الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الغزالة..خصوصية التجربة، وفرادة طريقها في تذوق الحقائق

أسامة عرابي
(Osama Shehata Orabi Mahmoud)

2019 / 3 / 16
الادب والفن


الغزالة.. خصوصية التجرِبة، وفرادةُ طريقِها في تذوُّقِ الحقائق
أسامة عرابي
يُمثِّلُ الكاتبُ البورسعيديُّ المصريُّ الكبير الراحل "قاسم مسعد عليوة"(1946 (2014- ظاهرة أدبية لافتة، عُرِفتْ بتنوع الاهتمامات، وثراء الموضوعات، وامتلاك علاقة خاصة بالمكان من خلال مدينته الأثيرة"بورسعيد"، منحته سجلًا حافظًا لوقائع الماضي، وضروبًا عدَّة لتشكُّل الذاكرة الجماعيَّة، في تعبيره عن مخاطرة العيش والوجود وأسئلتِهما الجوهريَّة بتنوعاتِها المعقَّدة والحواريَّة التي يجعل منها إطلالة مفتوحة الأفق على العالمِ والإنسان وإشكالياتِهما، بالإضافة إلى تجرِبتِهِ على جبهة القتال والحرب في عام 1956 ضد العدوان الثلاثي على مصر، وكذلك وهو بعدُ مجنَّد عسكري في القوات المسلحة المصرية - في سلاح المشاة، مشاركًا في حربي الاستنزاف وأكتوبر، يتوق إلى الثأر لهزيمة بلاده في الخامس من يونية عام1967، وما خلَّفته من آثار وندوب لم تزل حيَّة حتى الآن. لهذا كتب مجموعته القصصية "عربة خشبية خفيفة" في الفترة الممتدَّة من عام1970 إلى منتصف عام 1973 "ردَّ فعلٍ رافضًا لشروط مرحلة اللاحرب واللاسلم"، فضلًا عن القلق الذي اعتراه "بسبب قبول مبادرة روجرز، وحيرتنا إزاء تصريحات الساسة، وندمي لصمت المدافع". وانصرف جُلُّ همِّهِ إلى"استقراء أجواء النكبات التي حاقت بنا، والانتصارات التي حققناها، وكنتُ معنيًّا باستنهاض الهمم بالفن.. مهمومًا بالبحث عن الأصيل الدائم في المواطن المصري، عن سرِّ الجمرة المتقدة بين ضلوعه.. وعن منابع المرح التي يستقي منها نكاتِه وضحكاتِه".. مؤمنًا بأننا "شعب لن يموت.. هذا ما رسخ في نفسي، وما برحتُ أعبِّر عنه في قصصي". وفي هذه الفترةِ، اتَّجه "قاسم مسعد عليوة" إلى دراسة الحضارة المصرية القديمة ؛ مُنقّبًا عن دروسها المستفادة، وليتعرَّفَ على هُوِيَّتِه التي أعانته على مجالدة عمليات الإفناء والتذويب للشخصية المصرية ومقاومتها، وقدرتها على التواصل والاستمرار، عبر البُنى التي استطاعت إرساءها على الأصعدة الاجتماعية والفكرية والروحية. لذا يمتلكُ مشروعُه الإبداعيُّ الذي تألَّف من إحدى عشرة مجموعة قصصية (المدينة الاستثناء، عن مسقِط رأسه بورسعيد،والضحك، وتنويعات بحرية، وصخرة التأمل، وحدود الاستطاعة، وخبرات أنثوية، ولا تبحثوا عن عنوان إنها الحرب...إلخ)، ومسرحيتيْن اثنتيْن، وعددٍ من القصص والسيناريوهات المصوَّرة للأطفال، وكتاب "تأريخ ما يستوجب التاريخ" عن أحداث ثورة الخامس والعشرين من يناير عام 2011 في مدينة بورسعيد، وأسَّسَ حركة "نحن هنا الأدبية"، يمتلك مشروعُه الإبداعيُّ ما هو أبعد من تجاوز المألوف والسائد في السيرورة الأدبية الجديدة.. إنه يمتلك القدرة على كشف التحالفات التي هو وسيلتها، ومعلولها أيضًا، مازجًا الطبيعة بالتاريخِ المُحوِّل، بصنيعِ البشرِ الراهنِ في ضفيرةٍ واحدةٍ. لذلك تبدأُ روايتُه الوحيدةُ المنشورة "الغزالةُ" الصادرةُ في سلسلة "روايات الهلال"- مارس2010- بعد أن فقد ثلاث روايات بسبب الملاحقات الأمنيَّة له؛ نظرًا إلى نشاطه السياسي ومواقفه الوطنيَّة (قتيلان في بستان والعنكبوت وتحت التمرين)، تبدأ بإهداءٍ يقول:"إلى من يبحثون عمَّا لا يجدون"؛ في إشارةٍ، ربما، إلى ذوي المعاناةِ الحيَّةِ، والإرادة الفاعلة، في سعيهم إلى الحقيقة المجردة، وتطلعهم الدائب صوب العدل والحرية.. ثُمَّ أردفَ الإهداءَ بما يُشبه التقدمة أو التوطئة بقوله:"ولكم في المجازِ حياةٌ".."ولا تخفْ من العويص..ولا تفرّ من الرمز".
