الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فلسطين: الماعز أم التمساح؟

صبحي حديدي

2006 / 4 / 25
القضية الفلسطينية


خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس"، استكثر على بعض القيادات الفلسطينية أنها تذهب إلى تل أبيب لكي تتعشى وتسكر، وذلك بعد أن عقد مقارنة غريبة بعض الشيء: "هل العيب في مَنْ يفجّر نفسه في تل أبيب، أم في من يتعشى ويسكر في تل أبيب"؟ الأرجح أنّ "العيب" ليس القيمة الأخلاقية الأنسب هنا، ليس بسبب الفارق المذهل بين معنى الإعابة في السلوكين فحسب، بل لأنّ ما يفعله أهل السلطة الوطنية في تل أبيب لا يقتصر على مباذل العشاء والسكر، بل هو أشدّ خطورة وانحطاطاً من أن يندرج في تصانيف العيب وحدها.
ورغم أنّ مشعل كان يتحدّث من دمشق، حيث تحكم زمرة هي الأشدّ فساداً وإفساداً من جانب أوّل، وحيث النظام الاستبدادي الوراثي يقف على نقيض تامّ من الروح الديمقراطية التي أتاحت للشعب الفلسطيني أن يسلّم الحكم إلى "حماس"، وحيث أجندة السلطة السورية تجاه السلطة الوطنية الفلسطينية لا تنطلق البتة من صالح ومصالح الشعب الفلسطيني (ولا حتى "حماس"، في نهاية المطاف)؛ فإنّ حديث مشعل عن هذا الجانب في فساد القيادات الفلسطينية كان يعيد التذكير بحقائق شائعة يعرفها الجميع. هذا لا يلغي أنّ المرء قد يختلف أو يتفق حول التوقيت، وبعض العنف اللفظي هنا وهناك، وطبيعة التحالف (غير المقدّس أبداً!) الذي لمّ شمل هذه الاحزاب والمنظمات والقوى والأطراف المشاركة في لقاء مخيّم اليرموك.
وفي مسرحية «يوليوس قيصر»، يتساءل وليم شكسبير على لسان كاسيوس:

"على أيّ لحم يتغذّى قيصرنا هذا
حتى يسمن ويترهل هكذا؟"

