجي والأصولي المحافظ مراجعة نقدية جادة في ضوء العلوم الاجتماعية والإنسانية الحديثة ، وإرساء كوزمولوجيا جديدة تقود إلى إبستمولوجيا مغايرة تؤكد بجلاء أن "العلم نشاط يزداد تخصصًا بالتدريج ، ولا تقدر على استيعابه إلا فئة من البشر أعدت نفسها إعدادًا شاقًّا ومعقدًا . ولكن هل يعني ذلك أن جمهرة الناس لم تتأثرْ بشيء مما زوَّدها به العلم ،فيما عدا تطبيقاته؟" . وبذلك لا يُمسي التفكير العلمي "تفكير العلماء بالضرورة"، ولا ينصبُّ في سياق كتابنا هذا "على مشكلة متخصصة بعينها، أو حتى على مجموعة المشكلات المحدَّدة التي يُعالجها العلماء، ولا يفترض معرفتها بلغة علمية أو رموز رياضية خاصة"، لكن "التفكير العلمي الذي نقصده هو ذلك النوع من التفكير المنظَّم الذي يمكن أن نستخدمه في شئون حياتنا اليومية ، أو في النشاط الذي نبذله حين نمارس أعمالنا المهنية المعتادة ، أو في علاقاتنا مع الناس ومع العالم المحيط بنا "، مُشدِّدًا على أن "كل ما يُشترط في هذا التفكير هو أن يكون مُنظَّمًا ،وأن يُبنى على مجموعةٍ من المبادئ التي نُطبِّقها في كلِّ لحظةٍ دون أنْ نشعرَ بها شعورًا واعيًا ، مثل مبدأ استحالة تأكيد الشيء ونقيضه في آن واحد، والمبدأ القائل إن لكلِّ حادثٍ سببًا ،وإن من المحال أنْ يحدثَ شيء من لا شيء". وبذلك لا يرتدُّ العقل في لحظات الأزمة والمفاجأة إلى العجائبية واجتراح المعجزات ، أو يُصبحُ في أفضل أحواله في الوضع الذي وجد فيه الفيلسوف "باسكال" نفسه : "لكنني في حالةٍ يُرثى لها ؛ لأنني أرى أكثر مما يسمح بالإنكار، وأقلّ مما يسمح بالاطمئنان"، على نحو ما نراه مثلًا في عالمنا العربي الذي "يخوض معركة ضارية في سبيل إقرار أبسط مبادئ التفكير العلمي ، بل يُخيَّل إلى المرء في ساعات تشاؤم معينة أن احتمال الانتصار فيها أضعف من احتمال الهزيمة"، أو "الافتخار فحسب بعلمنا القديم" لإثبات أن العلم الحديث "من صنعنا نحن، أي أنهم يُعرِبون بذلك عن نوعٍ من الاعتزاز القومي؛ ومن ثم فهم لا يأبهون بالعلم الحديث مادام من صنع الآخرين "، مع أن "العلم ليس قوة معادية لأي شيء ، ولا منافِسة لأي شيء، والعالِم شخص لا يُهدِّدُ أحدًا، ولا يسعى إلى السيطرة على أحد . وكل المعارك التي حوربَ فيها العلم والعلماء كانت معارك أساء فيها الآخرون فهم العلم ، ولم يكن العلم ولا أصحابه المسئولين عنها ". بَيْدَ أن المأساة تبلغ ذُروتها حين يرى الإنسان "أشخاصًا يعدُّهم المجتمع من العلماء ؛ منهم من وصل في الجامعة إلى كرسي الأستاذية ، يُدافعون بشدَّةٍ عن كراماتٍ ينسبونها إلى أشخاص معينين (ليسوا من الأولياء ولا ممنْ عُرفت عنهم أيُّ مكانةٍ خاصَّةٍ بين الصالحين) تُتيح لهم أنْ يقوموا بخوارقَ كاستشفافِ أمورٍ تحدثُ في بلدٍ آخرَ دون أنْ يتحركوا من موضعهم، أو تحقيق أمنيَّاتهم بصورة مادية مجسمة بمجرد أنْ تطرأَعلى أذهانهم هذه الأمنيَّات... "من دون التمييز، بالطبع ، بين مجالي العلم والدين ، وبيان ما بينهما من اختلافٍ جليٍّ في النظر إلى الكون والعالم والظواهر، متأسين ربما بمحاولات هارفي كوكس وجابرييل فاهانيان وج.