الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لماذا لا تصدر كِتابًا؟.

زيدان الدين محمد

2019 / 3 / 18
الادب والفن


"‏نهاية الحصاد
زهرة الكاماس
تُحيك معطفاً لشجرة عارية".
- ندئ عادل.


إستنادًا إلى وصف الروائي جوزيف كونراد لعمله في الكتابة:
"أريد، بقوة الكلمة المكتوبة، أن أجعلك تسمع، أن أجعلك تشعر و قبل كُل شيء، أن أجعلك ترى".
فأنا لستُ مؤهلًا للخوض في عراك التأليف لأصدر كتابًا مآله بسبب تقزم معارفي و إتساع جهلي ،أحد الرفوف التي لا يلتقط منها كتابًا سوى قارئ يبحث عن علكة مؤقتة يذهب مفعول مذاقها بعد المضغة السابعة ،فلا هي التي هذّبته ليصغي و يشعر و يرى.

و من أحد الأسباب التي تجعلني أتحاشى الآن حتَّى التفكير بتأليف كِتاب أو بطريقة أصح للعودة لسابق زمن حين عدلت عن نشر كتابي الذي مقرّه السليم و الآمن الأدراج المغبرة:
شدة استنفاري مما يحدث من جُرم في إذابة مفهوم الأدب و سَحق بذور الفِكر و تلوين الفلسفة بطلاء لغوي مُزخرف لا يحتمل التأويل و لو لربع فكرة فلسفية. فالمكتبات في زمن الكاميرا والشّكليات و الأضواء و الإستعراض، مصابة بمرض التثاءب من تلك الإصدارات التي تسللت إليها عنوة مِن أشباه كُتّاب أجادوا في تخريج كُتبٍ بالغة الفزع لفرط سطوتها الإنشائية ، أولئك أشباه الكُتَّاب الذين أصيبوا بحُمّى اقتناء الكُتب لتزيين مكتباتهم و إطلاق لقب المُثقف قبل أسمائهم ، أولئك الذين يُسجلّون كم اقتباسًا لكُتّاب حقيقيين ليتفزلكون بها في ساحة سناب شات و أشباهه ، أولئك الذين يطاردون المُحررين و الناشرين في صناديق البريد و طاولات المقاهي و المشاهير في صفحات التواصل الإجتماعي، ليروجون عجلة لأعمالهم المُبهرجة بكم مفردة لامعة مستقاة من أوساط المعاجم.
و كونك مثلي ترى الأعمال البلهاء تحتلّ موطن الثقافة اليوم و تسعى لوأدها ، فلا منقذ لك من القيء المتكوّم في عقلك و نَفسك. تِلك الأعمال المُخضّبة بخيالٍ مريض و مُسطّرة بأفكارٍ مُضجرة كونها ملوّنة ،و عاطفية ميلودرامية مستوردة من أفلام الأبيض و الأسود، تلك الأعمال التي يبيع مرتكبها المُصطلحات الفاخرة المستوردة من جُب لسان غابر الأقوام و فاترينات مابعد الحداثة ، ليحيك بها مرتكبها نصوص مصنوعة مِن خُردة فكِرية و بلاغة تالفة، تِلك الأعمال المُصابة بالجذام في محتواها و مطلية مِن الخارج بغلافٍ ذو تصميمٍ فاخر، تلك الأعمال التي لا تعلم أنت كيف أصحابها ارتكبوا المعصية في كونها تستحق الطباعة ورقيًا نظرًا لركاكتهم كضربٍ من تعميم البلاهة..
تِلك الأعمال التي تجعلك تختنق و تشفق على المكتبة المختنقة بالطحالب، المصابة بالبثور و عيّنات كلمات خلقت وحيدات خلية، هي التي ستكون دافعًا كبيرًا لَك للتوبة عن فكرة ارتكاب الإثم و المعصية في نشر كتاب لك إلا بعد سنين طويلة من الإعتداد كما فعل إلبير قُصيري أنار الله روحه حيث كان لا يخرج كتابًا له إلا بعد كدّ سنينٍ طويلة لإنشاء حبكة فكرية و فلسفية يعتد بها.

لِذا على الرُغم من كون إصدار كتاب في أيامنا هذه، من السهل و اليسير ، إلَّا أنهُ في حسبتي من المروءة و النُبل العدول عن فكرة تأليف كتاب لا يطل على شُرفة الواقع و لا يحمل فِكرة تُأجج عقل قارئها لتدفعه لإعمال ثورة و إنقلاب على الحال المُظلم الظّالم.
و من المُلاحظ فإنه يغلب على مَن أصدروا أعمالهم السنوات المُتأخرة -مثالًا لا حصرًا- تجدهم من الثلة الذين يختزلون كلمة "دون كيخوته" في حضيرة محاربة طواحين الهواء وفقًا لأقوالٍ متداولة لا تخلو من السطحية، دون أن يقتربوا عن كثب ليتعرفوا على كاتب فذ اسمه "ميغيل دي سرفانتس" . و إستيعاب مهنة الكتابة عند هؤلاء ميؤوس مِنها ، إذ هم من الزمرة ذو الأحلام الرومانسية التي محورها كي يكونوا كُتّابًا عليهم بقراءة أعمال متداولة بعينها ثُم الإنضمام لعدة ورشات كتابية مع الأخذ بالإلتزام بالملبس الذي يعكس ثقافتك، كساعةٍ باهظة أنيقة و خاتم و إن وُجد ربطة عنق و القبعة الماغوطية -نسبة لمحمد الماغوط- ، بعد هذا كالفرض يأتي عليهم واجب إلتقاط شذرات عرجاء من مواقع إلكترونية ، و الإشتراك في قنوات تلغرام ثقافية أدبية لسرقة محتواها و نشرها في صفحاتهم لكأنهم استقوها من مباحثهم وغوصهم وتحليلهم ، و أكاد أجزم أنهم ليسوا قلة من يفعلون ذلك بل إني على مقربة من هؤلاء الذين ينسخون و يلصقون من هُناك إلى هُنا ، سواء مقولة أو لوحة فنية أو سيرة عن أديبٍ و كاتب ،و هم لا يكادون يفقهون مَن الذي نشروا عنه مقولته أو لوحته و هؤلاء يشبهون ذلك الذي خَرج في مظاهرةٍ يصرخ بالديموقراطية وهو لا يفهم ماهي.