وأمّا في حال الفساد الفسطيني، فإننا للأسف لن نجد صعوبة في تخيّل اللحم الذي يتغذّى عليه قياصرة السلطة الوطنية الفلسطينة، وإنْ كنّا ـ في غمرة ذلك التخيّل اليسير ـ سنعيش مزيجاً من مشاعر المرارة والأسى والسخط والاشمئزاز إزاء أولئك الآبقين الذين لا تبدأ موبقاتهم إلا من اقتطاع اللحم الفلسطيني الحيّ، الجائع أصلاً، الصامد والمقاوم في كلّ حال وحين. ولقد سمعت مؤخراً حكاية عن وزير فلسطيني سابق (يحدث كذلك أنه عضو في اللجنة التنفيذية، وزعيم سابق في إحدى المنظمات الفلسطينية اليسارية البارزة، وصاحب "نظرية" عن السلام جعلته مدللاً في تل أبيب، يمينها قبل يسارها). كان يشارك في مؤتمر أوروبي حول الشرق الأوسط. حال سيادته بدت سوريالية تماماً في ناظر الآخرين: كان، هو الذي يمثّل الجهة الأفقر في المؤتمر، يحمل حقيبة من جلد التمساح هي الأغلى ثمناً بالتأكيد، الأمر الذي جعله محطّ أنظار الجميع؛ ليس حسداً، كما روى الصديق، بل إشفاقاً على شعبه، واشمئزازاً منه!
فإذا جاز للمرء أن يجنح إلى السخرية السوداء بصدد نموذج كهذا، ألا يجوز القول إنّ سوريالية المشهد هي بالضبط ذروة معجزات سلام أوسلو، حين يصبح مشروعاً وضرورياً أن يردّد المرء، في حضرة أمثال صاحبنا حامل جلد التمساح، ما ردّده ذلك الأعرابي في وجه معن بن زائدة: سبحان الذي ولاّك ملكاً؟ أليست المفارقة بين حقيبة الوزير المختالة في مؤتمر أوروبي، وكيس الخبز الذي يتدافع الفلسطيني للحصول عليه في غزّة، هي الصناعة الأبرز الذي تمخضت عنها معامل سلام أوسلو؟ ألا تتواصل هذه الصناعة، منذ المفاوضات السرّية وحتى البرهة الفارقة التي نشهدها اليوم، حين يصف الرئيس الفلسطيني عملية استشهادية بـ "الحقيرة"، ويروي خالد مشعل كيف وصل الوزراء الحمساويون إلى مكاتبهم فوجدوا أنّ الوزراء أسلافهم (وجلّهم من الفتحاويين) قد سرقوا "الكنبايات، والمكاتب، والشاي، والقهوة، والدفاتر"؟
وفي أرشيفي الشخصي أحتفظ، منذ العام 1996 ولأسباب تخصّ المعجزات هذه، بتصريح محمود أبو سمرة، المدير العام لدائرة الزراعة في السلطة الفلسطينية آنذاك، الذي يؤكد أنّ الحصار الإسرائيلي يتسبب في ذبول 80 ـ 100 مليون زهرة ينتجها قطاع غزة يومياً، وأن الزهور تلك اكتسبت وظائف أخرى تالياً: باتت طعاماً للماعز، أو هدية تشجيعية لكلّ مواطن يشتري كيلوغراماً من الخضار (الذابلة بدورها)، أو... أداة لمناوشة جيش الإحتلال بدل الحجارة! تلك العادة الرومانتيكية العجيبة المتمثلة في الوظيفة الأولى، والتي سيصعب إقناع ماعز غزّة بالعدول عنها في أيّ يوم، كانت بدورها دليلاً على معجزات سلام أوسلو، تماماً كما هي معجزة تمساح الوزير!
ويبقى أنّ الفلسطيني لا يفتقر إلى معجزات من نوع آخر، لعلها وحدها الجديرة بصفة الإعجاز. وفي رواية إميل حبيبي الشهيرة يكتشف سعيد أبو النحس المتشائل إحدى هذه الظواهر الخارقة في علاقة الفلسطيني بالإسرائيلي: «فلما نزلت عن الحمار رأيتني أطول من الحاكم العسكري [الإسرائيلي]، فاطمأنت نفسي حين وجدتني أطول منه بدون قوائم الحمار». وعندما يروي حكاية المرأة الفسطينية المهجّرة مع ولدها من قرية "البروة"، يقول: «كلما ابتعدت المرأة وولدها عن مكاننا، الحاكم العسكري على الأرض وأنا في الجيب، ازدادا طولاً حتى اختلطا بظليهما في الشمس الغاربة، فصارا أطول من سهل عكة. فظلّ الحاكم العسكري واقفاً ينتظر اختفاءهما وظللت أنا قاعداً أنكش، حتى تساءل مذهولاً: متى يغيبان»؟
سؤال كهذا هو الذي يجعل ماعز غزّة أشدّ عزيمة، وأبقى حياة، من تماسيح القياصرة!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصادر إسرائيلية تتحدث عن مفاوضات جديدة بشأن الهدنة في غزة


.. شاهد| مسيرة في شوارع دورا جنوب الخليل ابتهاجا بخطاب أبو عبيد




.. مقتل طيار بالقوات الجوية البريطانية بعد تحطم طائرة مقاتلة


.. دمار هائل خلفه قصف روسي على متجر في خاركييف الأوكرانية




.. حكومة السلفادور تلعن نشر آلاف الجنود لملاحقة العصابات