الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
الصقر الفلسطيني -أول أوبرا عربية- لمهدي الحسيني
أسامة عرابي
(Osama Shehata Orabi Mahmoud)
2019 / 3 / 12
الادب والفن
يستلهمُ الناقدُ والمخرجُ والمعدُّ المسرحيُّ والدراماتورج والمترجمُ المصريُّ "مهدي الحسيني" (1940- 2016)، القصيدة الدرامية الطويلة "سرحان والماسورة" للشاعر والقائد السياسي الفلسطيني .. والمناضل الوطني والأممي الشهيد "توفيق زياد" (1929_ 1994)، في صياغةٍ "غنائيَّةٍ فلسطينيةٍ" ، كتبها على طريقةِ التمثيليَّةِ التلفزيونيةِ أو السيناريو السينمائيِّ ؛ رغبة منه في الاحتفاء بجوانبِ العملِ كافة ؛ ولتأكيد لحُمته وسَداه ، إلا أنها اتسمتْ بطلاقةٍ فنيَّةٍ ، وجسارةٍ في التعبيرِ الموسيقيِّ ، مستوحيًا مناخ الألحان الفلكلورية الشعبية الفلسطينية ورقصاتها وآلاتها الموسيقية وأزيائها وقسمات الأمكنة وأجوائها، دون التزامٍ بحرفيتِها ، وإنِ اقتربَ من قوالبِها ومادتِها ، في تحويراتٍ حرَّةٍ تُبرزُ آثارَها الصوتية ، وتوزيعاتِها النغمية التي تُشيعُها حركةُ العزفِ بفورانِها الأسلوبيِّ؛ فيُمسي بمنجاةٍ من الخطابية والحشو ، محافظاً على إيقاعِها الميلوديِّ المتوتر ، وحيوية هارمونيتِهِ ، من خلالِ تقنيَّاتِ القطعِ والترديد والتنويع والتقابل والتآلف والتزامن ، عبر سياقٍ دراميٍّ يُفيدُ من تجارِبَ عالميةٍ ، تحوَّلتْ فيها الأوبرا إلى سيمفونيةٍ شاسعةِ الأرجاء والأبهاء؛ مما يُسمَّى بـ"الألحان المميَّزة"LEITMETIFS التي تقومُ فيها مقامَ الأساسِ الروحي والبنائي في آنٍ واحدٍ. وهذا بتعبير"مهدي الحسيني":"لا يتم إلَّا بواسطة مؤلفٍ موسيقيٍّ ، له قدرةُ التعامُلِ مع الفكر؛ ليضع للعمل معادلًا موسيقيًّا ، ومع الفكرة الأساس ليضع لها معادلًا مماثلًا مُمَثَّلًا في نغمةٍ رئيسةٍ ، ومع الكلمة كوحدةٍ أساسٍ أولى في الغناء المسرحيّ.كما يملك القدرة على البناء السيمفونيّ؛ ليتطابق مع طبيعة البناء الدراميّ المسرحيّ". وبذلك تحوَّل "سرحان العلي" الفلاحُ البدويُّ الذي ينحدرُ من عرب الصقر قرب "تل الحارثية" إلى بطلٍ من أبطال ثورة 1936 ضدّ الانتداب البريطاني ؛ بنسفه ماسورة بترول تتمدَّدُ في مِنْطقتِهِ هذه ، وتمدُّ قواتِ الاحتلالِ بأسبابِ الحياة. وانتقل بذلك العملُ الفنيُّ من حدثٍ وطنيٍّ يرتهنُ بعامِ 1936، إلى أفقٍ مفتوحٍ يضمُّ في إهابِهِ القضية الفلسطينية في مراحلِها كافة ، خالقًا ذاكرة وطنية تُحاورُ مصيرًا مشتركًا ، يتطلعُ إلى فسحةٍ زمنيةٍ تحتضنُ فضاءً حرًّا.