والمجاز- كما نعلم- يُجدِّد العالم ويفتحُه باتجاه اقتراحات خلَّاقة وبديلة من عالم أحادي ضيِّق، غايتُه مقاربةُ الواقع فحسب، وتقديمُ تمثيلٍ مغلوطٍ له. لهذا أكَّد أصحاب "النظرية التفاعلية": ماكس بلاك ونلسون جودمان وبول ريكور، أنَّ الصورَ المجازيةَ تأتي معها بابتكاراتٍ دلاليةٍ، من خلالِ خرقِها قواعدَ اللغةِ المتعارفَ عليها وتوسيعِها. ومن ثَمَّ؛ تُمسي قادرة على خلقِ معنًى جديدٍ، يُتيحُ لنا استكشافَ قواه التأويليةِ ومضامينِه؛ بما ينعكسُ على فهمِ المتلقي للعالمِ ونظرتِه إليه، وتغييرِ عاداتِه الإدراكية. من هنا؛ ترمي كلمة "العويص"- وهي عربية فصيحة- إلى ما خفيَ معناه، وصعُبَ فهمُه. وتعني في الشعر: ما يعسُرُ استخراجُ معناه. يقول شاعرنا القديم:
وأبني من الشِّعر شعرًا عويصًا يُنَسِّي الرُّواة الذي قد رَوَوْا
ولعلَّ ما سبق يتصادى مع مفهوم "الغزالة" في تعدُّدِ معانيها، وتراكُبِ مستوياتِها؛ فالغزالُ من الظباءِ كما تقولُ معاجمُ اللغةِ : هو الشادنُ قبل الإثناءِ حين يتحرَّكُ ويمشي، وتُشبَّه به الجاريةُ في التشبيب.. والغزالة : الشمس، وقيلَ هي الشَّمسُ عند طلوعِها؛ لذلك يُقالُ : طلعتِ الغزالةُ، ولا يُقالُ غابتِ الغزالةُ، والغزالة : المرأة الحروريَّة، وغزال شعبان : ضربٌ من الجنادب، وغزال : موضع، والغزالة عشبة من السُّطَّاح تنفرشُ على الأرض، ويخرجُ من وسطِها قضيبٌ طويلٌ يُقْشَرُ ويُؤكَلُ حلوًا...إلخ.
إذن.. يسعى"قاسم مسعد عليوة" إلى توسيع حدود اللغة؛ لأنَّ بمقدورِها تحريرَ عاداتِ القارئ في الفهم، واجتراحَ عملياتٍ تأويليَّةٍ جديدةً تُرسي قيمَ التعدُّدِ والتنوع، ودعم الحريةِ في التناولِ والمعالجة. غير أن "قاسم مسعد عليوة" يُفيد من التُّراثِ الصُّوفيِّ، ولكنه لا يكتبُ رواية صوفية تصدُرُ عن الفناء في الذات المطلقة، وبذل الروح في سبيل المطلق، وبلوغ طريق التوحيد الذي بلورته معارج الصوفية في فكرة التوحيد ودرجات اليقين. لكنه يستلهمُ بعضَ تقاليدِ الصوفية الثورية التي وجهت جُلَّ نضالها من إبراهيم بن أدهم حتى عبد القادر الجيلي (الكيلاني) ضد الدولة الاستبدادية والأساطير ورفض امتلاك الجواري والعبيد والحض على المساواة والدعوة إلى العدل الاجتماعي، وبناء وجدان إنساني عامر بحب الناس، وحياة خالية من الزيغ والفساد. كذلك أفاد من علائقِ الارتباطِ الروحيةِ بين "الشيخ" و"المريد"، أو بين "المعلِّم" و"التلميذ"، على نحو ما طالعناه في رواية "الغزالة"، لاسيما في تربية أدب الإرادة عند المريد. فـ"الشيخ"أو"المعلِّم" هو الوحيدُ القادرُ على أنْ يُجنِّبَ "المريد" مغبة ما دعاه الصوفية بالانحطاط عن درجة الحقيقة إلى رخصة الشريعة، والوحيدُ القادرُ على حضِّ المريدِ على التمسُّكِ بالعقدِ بينه وبين الله. لذا قال الصوفية : "يجب على المريد أن يتأدَّبَ بشيخٍ، فإن لم يكنْ له أستاذٌ؛ فلا يفلحُ أبدا".. أو قول أبي يزيد البسطامي : "من لم يكنْ له أستاذٌ، فإمامُه الشيطانُ". وبذلك استطاع "المعلِّم" أنْ يُقدِّمَ لنا في شذراتِه الشعريَّةِ، أو في مواقفِه ومخاطباتِه بلغةِ "النّفري" التي تنهضُ على التداعي الداخلي واتصالِ العباراتِ وتدويرِها، على طريقة شعر البند الذي ازدهر في العراق في القرن التاسع عشر كما يقول الباحث العراقي الكبير"هادي العلوي"، أنْ يُقدِّمَ تحالفَ المُخيِّلةِ والوعي، مراوحًا بين الرؤيا والوصف، عبر تنقُّلِه بين التشكيل المشهدي والتأمل الذاتي، وأضحى زمن نمو السرد زمنًا تراكميًّا، يتواشجُ فيه الجزءُ مع الكلِّ، ويذوبُ فيه الفرديُّ في الجمعيِّ؛ تعبيرًا عن هَمٍّ عامٍّ يتطلَّعُ إلى توحيدٍ كاملٍ بين الروح والجسد.. العقل والمعرفة.. بما يؤدي إلى تزاوجِ وحدة الحقيقة والمعنى في تجلياتهما الحياتية والعيانيةِ. ومن ثَمَّ؛ تُمسي روايةُ "الغزالةِ"روايةً غيرَ تقليديَّةٍ، لا تقفُ عند تخومِ البناء الكلاسيكي الأرسطي المعروف، ولكنها تنهلُ من رؤيةٍ فنيةٍ حداثيةٍ تتأتى من وظيفتها التفاعلية في إطار البنية المركَّبة الشاملة، وزمن محكوم بلحظته.. وبلغة ناصعة مشرقة تشفُّ عن وجودها ومخاطراتها، وتبينُ عن صدق معاناتها في اصطفاء كلمات الإخلاص للحقيقة.. ألم يقلْ لنا"النّفري":"فلنقتبسْ حرفًا من حرف، كما نقتبسُ نارًا من نور".. "المعرفةُ حرفٌ جاءَ لمعنًى/ فإن أعربته بالمعنى الذي جاء له نطقتَ به"؟ لهذا عمد "المعلِّم" إلى أنْ يقولَ لتلميذِه:
"-لا تخفْ من العويصِ، ولا تفرّ من الرمز. وفي الطريق العريض قال:
- ائتنسْ بالخطرِ ائتناسَ الرَّضيعِ بالثدي المدرار. وفي الميدانِ المكتظِّ قالَ:
- مكابدةُ الخلطةِ أيسرُ من مداراةِ العزلة، والاجتماعُ يفضلُ الانفرادَ، والاختلافُ ضرورةٌ. وأمام المبنى الحكوميِّ قالَ:
- إنْ خِفتَ أمرًا فقعْ فيه، فمضارُّ الوقوعِ أهونُ من مضارِّ الفرار".
