الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحق في الاختلاف و ثقافة الاختلاف : مدخل إلى العدالة الثقافية

رشيد اوبجا

2019 / 3 / 23
مواضيع وابحاث سياسية


تقديم :
يعتبر الحق في الاختلاف من ركائز الديمقراطية ، إذ لا يمكن التأسيس لمجتمع ديمقراطي تسود فيه حقوق الإنسان بدون الاقتناع بالدور المحوري للحقوق الثقافية للشعوب ، من تم تكريس التعددية الثقافية التي ناضلت من أجلها مجموعة من الحركات الاجتماعية و كذا الشعوب الأصلية . و من ثمار ذلك صدور إعلان اليونيسكو العالمي بشأن التنوع الثقافي سنة 2001 ، و " إعلان الأمم المتحدة بشأن حقوق الشعوب الأصلية " الذي اعتمدته الجمعية العامة في 13 شتنبر من سنة 2007 .
لقد أصبح موضوع العدالة الثقافية يفرض نفسه في الآونة الأخيرة لدى نشطاء الحركة الحقوقية ، و يعد مدخلا أساسيا في مقاربة إشكالية العدالة في الفلسفة السياسية المعاصرة ، كما هو الحال بالنسبة ل ويل كميليكا على سبيل المثال لا الحصر .
و ساهمت مدارس من داخل الأنتربولوجيا في تكريس التعددية الثقافية ، من خلال التأسيس لمبدأ النسبية الثقافية " كخطاب مناوئ لأطروحات الانتروبولوجيا الاستعمارية .
سنحاول في هذه الورقة أن نجيب عن الأسئلة الآتية :
• كيف قاربت الفلسفة السياسية المعاصرة موضوع العدالة ؟
• هل يمكن الاقتصار على مسألة توزيع الخيرات المادية " في التأسيس للعدالة الاجتماعية ؟ أم أن هناك خيرات أخرى لا تقل أهمية ( الخيرات السياسية ، الخيرات الثقافية ، الرمزية ...الخ ) ؟
• ما هي أسس و مرتكزات الحق في الاختلاف ؟ و ما المقصود بثقافة الاختلاف ؟
• هل هناك اعتراف بالتعددية الثقافية في العهود و المواثيق الدولية ؟

سؤال العدالة في الفلسفة السياسية المعاصرة :
يعتبر سؤال العدالة من الموضوعات الكلاسيكية في الفلسفة ، كما أصبح تيمة بارزة في الفلسفة السياسية المعاصرة ، و قد عرف سجالا حادا بين عدة مدارس فلسفية أبرزها : مذهب : " اللبراليين " بزعامة جون راولز ، و تيار " الجماعاتيين " كما هو الحال عند " مايكل ساندل ، و ألسدير مكنتاير ، وشارل تايلولر ...الخ .فإذا كان المذهب الأول يعطي الأهمية القصوى للحقوق الفردية ، فإن المذهب الثاني ينتصر للحقوق الجماعية .
إن ما يمكن نعثه ب " البراديجم التوزيعي " كان الجذر الموضوعي للاختلاف الحاصل في التصورات الفلسفية التي قاربت موضوع العدالة ، فمن جهة تدافع مجموعة من النظريات عن التوزيع العادل للخيرات المادية كمحدد أساسي لتكريس العدالة ، كما هو الحال بالنسبة للمذهب المساواتي ، و نظرية الحد الأدنى عند كل من " مارتا نوسباوم " و" أنغليكا كوربس " ، و كذا النظرية الماركسية . و من جهة أخرى يدافع المذهب اللبرالي عن العدالة بمضمون سياسي .
هذا السجال الفلسفي الذي دارت رحاه في الفضاء الأنجلوساكسوني ، تفاعلت معه مدرسة فرانكفورت ، فقد قام " يورغن هابرماس " بإعادة صياغة كلا التصورين ( اللبرالي و الجماعاتي ) استنادا إلى أعمال فرانك مشلمان " ، و بالتركيز على تصورات المذهبين معا " للمواطن و الحق و طريقة تصورهما لطبيعة تشكيل الإرادة السياسية "
من خلال منظوره التشاوري اعتبر هابرماس أن التصورين معا لم يتناولا المضمون البينذاتي للحقوق التي تطالب بالاحترام المتبادل للحقوق و الالتزامات في شروط الاعتراف المتماثلة . " 1
لقد أثر هذا التصور بشكل كبير في تلميذ هابرماس أكسيل هونيت ، و لو أنه ينهل من فلسفة هيجل ، إذ طور منظوره للاعتراف ليجعله (براديجما ) أساسيا في تناول موضوع العدالة خاصة في كتابه الصراع من أجل الاعتراف the Struggel for Recognition .
وقد تمكن هونيت من بلورة ما سماه ( العدالة بوصفها تحليلا للمجتمع ) . و لا يهتم في تصوره للعدالة باستخلاص القواعد و المبادئ المعيارية التي نقيس على أساسها الشرعية الأخلاقية للنظام الاجتماعي ، بل يهتم كثيرا بتحليل العلاقات الاجتماعية في أفق كشف الأمراض الاجتماعية التي تهدد تماسك الجماعة ..." 2
إن الحق في الانتماء إلى الجماعة ، في نظره ، و كذا الاعتراف في المجتمعات الحديثة حق من حقوق الفرد . فهو يفهم كل أنماط النزاعات الاجتماعية ، حتى تلك القائمة على أساس توزيع الخيرات و الترواث ، بوصفها نزاعات معيارية و صراعا من أجل الاعتراف .
لم يسلم تصور" أكسيل هونيت " من سهام نقد " نانسي فرايزر " ،محاولة البحث عن الحلقات المفقودة في نظريات العدالة، من أجل إعادة بناء عدالة متشبعة بقيم إنسانية. ولذلك استوجبت استراتيجية فريزر تفكيك البنية الرأسمالية والكشف عن ماهيتها. وبهذه الاستراتيجية تسعى إلى ” إدماج الأفضل من سياسة إعادة التوزيع مع الأفضل من سياسة الاعتراف(الصراع من أجل الاعتراف) و الصراع من أجل إعادة التوزيع الاقتصادي. 3
من جهته حاول " راينر فورست 4 أن يبلور بديلا مغايرا يتخطى هفوة عدم استحضار السياق عند اللبراليين ، و يتجاوز ، في الآن نفسه ، مشكلة تضخيم السياق عند " الجماعاتيين ". و في هذا الإطار سيعد فورست رسالته في موضوع سياقات العدالة : ما وراء النزعتين اللبرالية و الجماعاتية " . 5
لقد قارب راينر فورست إشكالية العدالة في علاقتها بمفاهيم أخرى من قبيل : التسامح ، وحقوق الإنسان ، و الكرامة ، و العدالة العالمية و السلم ، و الحق في التبرير .
إن مسألة السلطة ، هي جوهر العدالة عند فورست ، فلا معنى لتوفير حد أدنى من العيش أو توزيع الخيرات بين المواطنين ، مادام هناك غياب للمشاركة بين أفراد المجتمع في توزيع معايير السلطة و تحديد السياسات . هكذا ، فإن التصور البديل للعدالة عند " فورست ينبغي أن يتجاوز مفهوم الخيرات المادية إلى " الخيرات السياسية " ، من تم فإن المطلوب في التفكير السياسي المعاصر للعدالة الانكباب على معالجة السلطة كسؤال مركزي للعدالة " . 6
و يقترح منظورا بديلا ينبني على نقد علاقات التبرير ، لضمان كرامة الإنسان كفاعل و مشارك في نظام التبرير . علاوة على اعتبار سلطة التبرير حق يتوجب أن يتمتع به كل مواطن . 7
إذا كان راينر فورست يؤسس لتصوره للعدالة من خلال براديجم التبرير" محاولا التركيز على السلطة ( سلطة التبرير و المشاركة في وضع المعايير ) ، محاولا تجاوز المحدد القائم على توزيع الخيرات المادية إلى مسألة الخيرات السياسية ، فإن هناك تصورات أخرى انطلقت من مسألة التوزيع العادل للخيرات الرمزية من ضمنها الخيرات الثقافية . و يعد ويل كميليكا 8 أبرز مدافع عن هذا التصور.