ولأن التراجيديا القديمة نهضتْ أساسًا على الشِّعر ، فقد قامتِ الدِّراما على الموسيقى التي تُعَدُّ بدورِها صورة للشعر في أعلى مراتبِهِ ، عبر ارتباطِ التعبيرِ الإنسانيِّ الخالصِ بالكلامِ والغناءِ والملامح ؛ كلٌّ وفق قوانينه المتناغمة مع كُليَّةِ العمل الفني المُعقَّدة . وبذلك لم يقتصرْ دور الموسيقى على مَهَمَّة التعليقِ على الشعر، بل عمدتْ أيضاً إلى التعليق على الدراما نفسِها ، بتعبير "برنارد شامبينيول". ولم تقنعِ الأوركسترا السيمفوني بدور القيثارةِ الهائلةِ المصاحبةِ للألحان ، بل غدتْ جزءًا رئيسًا من نسيجِ العملِ الدراميِّ ، إلى جانبِ الصوتِ الإنسانيِّ ؛ داعميْن وحدة المسرحية واتساقَها مُنذ البدء إلى الختام ، وكأنه "ميلودية من دون نهاية". الأمر الذي دفع "مهدي الحسيني" إلى القبض على لحظة "التخيُّلِ السمعيِّ الحيِّ التي تُصاحبُ الغناءَ والحركة والاستعراضَ معًا ؛ من أجل تكوين نظرة كليَّة شاملة للنصِّ الشِّعري في جوهرِهِ الدراميِّ وصورتِهِ المسرحيَّة ؛ ومن ثَمَّ الحفاظ على الوحدة العضوية بين النصِّ ، وبين الموسيقى " ؛ ذلك أن الانفصال والتباعد – عند المؤلف – بين المؤلفين الموسيقيين الدَّارسين أكاديميًّا ، وبين الملحنين الدَّارجين الذين لم يعرفوا طريقَهم إلى الدراسة الأكاديميَّة ، ولا دراية لهم بالبناءِ السيمفونيِّ ، وإنْ كانَ لبعضِهم حظٌّ من الدراسة والمعرفة وخبرة الاستماع والتذوق ومَلكة خلق اللحن ، إنما "يعكس شرخًا حضاريًّا شاملًا مؤسفًا، علينا أنْ نجتهدَ جميعًا كي نُعالجَهُ ، والمسرحُ واحدٌ من ميادينِ العلاج". غير أن هناك "قلةً نادرةً" يُسمِّيها : سيد درويش والرحابنة وملحني الصور الإذاعيَّة الشهيرة بإذاعة القاهرة في الأربعينياتِ والخمسينياتِ ، جهدتْ لرأبَ الصَّدعِ ؛ محاولةً "إنشاءَ بناءٍ موسيقيٍّ مسرحيٍّ شاملٍ نابعٍ من تصوُّرٍ فلسفيٍّ ، وإحساسٍ وجدانيٍّ كُليٍّ ، لنصِّ العرض، وكذا القدرة على وضعِ ألحانٍ وأنغامٍ عربيَّةٍ صميمةٍ وجذَّابةٍ، وتقديمِ غناءٍ خالٍ من اللكناتِ الأجنبيةِ و النبراتِ الغربيةِ، ثم القدرة على التعامل مع التفاصيل : مع اللحظة والكلمة والإشارة والحركة ... وحتى الصمت والسكون تماماً..". بيْدَ أن "مهدي الحسيني" خريج المعهد العالي للفنون المسرحية ، قسم الأدب المسرحي والنَّقد عام 1968م، والذي انتظمَ في الدورة الثانية لدراسات السيناريو التي نظَّمتها مؤسسةُ السينما ابتداءً من 1965إلى 1968، يحرصُ على تقديمِ لوحةٍ تشكيليَّةٍ تستخدمُ مفرداتِ العملِ الفنيِّ باقتصادٍ وجمال، وبإيقاعٍ "يجمعُ بين السريع والمتأمِّل، والظاهريّ والداخليّ في الآنِ عينِهِ"، متمسكًا بضربٍ من "الممثلين الذين يُجيدون الغناءَ والرقصَ، والمغنين الذين يُجيدون التمثيلَ والرقصَ، والراقصين الذين يُجيدون التمثيلَ والغناءَ" وإنْ كان هذا أمرًا يصعبُ تحقيقُهُ بشريًّا، على الرغم من أن "بيوت العوالِم في الماضي كانت تُخرِّجُ لنا فناناتٍ وفنانين من هذا النَّوعِ الرفيعِ المتمكِّن"( راجعْ تاريخَ الفنانةِ القديرةِ الراحلة نعيمة