وهذا دليلٌ على وعورةِ الطريق ومشقتِه، ودعوةٌ إلى تهذيبِ الظاهرِ والباطن، وتشديدِ النَّبْرِ على أهميَّةِ الفعلِ وجوهريتِهِ في الطريق، وتواري الأنا بعيدًا عن إنيتها باسم المثل الأعلى. بَيْدَ أنَّ "المعلِّمَ "لم يتلبثْ غيرَ قليلٍ حتى قالَ لتلميذِه:
"- انزعْ عنك وهمَ الكراماتِ، ولا تتركِ النَّاسَ للغَي والضَّلالاتِ.. ثم وَلَّى وجهَهُ شطرَ الأفق البعيد، وقالَ:
-لا تحبسْ ما قبضته عني ولا تقبضْهُ..واستدارَ نحوي وأكملَ:
- انظرْ إلى ما أعطيتُكَ نظرتَكَ إلى العطر..قدرُهُ أنْ يُطلَقَ لا أنْ يظلَّ حبيسَ القواريرِ وإن حسنتْ".
وهنا يؤكِّدُ "المعلم"في نظرتِهِ إلى الذَّاتِ الإنسانيَّةِ، ومسوغاتِها الأخلاقيَّةِ، وتبعاتِها الاجتماعيَّةِ، على حيويةِ تعبيدِ طريقِها بالعلمِ ومنجزاتِهِ وعدمِ إساءةِ استخدامِهِ؛ ليكونَ العلمُ ملكًا للجميعِ، ومؤسسةً ذاتَ نفعٍ عامٍّ. ألم يقلْ "مالك بن دينار":"إذا تعلَّمَ العبدُ العلمَ ليعملَ بهِ كثُرَ بهِ علمُهُ، وإذا تعلَّمَهُ لغيرِ العلمِ زادَهُ فجورًا وتكبُّرًا واحتقارًا للعامَّةِ"؟ فلا توجدُ وصفةٌ جاهزةٌ للسموِّ والارتقاء، ولا لبلوغِ الحقائقِ وتذوُّقِها؛ فالعالَمُ لم ينشأْ كمعطًى نهائيٍّ مكتملٍ. إلا أنه لا يبحثُ عن غايةٍ مستقلَّةٍ؛ لأنه بالنسبة إليه سرٌّ تتكشف حقيقته بقدرِ ثراءِ التجرِبة الفرديَّةِ للصوفيِّ والمريد. لذا قالَ "الحلاجُ" : أسرارُنا بِكرٌ لا يفتضُّها وهمُ واهمٍ". وهو ما حَرَصَ علي إبانتِهِ "المعلِّمُ" حين قالَ لتلميذِهِ:
"- الآنَ لكلٍّ منَّا طريقُهُ، وإنْ جمعتْنا البقعةُ الواحدة.. ثم غادرني والغزالة". وهذا- لا ريبَ - توكيدٌ على خصوصية التجرِبة، وفرادةِ طريقِها في تذوُّقِ حقائقِ الأشياءِ؛ مما أعطى لتفاعُلِهما مع الذات والعالم مجرًى مغايرًا في الوصولِ إلى المعرفةِ والعارف. لذلك صاغتِ التجرِبةُ الصوفيَّةُ مبدأ : "التعلُّم من الحيِّ الذي لا يموت"، و"محاربة النَّقلِ والتَّقليد".