بعد الجحيم الدنيوي من الإنحطاط الثقافي و المعرفي و الفِكري الذي نصطدم به عند زيارتنا للمكتبات أعتقد أنهُ علينا أن نقول للمنتفخة أوداجهم بهوس حصاد لقب كاتب أن يتحلّوا بما تحلّى بهِ سفيان الثوري حين مزق كُتبه و طيرها في الريح قائلًا:
"ليت يدي قُطعت من ها هنا و لَم أكتب حَرفًا" .

لِذا سبب عدولي عَن الفِكرة الشاقة والمهمة الصعبة في تأليف كتاب هي أحد الأسباب المذكورة أعلاه، فالقُرّاء اليوم و مجتمعاتنا بحاجة لغذاء معرفي حقيقي لا لأسطرٍ إنشائية مصحوبة بعاطفة مريضة يكاد صاحبها يكون مبتور العاطفة أصلًا في معاملته مع الآخرين ، إن القُراء اليوم بحاجة لقراءة ما يجعلهم يطلون على شُرفة حقيقية لواقعهم، بحاجة لإتقاد روحي و معرفي ليتمكنوا من الإصلاح و الثورة على الفساد و أهله، لا التملق و الركض خلف أعمال و مؤلفات نكاد ننهيها في جلسة واحدة مع فنجان قهوة،مؤلفات تلهينا عن قضايا واقعنا المعطوب اليوم الذي لم نرحمه من فيض غض بصرنا عنه.
وقد قُلتُ مسبقًا واصفًا ميلي إلى الكُتب التي تستهويني:
"أُحب تِلك الكُتب التي خُلقت لتكون شيئًا ماكثًا على الصدر ،وتخلق مني كائنًا قلقًا محشورًا في التفكير الثقيل والتخطيط كيف سأكملها وكم أيام طوال بحاجةٍ لأتفرغ فيها لألتهم تلك الكُتب، تلك الكُتب التي تجعلني أحسب محسبًا عظيمًا للوقتِ و أهيء لها عقلي و أنفض عنه غباره، تلك الكُتب التي تجعلني ليال أخوض عراك مع نفسي و إضطراباتي بسبب فكرة علقت بي و اتقدت في مبلغ نفسي،و ليس تلك الكُتب التي كُتبت لنمضغها خلال وقت وجيز كقطعة حلوى لا تُكلفنا عناء التفكير ما إذا كانت ذو نفع أم مُجرد حلوى مليئة بالسكر والنكهات".


وأنا عني و عن نفسي فإني أفضّل بصق ثقافتي و معرفتي المقصورة في تغريداتٍ عدة في تويتر ، و رمي بحوثاتي في تلك الكراتين المليئة بالغبار ، على أن أرتكب معصية إضافية في حق ثقافتنا ومكتباتنا ،و لستُ مؤهلًا بعد للخوض في مهمة شاقة كمهمة الأنبياء في نشر الرسالات الصالحة و نصرة الإنسان ، بالإضافة لستُ جزافيًا بشجاعة الجهل لأدبّ بنفسي في بطن التأليف ، و إني على ذلك أُفضّل ما أشقيت نفسي عليه من بحوثات و أفكار لم أتحرى فيها مزيدًا من الدقة، أن تبقى في عش ظلاميتها، فالخروج للنور لا يليق إلَّا بالحُكماء المُحنكين الواثقين من رسالاتهم الثورية ضد الظلام.


و خِتامًا فإني أُحمّل دور النشر المسئولية الأولى، حيث باتت تسمح لكل من هب و دب بإصدار أعماله لنا ، لنساعد كُلنا حينها في تخريج مُثقف و كاتب فقير المبادئ و الأخلاق والفِكر والتنوير ،و لنشترك جميعنا على مقدمتنا دور النشر في وأد ثقافتنا التي قد تغدو غدًا ضمن المغفورين لها و تحت جناح رحمة الله.
و دور النشر هذهِ التي تسمح لبعض المهرجين في إصدار بثورهم و أفكارهم الشّوهاء ، لا تقلّ جرم عن تلك المؤسسات الفنية التي جعلت هكذا أغنية هبابية تمر بلا رقيبٍ و لا حسيب:
"بحبّك ياحمار
و بقولّك ياحمار
أنا بازعل لمّا حد
بيندهلك ياحمار".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا