الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قاتل بالصدفة

فوزى سدره

2019 / 3 / 11
الادب والفن


في قرى وعزب الصعيد المصري.. و بعد يوم شديد الحر .. وشديد العرق في الغيطان .. تجتمع البيوت حول التليفزيون لتتابع ما وصلت إليه التمثيليات حتى يجيء النعاس .. وعلى المصاطب تدور النميمة من فم لفم مع أكواب الشاي.. وتجلس النساء في الداخل يتسامرن:
- هتسمي النونو إيه يا ست بهية؟ (سألت إحدى القريبات)
أجابت الحامل:- أسميها على اسم البطلة في التمثيلية "رشا"..جولتي إيه يا خالتي ؟
- زين ما اخترتي .
كبرت رشا على أربعة أولاد جاؤوا قبلها .. وكل شباب القرية يتمنون اللعب معها .. بنت دلوعة.. عينان عسليتان واسعتان.. وملامح مرسومة بيد فنان بارع .. شعر أسود ناعم متسربل حتى القدمين .. لم تصل رشا الرابعة عشرمن عمرها.. حتى تسابق أولاد الأعمام على خطبتها .. ولكن ابن خالها كان له السبق والحظ؛ لأن خالها هدد أخته إن لم تكن رشا من نصيبنا ..لن تعرفونا ولن نعرفكم .
تمت خطبة رشا على ابن خالها "ناجح" وكان يكبرها بستة أعوام .. ولم تمض أربعة أشهر حتى انتقلت رشا إلى بيت خالها .. لم يكن لناجح رأي أو إرادة في اختيار رشا .. ولكنه أحس بالتحدي والفوز.. ولم تكن رشا تميل له .. كان في نظرها جلف .. لا يفهم معاملة النساء ولا مشاعرهن ومتطلباتهن.
تربى ناجح على الخشونة منذ صغره .. فقد كان سند أبيه في الغيط.. تعلم منذ صغره التعامل مع البهائم في حلب الجاموس ووضع العشب لهم وركوب الحمار الذي ينقلهم من الغيط للدار والعكس.
كان في رأيه أن زوجته لا تختلف عن أمه .. عملها هو العجن والغسيل وتنظيف البيت وتحضير الطعام وإنجاب الأطفال وتربيتهم..والطاعة العمياء كما يراها في أمه مع أبيه ..هي لا تخاطب غريبًا ولا تجاريه في الكلام .
أحست رشا من اليوم الأول أنها قد دخلت زنزانة .. وأٌغٌلقت عليها .. وأوامر من كل أحد في البيت .. وتكليفها بكل شئون الدار ..وإنجاز ما كانت تقوم به أم ناجح .. حتى أنها لم تجد وقتًا للاهتمام بنفسها ورعاية جمالها الذي خُلقت به .. فكل متعة وكل أنوثة في داخلها دُفنت .. وصبرت على هذا الحال ولكن لحين وقت الانفجار.
كانت تطلب زيارة أهلها بحجة تعب أمها لتذهب لخدمتها .
- إيه يا بنتي.. مالك مهمومه وخسيتي كده .. مش لاقية أكل؟
- معلش يا أمي..أصلي أنا حامل.
- ألف مبروك يا رشا .. تجيبيلنا ولد وبعده بنت.
في يوم جلس ناجح مع أصحابه على المصطبة .. أتوا بسيرة أمريكا.. قال أحدهم:
- شوف ولاد عم شحاته اللي عمرهم ما شافوا البندر .. مرة واحدة يروحوا أمريكا.
رد آخر:- إزاي يا خويا .. دول حتى ما حصلوا الابتدائية.. بيجولوا لازم معاه دبلوم زراعة.
- ياعم .. باشكاتب القرية بيضرب شهادة خبرة .. الواد عويس ماشافش مدارس .. أٌمال سافر إزاي؟ ولا يعرف يفك الخط.
- واحنا انكتب علينا الغيط والدار .. أنا نفسي يا واد اشوف الدنيا.
- يا عم خليك في دارك .. من خرج من داره اتقل مقداره.. دا انت هنا بتعمل اللي انت عاوزه .. ولو ضربت مراتك ما تقدرش تفتح حنكها .. وأنا سمعت هناك لو قلت لها بم .. تجيبلك العسكر ياخدوك ع السجن .. غير البهدلة.
- شكلها إيه الست اللي بتجيب العسكر لجوزها؟
- عنديهم حرية .. الست هناك ليها مقام قبل الراجل .. ده احنا هنا في نعمة.

في ساعة صفا حكى ناجح لزوجته ما دار مع أصحابه.
سمعت رشا اسم أمريكا وسرحت بخيالها .. هي أمريكا دي شكلها إيه؟ الستات تقدر تلبس زي ما هي عايزة ؟ تشبثت رشا بالفكرة.
- ياما أنا مرتاح هنا .. أنا معرفشى ليه مراتي عايزه تتغرب. قال ناجح لأمه.
وكأنما الحظ كان حليفًا وطائعًا لرشا .. فقد جاؤوا لأمريكا بعد سنوات قليلة واستقروا في ولاية "تينيسي". انبهرت رشا عندما رأت الأمريكيات الشقراوات .. وذهبت للكوافير لتصبغ شعرها بالصبغة الأمريكية .. وهناك سألت:- ماعندكش هنا حنة؟
- حنة إيه ! إنتي في امريكا ودي صبغة من أوروبا.
وسرعان ما وضعت رشا العدسات الزرقاء .. وارتدت البنطلونات والبلوزات ذات الماركات العالمية .. وعرفت كيف تلون وجهها .. لقد عادت للمرآة مرة أخرى .. تبحث عما يشبع غرورها ويقدر أنوثتها واحتياجاتها.
أما ناجح فقد تربى على الخشونة والكفاح .. دائمًا يقول "إن ماكناش نعمل فلوس في أمريكا يبقى لزمتها إيه " .. يخرج من الصباح ويدخل البيت في ساعة متأخرة . مهدودًا.. وكما كان في القرية .. يريد كل شيء جاهزًا.. الطعام والنظافة والحمام .. سبعة أيام على ذلك الحال .. ولا يدرك أن هناك زوجة لها اهتمامات وأشياء خاصة تنتظرها من زوجها.
تغيرت رشا .. فالمناخ والبيئة لهما أثر فعال في الفكر والمشاعر .. وهناك فرق بين مَنْ تقيم في عزبة بين المواشي والغيطان وكُتاب القرية .. وأخرى تنسمت هواء أمريكا .. وتعاملت مع ناسها وتجولت في شوارعها .. كانت في جرة وطلعت برة.. من سجن القرية وعاداتها لهواء الحرية واحترام المرأة.
إن الظلم يُربي أحيانًا صفات إنسانية .. وربما تتفجر منه ينابيع من التمرد .. ما الذي كان يدور في عقل رشا ؟ لقد أرادت أن تعيش كإنسانة لها مشاعر تريد أن تُحترم .. وأنوثة تريد أن تأخذ دون أن تعطي .
أرادت هي أن تتحرر من عبودية المرأة وسخريتها .. وتطلعت أن تكون امرأة أخرى .. أما ناجح فقد جاء برواسب وسلوكيات ظل متمسكًا بها .. وهنا نشبت الحرب وانشرخ البيت .. وخرجت الكرامة من مكمنها .. واشتعلت نيران الظنون والشكوك .. وبدأت الرياح تهب عواصفها.
جاء زميل عمل لناجح وسأله:
- هي المدام بتشتغل إيه ؟ في حد بيوصلها لشغلها ؟
وقاله له زميل آخر:- خلي بالك من بيتك .. لولا معزتك عندي ماقلكش الكلام ده.
ولأن بعض الناس مرضى بحب الاستطلاع والفضول والمراقبة .. فقد بدأ الهمس والغمز
قال له أحدهم:- الراجل إذا ماكنش راجل في بيته ما يبقاش راجل.
أمريكا تلعب بالعقول .. ولعب الفار في عقل ناجح .. فاستأذن يومًا من العمل بحجة أنه مُتعب وذهب مبكرًا على غير عادته إلى المنزل.. فلم يجد زوجته بل وجد أطفاله أمام التليفزيون.
- فين أمكم ؟
- ما نعرفشي .
انتظر وطال الانتظار .. طلبهاعلى الهاتف.. لم ترد .. ازدادت شكوكه ..وأخيرًا نظر من النافذة .. فوجد زوجته تترجل من سيارة .. وينزل الرجل الذي كان يقود السيارة يصافح يدها.
فتحت رشا الباب .. وبمجرد دخولها .. واجهها بوابل من الأسئلة : رحتي فين ؟ مين ده ؟ مارديتيش على التليفون ليه ؟ سيرتك بقت على كل لسان .. وصفعها بكل ما أوتي من قوة.
- طول عمرك رجل مريض .. ناقص .. شكاك ..صاحبتي كانت عيانة.. رحت اسأل عليها .. عملت لها الأكل و جوزها وصلني.
- انتي فجرتي.. هو انتي فاكراني حمار .. كل الناس بتلومني..انتي من يومك مش على بعضك .. الله يرحمك يا أبا قلت له : دي ماتنفعش . دي دلوعة.
- انت متخلف .. محتاج علاج .. ولو كترت هاطلب لك البوليس واحطك في السجن.
جن جنون ناجح .. دارت الدنيا بكل شرورها في عقله .. وأراد كبرياؤه الدفاع عن نفسه .. وعندما يحين وقت المصائب فكل شيء جاهز للحدث .. سيخ من الحديد كان مركونا على الحائط .. لم يدر ناجح بنفسه وكأن شخصًا آخر بداخله يُحرضه ويُحركه .. أمسك بالسيخ وبضربة واحدة على رأس الزوجة .. سقطت وكانت ضربة في مقتل.
رمى السيخ .. ودخل غرفة أولاده فوجدهم غارقين في النوم .. لف زوجته الملقاة على الأرض بعد أن صمت جسدها إلى الأبد .. وانتهى كل شيء سريعًا بدون إرادة أو تخطيط .
بعد منتصف الليل .. حَمل زوجته ووضعها في سيارته .. وظل يقود بدون وعي من منطقة لأخرى في الطرق السريعة .. حتى لمح غابة مليئة بالأشجار مهجورة ..أوقف السيارة بجوارها وأطفأ مصابيح السيارة .. تلفت يمينًا ويسارًا.. كل شيء ساكن ماعدا صوت الحشرات .. حملها على كتفه ودخل الغابة وألقى بالجثة ما بين الأحراش والأشجار.
في الصباح الباكر ..كانت مقاعد أول طائرة تغادر إلى مصر .. تضمه بجوار أطفاله ..عاد إلى قريته .. وسلم الأطفال لجدتهم لترعاهم .. قال لأقربائه أن زوجته هجرته وتركت أولادها ولم يعرف لها مكانا .. فخشى على أطفاله من التربية في أمريكا .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