من هنا؛ جاءتْ رمزيةُ "الغزالةِ " المستعارةُ من الشَّيخِ الأكبرِ"ابنِ عربي" دالةً على علاقةِ العشقِ التي تجمعُهُ بالحقيقةِ، عبر الصورةِ المتناغمةِ مع الوجود، من خلالِ "اللقاءِ- التواطؤ- بين الروحانيِّ والجسمانيِّ، الذي يهيمنُ على العالَمِ الخارجيِّ للأشياءِ الواقعيَّةِ المحدَّدةِ في قانونِ ماديتِها" بتعبيرِ "هنري كوربان"، أو من خلالِ عبورِ النَّفسِ المرهفِ مدارجَ التآلفِ والتنافرِ، الخفاءِ والتَّجلي ، معبرة – في الآنِ عينِهِ - عن تبايُنِ أساليبِ إدراكِ الحقائقِ وغاياتِها وطرائقِ بلوغِها؛ لذا استعصتِ "الغزالة"على الحاكمِ وقاطعِ الطَّريقِ، ولم يستطيعا القبضَ عليها "مع ابتعاد سحاباتِهم- سحاباتِ حاملي البنادق- لم أدهشْ لمرأى الغزالةِ إلى جوارِ معلِّمي"، و"رأيتُها تلفّ وتدورُ حتى تقطَّعتْ في قاطعِ الطَّريقِ أنفاسُهُ"، فقالَ:- الفرارُ منكما غنيمةٌ. وغادرنا، فيما عادتِ الغزالة تتمسَّحُ بخرقةِ معلِّمي". ولعلَّ ذلك ما عناه "التلميذُ" بقولِه:
"- تمسَّحتْ بمعلمي.هي الغزالة التي لم يفارقْني طيفُها. غزالتنا. بل غزالة معلِّمي. غزالته وحدَهُ. غضبها إذن قَدِ انفثأ. إلى جوارِه وقفتْ، وبهِ التصقتْ". لكنَّ "المعلِّمَ" هجرَ تلميذَهُ وغابَ في طريقِه، لتقتربَ منه امرأة كفلقةِ القمرِ تقولُ له :
"- أرني بعضَ ما عَلِمت. ثُمَّ فاجأتْهُ بشلحِ ثوبِها قائلة له بمِلءِ فِيها :
- يا أخرق.. لا تجفلن من موطنِ نجاتِك. وراحتْ تُدني جسدَها البضَّ منه، فاستعذبَ النعومة والدفءَ المنسربيْن إلى جسدِه . وبكاملِ وعيي وإدراكي رحتُ أبحثُ في جسدِها عن موطنِ نجاتي. وأجمل ما رأيتُ رَشأً- ولد الظبية إذا قَوِيَ وتحرَّكَ ومشى مع أمِّهِ، وجمعُها "أرشاء"- رشيقًا جاءني مسرعًا، وراحَ يتمسَّحُ بساقيَّ دونَ أنْ يعطِّلَني عمَّا أفعل". وهنا يستيقظ الإنسانُ على حقيقتِه الإنسانيَّةِ في رحلةٍ مُصاحِبةٍ لمغامرتِه الوجوديَّةِ؛ ليتوهجَ بغوايةِ السِّرِّ الكامنِ في أشواقِهِ ورغائبِهِ ومواقفِهِ. فهو- الإنسان- يقتحمُ الكونَ في مجاهيلِهِ، وفي كلِّ عبورٍ له يُواصلُ السَّفرَ عبر عالَمِ الأشياءِ المضادَّةِ. لذا قالَ:
-أوقَفَني أمام البحر، وقال:
- خابَ من ركبَ الموجَ، ولم يخاطرْ.. خابَ من ركب الموجَ، وفكَّر أنْ يُخاطرَ ولم يُخاطرْ... ونجا من توَّجَه أفقُ الماءِ وبجسدِهِ خاطَرَ". وهو ما أفاد فيه – لا شك- من قول "النّفري":
- هلك من ركبَ ولم يخاطرْ! فأي معنًى للركوبِ بلا مخاطرةٍ ؟
الأمرُ الذي يجعلُ المجازفة شعرَ تحريرٍ داخليٍّ يتواشجُ وتوقَ الإنسان إلى تغييرِ الواقعِ وبنائه من جديد، وكان الشاعر الكبير محمود درويش يقول: من لا بحرَ له، لا بَرَّ له.. وهنا يبرعُ "الكاتبُ" في الكشفِ عن اللحظاتِ التي تتقاطعُ فيها الدَّلالاتُ والرغبات، عبر تجارِبَ مترعةٍ بالقلق نبذر فيها التطلعات الغنية والقوية؛ لنعيش في عمق ذاتنا، والمخاطرة هي الفرصة الوحيدة لأن ننضجَ؛ وأن نوسِّع اختياراتِنا، كما لو أنَّ الأزلَ مبسوطٌ أمامَنا! لذا يرى "المعلِّمُ" أنَّ الحياةَ موقفٌ، وتوجُّهٌ اجتماعيٌّ ضد الاستلابِ والاستغلالِ وقسمةِ العملِ الثنائية، مبنيٌّ على رؤيةٍ سياسيَّةٍ واضحةٍ، تنحازُ إلى صفِّ الفقراءِ والهامشيين، وتعملُ من أجلِ تقدُّمِ الوعي بالحريةِ وتحريرِ الإنسانية. لهذا قالَ"المعلِّمُ "ردًّا على "تلميذٍ" يتوقُ إلى العيشِ منفردًا : "العيش الانفرادي هو الذي أوجبَ إيجادَ الصَّديقِ.. فلماذا تتوقُ إلى نقطةِ البدءِ؟".. وزادَ بإعلانِهِ جدارةَ "الآبقِ" بصداقتِهِ؛ ذلك الذي "أتى المدينة يدَّعي الزُّهدَ، ويخطبُ في المجالسِ بما لم نعهدْهُ في خطبائنا.. يقول الشعر فوق المنابر، ويرتاد الحاناتِ.. يرقصُ على صدحِ الموسيقى، ويدخلُ في أحوالٍ لم نعتدْها.. يأكلُ الزبيبَ والفستقَ واللوزَ والجوز والكستناءَ، ويلتذّ بأكل الثوم والكراث والبصل تلذذه بأكل الفاكهة.. فافتتنتْ به العامة، والتفَّ حوله حشدٌ من الناس كثيف...".. متأسيًا بأخلاق المتصوفة الكبار ونواميس حياتهم التي طالعناها، مثلًا، في"ميمية ابن الفارض الخمرية"، وتقشُّف"بشر الحافي"، وزهد"معروف الكرخي"، وجسارة"سفيان الثوري" الذي أجلس الفقراء في مقدمة مجلسه، والأغنياء في المؤخرة.. وكان المغني الصوفي يُدعى"قوَّالًا"،ويُسمى الغناء الصوفيّ"سماعًا". لكن "المعلِّم" شدَّد على أن "لكل طريق يلزم صديق".. وقد حذرنا "شعيب أبو مدين" من ثلاثةٍ قائلًا : أضرّ الأشياء صحبة :عالم غافل، وصوفي جاهل، وواعظ مداهن". وهنا يلفت "المعلِّمُ" انتباهَهُ إلى أنَّ "الصداقة جوسقٌ تستظلُّ به الأضدادُ وتستروحُ"؛ مُلحًّا على ثقافة الاختلاف، والإصغاء إلى تعدُّديتِها الداخلية والخارجية التي تفترض مسبقًا وجودَ بعضِها بعضًا ، والإيمان بحتميةِ الحوارِ فيما بينها، واكتشاف جوهرها الإنساني. ألم يقلِ "المعلِّمُ" لتلميذِهِ حين لاحظَ دهشتَهُ من رجلٍ "ذاقَ ماءَ النهر فمجَّهُ، ثم أخذَ يغترفُ بكفيْهِ من ماءِ البحر ويشربُ" : هذا رجلٌ رَاضَ نفسَهُ على المخالفةِ، فماذا لو احتذيتَهُ؟". الأمرُ الذي حدا بـ"المعلم" إلى أنْ يحرصَ على إرساءِ "سننٍ ثلاثٍ" لدى "تلميذِهِ" "أؤدِّبك عليها ما تيسَّرَ لي ولك من طاقةٍ ووقتٍ : خدمة الخلق.. واستخلاص الحق.. واتباع الطريقة"؛ لأن"خدمة الخلق عطاءٌ بلا مكابرةٍ.. واستخلاصَ الحقِّ واجبٌ بلا