عاكف وأعمالَها وفنَّها، وأعمال مؤسِّس شركة صوت القاهرة الفنان محمد فوزي، وكلاهما تخرَّجَ في مدرسةِ العالِمة الشهيرة عايدة صابر نجمة مدينة طنطا في الثلاثينيات )، بينما "تقصرُ معاهدنا الفنية و( أكاديمية ) الفنون عن تخريجِ فنانٍ شاملٍ واحدٍ بمعنى الكلمة، على الرغم من كثرة الدكاترة!". من هنا ؛ لم يجدْ "مهدي الحسيني" بُدًّا من نُصحِ المخرجين الذين يَودُّون التَّصدي لهذا النصِّ المسرحيِّ الذي أتمَّ صياغتَه في عام 1973، ونشره أخيرًا في "مكتبة الورد للنشر والتوزيع"، بـ "تسجيلِ الأصواتِ وإذاعتِها بطريقة الـ PLAY BACK ، أو أنْ نضعَ الأوركسترا والكورال في حفرةٍ ، وليغنِّ على المسرح مَنْ يستطيعُ الغناءَ..". وبذلك كتبَ مهدي الحسيني "الصقر الفلسطيني انطلاقًا من فهمٍ لديه يرى أن المسرحَ فنٌّ مُركَّبٌ يُشاركُ في بنائه فنانون مختلفون، يقومون بالتوفيق الواعي والمنظَّم بين كلِّ هذه الفنون المسرحية (الكلمة – التمثيل – الموسيقى – الرقص – السينوغرافيا ) في تصوُّرٍ موحَّدٍ متجانسٍ متناسقٍ، ويعزو الافتقارَ إلى ذلك الآنَ إلى غيابِ "التَّيارِ الفنيِّ الذي يصبغُ الفنونَ كافة بصبغتِهِ "؛ ومن ثَمَّ عَدَّ عملَهُ هذا "محاولةً لدفعِ هذا التَّيارِ من ناحية ، ولتأكيدِ تصوُّرٍ مُعيَّنٍ لشكلٍ مسرحيٍّ جديدٍ قد يُغذيه هذا التَّيارُ من ناحية أخرى"، مؤمنًا بأنَّ اتِّباعَ المنهجِ العلميِّ هو نصفُ الموهبة. وقد وجد مهدي الحسيني في أشعارِ الشاعرِ الفلسطينيِّ الشهيدِ"توفيق زياد" الذي خرجَ من معطفِ الشاعرِ الفلسطينيِّ الرائدِ "إبراهيم طوقان"، طاقاتٍ هائلةً تحتفي بتعدُّدِ الأصواتِ، فجمعَ بين قصيدتِهِ "سرحان والماسورة" وأشعارٍ أخرى له أعانته على خلقِ مواقفَ دراميَّةٍ جديدةٍ تدعمُ فنَّ العرضِ المسرحيِّ ، وتوسِّعُ إطارَ الحدثِ الأصليِّ. حيث لاختيارِ مهدي الحسيني شخصيةَ "سرحان العلي" بُعْدٌ طبقيٌّ حيويٌّ، حثَّهُ على تَبْيانِ الفارقِ بين ما فعلته النُّخبةُ العربيَّةُ الفلسطينيَّةُ المهادِنةُ، وما صنعتْهُ الأكثريةُ الكاثرةُ من الفلاحين الفلسطينيين الذين حملوا السلاح في ثورة 1936- 1939ضدَّ الحكمِ الاستعماريِّ البريطانيِّ، والكشف عن ماهيَّةِ الوعي التاريخيِّ الفلسطينيِّ الشعبيِّ الذي ظلَّ مهملًا ومنزويًا رَدَحًا من الزمانِ طويلًا ، مُفيدًا من المفاهيمِ التي طوَّرَها حولَ الذاكرةِ الشَّعبيةِ والوعي الشعبيِّ "أنطونيو غرامشي" و"راناجيت جوها"، و"جماعةُ الذاكرةِ الشعبيَّةِ"، و"رايموند وليامز" وآخرون. لهذا تبدأ "أوبرا الصقر الفلسطيني"بإهداء يقول : إلى الشعبِ الفلسطينيِّ البطلِ .. ثُمَّ قدَّمَ لنا الكاتبُ توطئة أو تَقدُمة دعاها باسم "النغمة الصحيحة" شرحَ من خلالِها المواضعاتِ العامَّة التي أحاطتْ بالقضيَّةِ الفلسطينيَّةِ، ونظرة