ا.روبنسون وسواهم ممن سعوْا إلى جَسْرِ الهُوة الشاسعة التي أحدثها التقدُّم العلمي والتكنولوجي والفلسفي بين العلم والدين . وهنا يؤكد د.فؤاد زكريا أن "العلم يظهر منذ اللحظة التي يُقرِّرفيها الإنسان أنْ يفهم العالمَ كما هو موجود بالفعل ، لا كما يتمنَّى أن يكون . ومثل هذا القرار ليس عقليًّا فحسب، بل إنه بالإضافة إلى ذلك ، وربما قبل ذلك، قرار معنوي أخلاقي"، محذِّرًا من "التَّعصُّب الذي يجعل الحقيقة ذاتية ومتناقضة ، وهو ما يتعارض كليةً وطبيعةَ الحقيقة العلمية"، لافتًا النظرَ إلى فكرة النظام التي قالت بها الفلسفة اليونانية والمرجعيات المثالية في محاولةٍ لإيجاد تفسيرٍ للعالم . بَيْدَ أن "الاختلاف الأساسي يكمُنُ في أن التنظيم ، كما يقول به العلم ، يخلقه العقل البشري ويبعثه في العالم بفضل جهده المتواصل، الدءوب، في اكتساب المعرفة ، على حين أن العالم ، وفقًا لأنماط التفكير الأخرى ، منظَّم بذاته". وهذا هو جوهر مشروع التنوير ذاته، أي نقد الوصاية الخارجية على الإنسان، والتشديد على أن العالم ينمو بوصفه مقولة كونية متغيرة ..غير متجوهرة ؛ حتى لا نُحدِّدَ العقلَ بالمعقول ، والمعقولَ بعلمٍ سابقٍ على العقل، أو بتعبير الفيلسوف الألماني "يورجن هابرماس": "إن مشروع الحداثة الذي صاغه فلاسفة الأنوار في القرن الثامن عشر يقوم على تطوير العلوم المضفية للموضوعية ، والأسس الكونية للأخلاق والقانون وأخيرًا الفن المستقلّ ، لكن أيضًا على تحرير موازٍ للقدرات المعرفية من أشكالها النبيلة والغريبة لتجعلها قابلة للاستعمال من لدن الممارسة ؛ من أجل تحويلٍ عقلانيٍّ لمواضعات الوجود". وهنا يعمد الدكتور فؤاد زكريا في هذا السياق إلى تقديم عرضٍ موجزٍ للمراحل الرئيسة التي مرَّ بها العلم ، أي لنقاط التحوُّلِ الكبرى في تاريخ العلم ، دون خوضٍ في تفاصيلها ليقفَ على "التطوُّرِ الذي طرأعلى معنى العلم. ذلك لأن العلم ظاهرة قديمة وظاهرة حديثة في آنٍ واحدٍ: إنه قديم إذا نظرت إليه بأوسع وأشمل معانيه ، أي على أنه كل محاولة يبذلها العقل البشري لفهم نفسه والعالم المحيط به ، ولكن هذا المعنى الواسع الشامل أخذ يزداد دقة على مرِّ العصور، وأخذ نطاق العلم ، وأسلوب ممارسته يتحددان على نحوٍ أدقَّ من مرحلةٍ إلى أخرى، حتى وصل في النهاية إلى وضعه الراهن". وهنا يُزيح النقابَ عن أن "نشأة العلم لم تكن يونانية خالصة، ولم يبدأ اليونانيون في استكشاف ميادين العلم من فراغٍ كاملٍ، بل إن الأرض كانت ممهَّدة لهم في بلاد الشرق التي كانت تجمعهم بها صلات تجارية وحربية وثقافية، والتي كانت أقرب البلاد جغرافيًّا إليهم. وإذا كانت الحلقة المباشرة ، فيما يتعلَّق بانتقال العلوم الأساسية من البلاد الشرقية إلى اليونانيين،هي حلقة مفقودة، فإن المنطق والتاريخ والكشوف المتتابعة تُؤكِّد لنا أنها لابُدَّ كانت موجودة". ألم يشهد أفلاطون بفضل الحضارة المصرية القديمة على العلم والفكر اليونانييْن ، وقال لبني جلدته : أيها اليونانيون إنما أنتم أطفال، بالقياس إلى تلكم الحضارة العظيمة ؟ لكن هذا لا يعني على الإطلاق "أننا نُنكر فضل اليونانيين في ظهور العلم". غير أن ذلك لا يُسوِّغ القول : "بضرورة وجود أصلٍ واحدٍ للمعرفة العلمية وتصوُّرٍ واحدٍ يرجع إليه الفضل في ظهورها، وربما كانت هذه عادة أوربية سيئة ينبغي التخلص منها". ومن ثَمَّ؛رلا مشاحة من وجود "أصولٍ متعدِّدةٍ أسهم كلٌّ منها في ظهور مفهومٍ معيَّنٍ من مفاهيم العلم، أو جانبٍ معيَّنٍ من جوانبه، مع اعترافنا بأن لكلٍّ من هذه الأصول،رفي ميدانه الخاص، فضلًا يستحيل إنكاره"، وعلى الرغم من أن كثيرًا من الكتَّاب الغربيين يروْن أن العلماء المسلمين لم يخرجوا عن فلك التفكير العلمي اليوناني، مستندين في ذلك إلى شيوع "فكرة الأمزجة التي أكَّدتها كتابات الأطباء اليونانيين في الطب الإسلامي، وسلَّم بها ابن سينا في كتابه المشهور "القانون"، وفكرة العناصر الأربعة : الماء والهواء والنار والتراب الموروثة عن الفلاسفة اليونانيين الأوائل، وتردُّدِ أسماء أرسطو وأبقراط وجالينوس في المؤلفات العلمية الإسلامية". لكن تطوُّرَ العلم لم يكن وقْفًا على جهود العلماء فحسب، بل شارك فيه الفلاسفة بقسط وافر، على نحو ما بدا في العصر الأول من عصور العلم الأوربي الحديث، وما نحا نحوه كثير من العلماء –ومنهم نيوتن نفسه – حين أطلقوا اسم الفلسفة التجريبية أو الفلسفة الطبيعية على عناوين أبحاثهم الرئيسة، وكان مقدَّرًا لهذا الإسهام أن يُفضي إلى ضربٍ من التداخل والاندماج بين الفلسفة والعلم، إلا أن انفصالهما مضى في مساره الذي فرضه تباينُ طريقتي البحث والتمييز بين مناهجهما "وأصبحت فئة العلماء المستقلين عن الفلاسفة في تفكيرهم استقلالًا تامًّا ، فئة معروفة يزداد نفوذها يومًا بعد يوم. ولم يكن الفلاسفة أنفسهم يقفون حائلًا في وجه هذا الاستقلال. بل كانوا يُشجِّعون عليه، وينظرون إلى أنفسهم على أنهم دعاة مخلصون للعلم. وكان ذلك وضعًا جديدًا للعلاقة بين الفيلسوف والعالم، لم تعرفه العصور السابقة : إذ أصبح الفيلسوف ينظر إلى نفسه، لا على أنه هو نفسه الذي يأخذ على عاتقه مهمَّة توسيع نطاق المعرفة البشرية في المجالات كافة ودفعها إلى الأمام، بل على أنه هو الذي يضع الأساس الفكري للعمل الذي يقوم به أشخاص آخرون مستقلون عنه، أي أنه ليس هو خالق المعرفة بل هو منظِّرها فحسب". وهو ما يتناغم لاريب مع مهمته بوصفه فيلسوفًا يحرصُ على تأمين الاستقلالية الذاتية للعقل، وتأمين مسئوليته الفكرية الكاملة في البحث. وهو ما دعا د .