عسفٍ.. واتباعَ الطريقةِ ضرورةٌ بلا ضررٍ". وهنا يتبدَّى لنا الهدفُ المركزيُّ الذي يسعى"المعلِّمُ" إلى أنْ يَقرَّ في وعي تلميذِهِ، وهو العملُ على بناءِ مجتمعٍ يتواصلُ ويتقدَّمُ بصورةٍ فاعلةٍ ومؤثرةٍ، من خلالِ تنوُّعِهِ الثقافيِّ، وحقوقٍ متساويةٍ للجميع، وقيمٍ تطوعيةٍ، وتطويرِ إحساسٍ مشتركٍ بالانتماءِ إليهِ. لهذا قالَ له "المعلِّمُ" بعد طولِ غيابٍ، ألجأ تلميذَهُ إلى الخَلْوَةِ والبكاءِ : "جميلٌ أنْ تطلبَ الخَلْوَة، لكنَّ الأجملَ أنْ تُلزمَ النَّاسَ". لكنَّ "المُعلِّمَ" هجرَ تلميذَهُ فجأة وغابَ، وتركه وحيدًا يواجهُ اختبارَ الوجودِ والحياةِ ويقطعُ مفازاتِهما.. وكأنَّ حضورَهُ لا يكونُ إلَّا في غيابِهِ، على نحوِ ما جاء في بيتِ "أبي الحسن النوري" :
إذا تغيبتُ بدا وإن بدا غيَّبني
فبدتْ له امرأةٌ باهرةُ الجمالِ، تقولُ له : "- أرني بعضَ ما علِمت. آيسًا قلتُ : ما أنا بعالِمٍ.. فهزَّتني حتى كادت خرقتي تسقطُ عني : - تواضعٌ مع علمٍ شيمةٌ قد تُرضي الكافَّة إلايَ... من فرطِ عِيي تركتُها وانصرفتُ، فاعترضتني:- يمكنُ عملُ الكثيرِ من علمٍ قليلٍ. ثم فاجأتني بشلحِ ثوبِها... ورسخ في وعيهِ ووجدانِهِ درسُ معلِّمِهِ : "العشقُ حالٌ يضمُّ كلَّ الأحوالِ"، فوحَّدَ بين المرأةِ والكونِ؛ بوصفِها رافدًا روحيًّا يحملُ كلَّ الأنماطِ الرمزيةِ والدَّلاليةِ التي يجري استنباطُها في الحياة، عملًا بقول : "محيي الدين بن عربي" : إنَّ الرجالَ والنساءَ يشتركانِ في جميعِ المراتبِ حتى في القطبيةِ، ورأى أنَّ من شرفِ التأنيثِ إطلاقَ الذاتِ والصفةِ على الله، وأدركَ " : أن الحبَّ محطة تسبقُها محطاتٌ، وتليها محطاتٌ، فلنْ تصلَ إلى الحبِّ من غيرِ هوًى وشوقٍ وحنينٍ، فإنْ وصلتَ فبعدَهُ الألفة والشغفُ والغرامُ، وإنْ أفرطتَ في الحبِّ فأنت عاشقٌ، وإنْ آلمَكَ الهجرُ فأنتَ مُتيَّمٌ، وإنْ كادَ يسلبُ منك عقلَكَ فأنتَ هائمٌ، فإنْ استلبَهُ كلَّهُ فأنتَ- ولا تتحسرْ على نفسِكَ - مجنونٌ".
وبذلك تُقدِّمُ لنا روايةُ "الغزالة" للكاتبِ الكبيرِ الحيِّ في وجدانِنا ووعينا "قاسم مسعد عليوة" الحرية مقرونة بالمسئوليةِ، والعالَمَ صنوًا للشِّعرِ، والحياةَ مرادفة للمخاطرةِ والاكتشافِ.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مخرجة الفيلم الفلسطيني -شكرا لأنك تحلم معنا- بحلق المسافة صف


.. كامل الباشا: أحضر لـ فيلم جديد عن الأسرى الفلسطينيين




.. مش هتصدق كمية الأفلام اللي عملتها لبلبة.. مش كلام على النت ص


.. مكنتش عايزة أمثل الفيلم ده.. اعرف من لبلبة




.. صُناع الفيلم الفلسطيني «شكرًا لأنك تحلم معانا» يكشفون كواليس