النِّظامِ الرسميِّ المصريِّ إليها، وطرائق تعامُلِهِ معها عبر الأجهزةِ الأمنيَّةِ، وبيروقراطيي منظمةِ التَّحريرِ الفلسطينيَّةِ الذين يُديرون مكاتبَها وإعلامَها بالتنسيقِ مع ضباطِها؛ الأمر الذي انعكسَ على ذلك التَّناولِ السِّياسيِّ الدِّيماجوجيِّ الذي يُسطِّحُ القضيَّة، ويُفرِّغُها من أبعادِها الحقيقيَّةِ، ويَحرِفُ النَّظرَ عن رؤيةِ الواقعِ بعلاقاتِهِ المتشابكةِ؛ مما دفع شاعرنا الكبير "محمود درويش" إلى القول : كم كُنَّا عربًا في إسرائيلَ ، وكم أصبحنا فلسطينيين في البلاد العربية"! وقد نجح مهدي الحسيني في أنْ يربطَ باقتدارٍ بين تجرِبتِهِ الشخصيَّة في كتابةِ سيناريو فيلمٍ يُجسِّدُ المقاومة الشعبيَّة الفلسطينيَّة ضدَّ الاحتلالِ الإسرائيلي، من خلال معركة الكرامة في 21/ 3/ 1968؛ إحدى قواعد المقاومة الفلسطينيَّة في الأردن التي اشتبكت والجيش الأردني مع المدرعاتِ الإسرائيليَّة ، وألحقا بها خسائرَ فادحةً ؛ حتى عُدَّت هذه المعركةُ الانطلاقة الثانية للثورة الفلسطينية.. وبين احتضانِهِ مجموعةً من الفنانين الشبابِ الذين يدعون إلى "غناءٍ مِصريٍّ جديدٍ، وموسيقى جديدةٍ بعد فشلِ جعجعةِ أناشيدِ الحرب"، على نحو ما فعل مع هذا الشباب الجميل الذي انتظمَ في "كورال الطليعة" بقيادة الموسيقار الكبير الراحل "عبد العظيم عويضة"، و"د.علاء الدين مصطفى" أستاذ الهارموني ونظريات الموسيقى بكونسرفاتوار القاهرة، و"د.عادل كامل حنا" أستاذ الهارموني بالكليَّات والمعاهدِ الموسيقيَّة.. فتماهتْ بذلك تجرِبةُ مهدي الحسيني الخاصةُ مع تجرِبةِ الوطنِ المريرة العامة. وباتتْ سيرة الوطن في "أوبرا الصقر الفلسطيني"، هي سيرة المواطن من دونِ فصمٍ لأحدِهما عن الآخر.. انطلاقًا من اقتناعٍ لديه يرى أن تجارِبَ الإنسان ليست ملكًا شخصيًّا له، بل هي ملكٌ للتاريخ، الذي هو بالطبع ملكٌ للجميع؛ لكلِّ النَّاس، وفي كلِّ العصور. وهو ما يقتضي من المرءِ أنْ يكونَ صادقًا في الكشف عنه، وعن أحداثِهِ وتداعياتِهِ على الأصعدة كافة. وهو عينُ ما توخَّاه المؤلفُ وهو يستعيدُ هذه الفترة العصيبة من تاريخِنا، بعدما شهدتِ انحيازَ النظام إلى جانب الإعلام على حساب الثقافة ، والتضييق على الحريات ، وحصار الفن الجاد. وقد عثر مهدي الحسيني على "النغمة الصحيحة" باختياره الموفَّق لشعرِ المقاومة الفلسطينيَّة الذي جسَّدَ هُوِيَّة شعبه الوطنية والعربية، ونضاله الأسطوري في مواجهة المخططات الصهيونية الممنهجة لاقتلاعه، وطمس حقوقه التاريخيَّة، وأسهم في إغناء الشعر العربيِّ بحساسيةٍ جديدةٍ، وتصوُّراتٍ مغايرةٍ لماهيَّتِهِ التقليديَّةِ وتقاليدِهِ الموروثة. ووجد مهدي لدى الموسيقار عبد العظيم عويضة طموحًا فنيًّا لتقديم المختلِف الذي ينبعُ من تحولاتِهِ المتعدِّدةِ، وتَرحاله