فؤاد زكريا إلى الاهتمام بدراسة شخصية العالِم وتكوينِهِ العلميِّ وما يتعين أن يتحلى به من سمات، بعد أن تبيَّن له "أن البحث العلمي نشاط مستمر، يقوم به أناس ينكرون شخصياتهم، ولا يحرصون إلا على متابعة السير في الطريق. ومثل هذا الطابَعِ اللاشخصيِّ للعلم خليقٌ بأنْ يجعلَ مشكلة البحث في شخصية العالِم مشكلة ثانوية لا مبرر للاهتمام بها". وهنا يستدرك د.فؤاد ليعترف بأمريْن : الأول أن هناك استثناءاتٍ، وأن من السهل أنْ يجدَ المرءُ علماءَ لا تنطبقُ عليهم صفة، أو مجموعة من الصِّفات التي نرى أنها هي المميِّزة لشخصية العالِم – وهذا أمر طبيعي. والآخر أن وجود هذه الصِّفات لا يجعلُ المرءَ عالمًا بطريقة آلية. لهذا ركَّز بحثه على مجموعة من العناصر التي رأى أنها من أهم مكونات هذه الشخصية، وإن لم يكن من الضروري أن تتجمع كلُّها في كلِّ عالِم على حدة. وبذلك فإن "العناصر الأخلاقية في شخصية العالِم" لا يُقصد بها "تلك الأخلاق الشخصية التي تتعلَّق بطريقة سلوك العالِم من حيث هو إنسان، وإنما المقصود هو الأخلاق المتصلة بعمله العلمي، سواء بطريق مباشر أو بطريق غير مباشر"وأولها الروح النقدية ، وهي أول معنى للموضوعية بما تقتضيه من عدم تأثُّرٍ بالمسلمات الموجودة أو الشائعة، وأنْ ينقدَ نفسه ويتقبَّلَ النقد من الآخرين. ويُشدِّد د.فؤاد زكريا على حيوية ما يسميه "بالضمير النقدي في ميدان العلم" وهو مالم يتبلورْ بالقدر الكافي في عالمنا العربي؛ لأسبابٍ متعدِّدةٍ أهمها في رأيه سببان : الأول أن نهضتنا العلمية الحديثة قريبة العهد؛ بحيث لم يُصبحْ لدينا تراثٌ يجعل النقد جزءًا رئيسًا من حياتنا العلمية، كما هي الحال في البلاد المتقدمة. والسبب الآخر (وهو مرتبط بالأول ارتباطًا وثيقًا) هو ذلك الخلط الذي يسود جوانب حياتنا كافة، بين ما هو خاصٌّ وما هو عامٌّ، أو بين العوامل الشخصية والعوامل الموضوعية. ويُضيفُ قائلًا: ولعل مما يزيد من حدة هذه المحنة، أن وسائل النقد ذاتها غير متوافرة: فالمجلات والدوريات قليلة، أو منعدمة في بعض المجالات، وهي لا تُخصِّصُ إلا مساحات ضئيلة للنقد العلمي الجاد، ولها العذرُ في ذلك؛ لأن العملية نفسها لا تلقى استجابة كبيرة من الكتَّاب. ثانيًا : النزاهة، وتتمثَّل في قدرة العالِم "على ألَّا ينسبَ إلى نفسه شيئًا استمده من غيره، وأنْ يستبعدَ العوامل الذاتية من عمله العلمي، وأنْ يسعى إلى الحقيقة وحدها، بغضِّ النظر عمَّا يمكن أنْ يجنيَهُ من ورائه من مغانمَ."