السندباديّ إلى أرض الظلال، كما لمسناه مثلًا في موسيقاه المصاحبةِ لمسرحية "أنجولا" أو "الغول" للمسرحيِّ العالميِّ "بيتر فايس". وبذلك استطاع مهدي وعويضة أن يردَّا الاعتبارَ للقضية الفلسطينية؛ بوصفِها المنطلقَ والمحرِّكَ الذي يُحدِّدُ النظرة والموقف والسلوك، وانعكاساتها على المصير والمستقبل العربييْن. من هنا؛ اجتذبتْ هذه التجرِبةُ عددًا من الفنانين الدَّارسين مثل السوبرانو "سيدة مدبولي"، والألتو "سلوى إمام" عضوتي كورال أوبرا القاهرة ، والفنانة المرموقة "إنعام الجريتلي"، ومجموعة من طلبة القسم الحرِّ المسائيِّ لمعهد الموسيقى العربية. وكان طبيعيًّا ألَّا تعثرَ الفنانة "عفاف راضي" لنفسِها على موطئ قدمٍ بين مجموعةٍ آمنتْ بالفنِّ صوتًا جماعيًّا دراميًّا ، لا عملًا يُمجِّدُ دورَ النجمِ الفردِ، مهما كانتْ أهميتُهُ. وبفضلِ المناخِ الصحيِّ الذي أشاعته هذه التجرِبةُ الثريةُ؛ تحمَّسَ نفرٌ من الفنانين للمشاركة في إحياء ذكرى انطلاقة الثورة الفلسطينية في يناير 1970، مثل الممثل الناشئ حينها "محمود ياسين"، وطالبة معهد التمثيل آنذاك"فردوس عبد الحميد"، والنجم القدير"عبد الله غيث"، بعد أنِ اختارَ كلٌّ منهم قصيدةً من "ديوان الوطن المحتل" لشاعرٍ من شعراء المقاومة الفلسطينيَّة، فكانَ الجمهورُ بها حفيًّا؛ مما أثبت خَطَلَ الدعايات الكاذبة التي تُروِّجها الأجهزة الأمنية المشبوهة عن الفلسطينيين وثورتنا الفلسطينية المسلحة، وأثبتتْ أنَّ القضيَّة الفلسطينيَّة لا تعني الفلسطينيين وحدهم، وإنما تعني كلَّ مواطن عربي ، وأيّ محاولةٍ لتأجيل سؤال الديمقراطية مصادرة للحلِّ الحقيقيِّ. لذلك كان من البدهي أنْ تنتبهَ القوى اليمينيَّة وعملاؤها إلى "كورال الطليعة" ودور مهدي الحسيني الأبّ الروحيّ لهذه التجرِبةِ، في وضعِ الفنانِ المصريّش على الطريق الصحيح؛ ليلتقط النغمة الصحيحة ، والبوصلة الهادية إلى التاريخ . فلم تنِ الأجهزة الأمنية تزرعُ الفتنَ والدسائسَ بين رفيقي الدرب (مهدي وعويضة) وملاحقتهما بالشائعات المغرضة، ومحاولة إغواء عبد العظيم عويضة واستقطابه باعتماده ملحنًا بالإذاعة؛ مقابل أن يُسْلِمَ قياده لهم، ويقبلَ توظيفَهُ على النحو الذي يرومون. ثُمَّ القبض على مهدي الحسيني مرتيْن إبان الحكم الساداتي بتهمتيْن ملفقتيْن ضاحكتيْن؛ الأولى غامضة مجهولة، والأخرى مسئوليته عن تدبير مظاهرات عمال حلوان التي لم يكنْ له بها أدنى صلة، فضلاً عن اضطراب أموره الماليَّة والحياتيَّة. فدبَّ الخلاف بينهما ( مهدي وعويضة ) إثرمشاركةِ عددٍ من أعضاءِ "كورال الطليعة" في مسرحية "النار والزيتون" للكاتب الكبير "ألفريد فرج"، وعدم اقتناع عويضة بالحجة التي ساقها مهدي لتبرير ذلك، بأنَّ المشروعَ قد أقيم أصلًا لخدمة قضيَّة، والمسرحيَّة تُعالجُ القضية نفسَها، والكورال لم يقمْ لحسابِ ملحِّنٍ واحدٍ هو عويضة، بل هناك ملحنون آخرون من مصلحة قضيتنا أن نعمل معهم، وأنْ يعملوا لها، وهكذا تمَّ الانقسام والانفصال! وفي هذه الفترة ، تعرَّف مهدي الحسيني إلى الفنان "سيد شعبان" السوليست في أوبرا القاهرة، فتطوَّع لتدريبِ مجموعةِ "كورال الطليعة" على أغاني مسرحية "النار والزيتون" التي اتخذت شكل المسرح التسجيلي الذي يستعينُ بكلِّ وسائلِ العرضِ : الدِّراما والغناء والرقص والمسرح السحري. وشاطرَ سيد شعبان مهدي الحسيني الحلمَ في تحقيقِ تواصُلٍ جماهيريٍّ واسعٍ يتخطَّى مأزِقَ "كورال الطليعة" التي حصرتْ نفسَها في إطارٍ نخبويٍّ ضيِّقٍ ، حرمَها من الوصولِ إلى قواعدَ شعبيَّةٍ عريضةٍ تُتيح لشرارةِ الفنِّ أنْ تنقدحَ، ويتماسَّ القطبان؛ ليُحدِثَ التفاعلُ المنشودُ أثرَهُ.. طالباً من مهدي تغييرَ اسمِ الفرقةِ من "كورال الطليعة" إلى "كورال النيل"، من دونِ أن يعنيَ ذلك تخليًا عن القضيَّة الفلسطينيَّة والإعراضِ عنها. وهو ما تجلَّى في اختياراتِهِ الشعريَّةِ المتعدِّدةِ.غيرَ أن ريحَ السَّمومِ التي عَدَتْ على مِصرَ، لم تسمحْ لهذه التجرِبةِ بالاستمرار، فوئدت في المهدِ صبيَّةً؛ نتيجة تسويد ثقافة التبعية والتهادن، وإبدال الأصدقاء بالأعداء. بَيْدَ أنَّ مهدي الحسيني أفادَ من هذه التجرِبةِ أيَّما إفادةٍ، وأيقظتْ فيه "حلم أنْ يعودَ المسرحُ الغنائيُّ المِصريُّ للعبِ دورِهِ الرائعِ الذي قامَ به قبل وإبان ثورة 1919المجيدة وبعدها"، وجعلتِ انتباهَهُ "للغناء والموسيقى أكثرَ إرهافًا، وأعمقَ وعيًا، خصوصًا إذا كانَ الأمرُ يتعلَّقُ بعملٍ مسرحيٍّ". فالموسيقى – كما نعلم – مرآةٌ للعصرِ، وذاتُ وشائجَ وثيقةٍ بغيرِها من سائرِ الفنون.غيرَ أنَّ مهدي الحسيني اليقظَ راحَ ( قبل عاميْن من هذه النهاية التدريجيَّة، يُخطِّطُ أو يُمهِّدُ لمشروع قيام فرقةٍ غنائيَّةٍ لشعر الأرض المحتلة عامَّة، وأشعار المقاومة الوطنيَّة خاصة، من بعدِ أنْ قرأ في مجلة "الطَّريق" اللبنانية قصيدة درامية طويلة لـ "توفيق زياد" باسم "سرحان والماسورة"، فأعدَّ لها معالجة مسرحية، استقرَّ على صيغتِها النهائيَّةِ في ديسمبرَ1972 تقريبًا، أو مطلع عام 1973، وأطلقَ عليها اسم "الصقر"). وقد تحمَّستِ السيِّدةُ "نائلة زياد" أرملةُ الشهيدِ "توفيق زياد" لإنتاجِها، بعد أنْ عثرت عليها بين أوراقِ زوجِها، وبرؤيةٍ إخراجيَّةٍ للمؤلِّفِ نفسِهِ. إلا أنَّ المموِّلَ الأردنيَّ سحب عرضَهُ لأسبابٍ لا ندريها، والسيدة نائلة لا تملكُ من عَرَضِ الدنيا الزائل شروَ نقيرٍ. ومات المشروع، بعد أن لاذَ صاحبُهُ بالصمت والصبر في هذه الدنيا الظالم أهلُها! حتى نهض مهدي بنشرِها بين دفتي كتابٍ، فأتاحَ لنا أنْ نتعرَّفَ على عملٍ كبيرٍ بكلِّ المعاييرِ كما سلف .