وكان أفلاطون قد حرَّم على العلماء، في مدينته الفاضلة، اقتناء الذهب والفضة اكتفاءً بما في نفوسهم من هذيْن المَعْدِنيْن النفيسيْن. ثالثًا : الحياد : أي التجرُّد والتنزُّه والبُعد عن التحيُّز والهوى، واعتياد الصدق وعدم التفريط في القيم المعنوية المرتبطة به، مهما كان مستوى أخلاقية العالِم في حياته الخاصة. وعلى هذا النحو، يغدو الجهد العلمي هو ذاته - في نظر د.فؤاد زكريا- نوعًا من الجهاد الأخلاقي، ويكونُ التحلِّي بقدر معين من القيم الأخلاقية صفة أساسية للعالِم – هذا طبعًا إذا كان عالمًا بالمعنى الصحيح. فقد تعقَّدت الحياة وأمست أكثر درامية وتركيبًا؛ بحيثُ أصبحنا لا نجدُ مفرًّا من البحث في النتائج الأخلاقية للعلم، "وأصبح العلم في عصرنا الحاضر قوة تُؤثِّر في حياتنا ومسلكنا العملي، لا مجرَّد إرضاءٍ لحبِّ استطلاعِنا ، وزالَ الحدُّ الفاصلُ بين وظيفة العلم في إلقاء الضوء على ما هو كائن، ووظيفة الأخلاق في إرشادنا إلى ما ينبغي أن يكون". وهنا يُهاجم د.فؤاد زكريا "التكنوقراط"الذين يفتقرون إلى منظور شامل يتجاوز نظرتهم العلمية المتخصصة ليروْا الحقائق الكبرى للمجتمع العريض، مؤكِّدًا أن الوضع الأمثل هو أن يكون العالِم ذا وعي سياسي في الوقت ذاته"، وهذا أمرٌ يتحقَّقُ بالفعل لدى عددٍ من العلماء الكبار الذين يفخرُ بهم عصرنا هذا، ولكن أمثال هؤلاء العلماء قلة". ثم يختم د.فؤاد زكريا كتابه بالتأكيد على أن الإقبال على الثقافة لذاتها، من جانب العلماء الكبار، لا يُمكنُ تفسيرُهُ إلا على أساس وحدة الإنسان"؛ فالروح الإنسانية ينبغي أن تظل محتفظة بوحدتها مهما ضاقَ نطاقُ اهتمامِها الأصلي". لهذا كان التداخلُ وثيقًا بين التجريد العلمي، متمثِّلًا في أعلى مظاهره أي الرياضة، وبين الخيالِ الذي يسعى إلى كشف الجمال في كل شيءٍ، وهو ما يعزوه إلى أنَّ كلَّ كشفٍ جديدٍ يُثيرُ لدى العالِم حساسية جمالية متزايدة، بقدر ما يُوسِّع نطاقَ معرفتِهِ ويُؤكِّد سيطرة العقل على الطبيعة. وهو ما يدفعنا إلى أن نقول معه إن المنبع الذي ينبثقُ منه الكشف العلمي الجديد، والعمل الفني الجديد، هو منبع واحد، وإن الجذور الأولى والعميقة للعلم والفن واحدة. ولا عجبَ أن نجدَ أقطابَ العلمِ يقتربون من الفن اقترابًا شديدًا في طريقة إبداعهم، وفي جرأتهم على استكشاف المجهول. وهو ما يُعيدُنا إلى مقولات فيلسوف عظيم من طراز "كوندورسيه" تُغذِّي الأمل اللامحدود في أن الفنون والعلوم يُمكنُ أنْ تُسهمَ لا في مراقبة القوى الطبيعية فحسب، بل أيضًا في فهم العالم وفي فهم الذات وفي التقدُّم الأخلاقي، وفي تحقيق عدالة المؤسسات الاجتماعية ، بل حتى في تحقيق سعادة الناس. وكما رمى د.فؤاد زكريا في كتابه "كم عمر الغضب؟ هيكل وأزمة العقل العربي" إلى أن يَحُثَّ قرَّاءه على أنْ يُفكروا فيما يروْنه حولهم بوعي وتبصُّرٍ. ولا بأس خلال ذلك من أنْ تتزعزعَ مقدساتٌ كثيرة؛ إذ لا تثريبَ من جرعةٍ كبيرةٍ من النقد والتشكيك في عصرٍ أصبحنا فيه ممنوعين من أيِّ اعتراضٍ أو احتجاجٍ.. وكما حَرَصَ في كتابه "الصحوة الإسلامية في ميزان العقل" على أنْ نضعَ تصوُّرًا للتاريخِ مبنيًّا على "التكامل" لا على "الاستبعاد"؛ حتى لا نقعَ في شَرَكِ "الحقيقة الواحدة والوحيدة"، وهَدَفَ من وراءِ ترجمتِهِ كتابَ "الفنِّ والمجتمعِ عبر التاريخ" إلى لفتِ نظرِنا إلى ضرورة توخي الحذر الشديد عند إرجاع الظاهر الفنية إلى إطارها الاجتماعي ؛ حتى لا نتعسَّفَ في التفسير والتأويل ، ونُهملَ حيوية الكلِّ المُعقَّدِ الذي يُكوِّنُهُ النوعُ الفنيُّ، وقوانينُه المستقلَّةُ الخاصَّةُ به، فقد سعى في كتابه هذا "التفكير العلميّ" إلى أنْ نبدأ من المشخَّص والمتعيِّن لنفكِّكَ المقولاتِ بشكلٍ علميٍّ، ونميِّزَ بين التاريخي وما فوق التاريخي؛ لأنَّ التوصُّلَ إلى المعرفة العلمية يقتضي منَّا المرور بمرحلتيْن اثنتيْن كما قال لنا "جاستون باشلار": الأولى سلبية، والأخرى إيجابية؛ إذ إن الأولى تفكيكية، والأخرى تركيبية، ولا تسبق إحداهما الأخرى. وبذلك تتحقَّقُ القطيعة الإبستمولوجية، ويغدو العلم قوة موحِّدة "تخدم الإنسانية بلا تفرقةٍ، متجاوزة النزعتيْن : التجارية والقومية في استخدامه ؛ فيستعيد التفكير العلمي لدى البشر طبيعته الحقَّة ؛ بوصفه بحثًا موضوعيًّا عن الحقيقة، يعلو على كل ضروب التحيُّز والهوى، ويزنُ كلَّ شيء بميزان واحد، هو ميزان العقل". ألم يقل لنا "فولتير: "إنَّ "التصوُّرَ العقلانيَّ للدين أكبر من أيِّ دينٍ وأوسعَ ؛ لأنه يشمل البشرية كلَّها. فالدين يظلُّ محصورًا في عددٍ محدودٍ من النَّاس، أمَّا التديُّنُ العقلانيُّ أو القائمُ على العقلِ فلا حدودَ له". ولكن كيف يُمكنُ تحريرُ الرُّوحِ العربيةِ في ظلِّ غياب الديمقراطية، والتَّراكُمِ المعرفيِّ، وبمنأى عن تنظيم الفكر منهجيًّا، والاكتفاء باجترارِ المقولاتِ المتحجرةِ على مدارِ القرونِ الغابرةِ ؟ سؤالٌ يُجيبُ عنه كتابُ "التفكيرِ العلميِّ" للدكتورِ فؤاد زكريا الذي أقدمَ على وضعِ هذا الكتابِ، مُسلَّحًا بدرسِ سلفِهِ الرائدِ العظيمِ (د.شبلي شميل) : "الحقيقة تُقالُ لا تُعْلَمُ ".
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. ماذا وراء استئناف الخطوط الجوية الجزائرية رحلاتها الجوية من
.. مجلس الامن يدعو في قرار جديد إلى فرض عقوبات ضد من يهدّدون ال
.. إيران تضع الخطط.. هذا موعد الضربة على إسرائيل | #رادار
.. مراسل الجزيرة: 4 شهداء بينهم طفل في قصف إسرائيلي استهدف منزل
.. محمود يزبك: نتنياهو يريد القضاء على حماس وتفريغ شمال قطاع غز