سرحان والماسورة : شعر : توفيق زياد
(هو سرحان العلي من عرب الصقر الذي نسف ماسورة البترول .. في ثورة سنة 1936 الفلسطينية ضد الاستعمار البريطاني والصهيونية العالمية ).
(1) سرحان .... في الطريق
يقظا مثل حمار الوحش كان
وككلب الصيد ملفوفا خفيف .
وشجاعا مثل موج البحر كان
ومخيفا مثلما النمر مخيف
* * *
كانت الدنيا مطر
وصفير الريح في الأذنين
وحش وجأر
وعلى الوجه
يصير البرد شوكا وإبر
كانت الدنيا مطر
وظلام الليل كالفحمة
لا نجم يضوي أو قمر
إنما سرحان كالقط
يرى الإبرة في الليل الكثيف
إنه يعرف هذه الأرض كالكف
كما يعرفها كلب الأثر
كانت الدنيا مطر ...
* * *
كان يمشي نحو تل الحارثية
حيث ماسورة بترول شقية
تحمل الخير الذي يدفق
من أرض الشعوب العربية
لبلاد أجنبية
كان يمشي نحو تل الحارثية
وبجنبيه ديناميت ونار وفتيل
وعلى كتفه كانت.... بندقية
* * *
كان يمشي نحو تل الحارثية
كتلة صامتة كان يسير
وبعينيه بروق وسكاكين وشر مستطير
كتلة تنحت نحتا دربها بين الصخور
شرها كالذئب للصيد الكبير
إيه يا سرحان أسرع
إن لليل عيونا ربما تقرأ أعماق الضمير
وترى ما في الصدور
إيه يا سرحان أسرع
ولتكن رجلك فوق الدرب منديل حرير
لم لا يخلق للإنسان أحيانا
جناح كي يطير؟؟
* * *
(2) قبل ذلك عندما لم يفهم سرحان ما معنى الوطن
عندما قالوا له :-
(سرحان يا سرحان ..هل تقدر أن تفعل شيئا للوطن)
هزّ كتفيه :-
(أنا ؟! ..
يا ناس خلّوني بعيدا عن حكايات الوطن)
عندما قالوا له :-
(سرحان يا سرحان ..هيا للجبال )
هز كتفيه :-
(أنا ؟!..
من أين إن جعت ستأتي لقمة الخبز الحلال ؟؟ )
عندما قالوا له :-
(سرحان يا ابن الكلب ...انظر شعبك العبد الطعين)
هز كتفيه :-
(أنا ؟!..
ما دام جلدي سالما ...مالي وما للآخرين ؟؟!!)
لعنة الله على شكلك يا كتلة طين.
* * *
وعندما فهم ..
لعنة الله عليه ما فهم
إنما لما رأيت يوما نجوم الظهر عيناه
فهم ....
مرة في الطوق
مشوه على ألواح صبار برجل حافية
وهوى العسكر بالسوط على ظهره
نارا حامية
كسروا السكة والعود
وساقوا الماشية
وبأعقاب البنادق حطموا السدة والباب
وكل الآنية
نسفوا البيت وصاحوا :-
(أنت .............. يا ابن الزانية )
ساعة الميلاد جاءت ..هكذا في ثانية
* * *
عندها .. سرحان لم يأبه لنيران الألم
إنما صرَّ على أسنانه
في فمه المملوء دم
إنه ..
إن سرحان أخا البنت فهم
آآآآآآآآآآآه
كم يصبح سرحان...
مخيفا........ إن فهم !!
*****
في الجبال
عاش سرحان العلي مطاردا
عاما ونصفا ما درى حيٌّ مقرَّه
فتشوا عنه مرارا
كل جحرٍ ... كل حفره
وضعوا ألف جنيه
للذي يقتله أو يكشف سرّه
ألف مرة
بينه كان وبين الموت شعرة
ألف مرة
كان في كلّ مكان
واسمه عاش على كل لسان
إنما ..
عاما ونصفا ..ما درى حيٌّ مقره
******
ذات يوم
راح سرحان يفكر :-
( إن أنبوبا على بعد كذا
يدفق فيه النفط قرب الحارثية
يحمل الخير الذي ينبع من أرض الشعوب العربية
لبلاد أجنبية )
راح سرحان يفكر :-
(آه يا سرحان لو ...
لو يتفجر
إن أسنانك لا تكفي
ولا يكفي رصاص البندقية
فتدبر لعنة الله عليك الأمر فكر
وتدبر )
* * *
(3) اللحظات الأخيرة
آه يا ماسورة البترول.. يا بنت الحرام.. انتظري !!
إن سرحان الشقي ابن الشقية
قادم
رغم انصباب المطر
وبعينيه بروق شتوية
كتلة صامتة وحشا شديد الخطر
ملء جيبيه ديناميت ونار وفتيل
أنتِ ... يا بنت الحرام انتظري
هذه لحظتك السوداء جاءت
هكذا كالقدر
كلها بضع ثوان
قبل أن تنفجري
كلها .. بضع ثوان
قبل أن تنفجري
******
لم يعد سرحان من ليلته تلك
ولكن في الصباح
نشرت بعض الجرائد :-
(نسف ماسورة بترول بتل الحارثية
فجَّر الأنبوبة إرهابي مطارد
وجد البوليس بعد البحث
رجلا بشرية
وبقايا بندقية
وهوية ...
اسمه الكامل سرحان العلي
من عرب الصقر
ولكن بعد لم تعرف
تفاصيل القضية
والبقية ...
في غد نأتي إليكم بالبقية .)
* * *
(4) أمُّه ترثيه
شيعوا لبني عمومته .. يجيئوا بالطبول وبالزمور
خبروهم أنَّه قد عاد من غزواته صقر الصقور
وزعوا الحلوى وأكياس الملبس للكبير وللصغير
بالهنا كل الهنا ........ يا هنية
وانكوت عيني أنا .... يا صبية
شيعوا لبني عمومته ... يجيئوا مثل أسراب النسور
خبروهم أنَّه لما أتاني عينه جمرٌ ونارُ مستطير
(( ناوليني قرشنا الأبيض يا أمَّاه فالأمر خطير))
بعت أسورة الزفاف وبعت خاتمي الأخير
بالهنا كل الهنا .... يا هنيه
لا تخلوه بلا ..... بندقيه
يا صبايا الحيّ هيئن الذبائح ، والمواقد والقدور
والثياب انقعنها بالعطر نقعا ، والمناديل الحرير
إن سرحان الأمير ... بن الأمير ... بن الأمير
عاد من غاراته يرتاح في حضني الأثير
يا صبايا حيِّنا ....... يا حرايــر
جاءنا الكيف فخذن ... المزاهـر
شيعوا لبني عمومته يجيئوا بالطبول وبالزمور
خبروهم أنه إن جاء ثانية ... أبع ثوبي الأخير
بالهنا يا أمَّه زفي إلى أحضانه أحلى صبيه
بالهنا يا أمَّه بيعي ثيابك .. واشتري له بندقيه
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. المخرج عادل احمد يحيي يروى تفاصيل فيلمه أبو جودى
.. فنان مغربي يجسد واقع أطفال غزة عبر الرسم بالظل
.. مفهوم الثقافة الألمانية من وجهة نظر يسري نصر الله | #معكم_من
.. الفيلم الفلسطيني حالة عشق أفضل فيلم وثائقي طويل بالقاهرة الس
.. دخل الربيع يضحك يفوز بجائزة الاتحاد الدولي للنقاد من القاهرة