العدالة من منظور التعددية الثقافية :

ينظر كميليكا إلى التعددية الثقافية باعتبارها مفهوما للالتزام السياسي ، إذ تضمن مبادئ الحرية الفردية و المساواة " من خلال ضمان حقوق الأقليات القومية و الشعوب الأصلية . و خلافا للتصورين السالفي الذكر ( اللبراليين و الجماعاتيين ) ، فإن كميليكا يحاول أن يوسع نطاق العدالة ليشمل المستوى الجماعي ، إضافة إلى مستواها الفردي .9 ويرى أن التعددية الثقافية محدد أساسي لبناء نظام ديمقراطي ؛ نظام يتجاوز المنظور الفرداني في مقاربة المسألة الثقافية فإذا قسنا مؤشرات الأساس الديمقراطي في الغرب مثل الحرية الثقافية و السلام و الرخاء الاقتصادي ، نرى أنه لم تتقدم أي من الدول التي سلكت طريق التعددية الثقافية إلى الحرب الأهلية أو إلى الفوضى أو واجهت انقلابات عسكرية أو عانت من انهيار اقتصادي ، بل على العكس كانت أكثر المجمعات سلاما و استقرارا و رخاء على الأرض 10

لعل من أوائل من طرحوا مسألة العدالة اللغوية في حقل الفلسفة السياسية نجد " فيليب فان باريس " ، من خلال مجموعة من الدراسات و الأبحاث أبرزها كتاب العدالة اللغوية من أجل أوربا و العالم " 11
و الذي أكد فيه غياب العدالة ذات الصلة بالتنوع اللغوي ، خاصة باستحضار هيمنة اللغة الانجليزية .
و يرى أن العدالة اللغوية تقوم على المرتكزات الآتية : 12
 الاعتراف بالتنوع اللغوي داخل حدود الدولة و التأكيد الرمزي للمساواة بين اللغات .
 تبني لغة مشتركة تحقق التواصل بيم جميع مواطني الدولة ، أطلق عليها ( اللغة الوسيطة ) .
 امتلاك مواطني الدولة المقيمين في أقاليم الأقليات الشجاعة ، و التواضع لتعلم اللغات الحية المرسمة وفق مبدأ الجهوية في تلك الأقاليم .
 تبني مبدأ الجهوية اللسانية الذي يقوم أساسا على الاعتراف بحق كل جماعة لغوية في استخدام لسانها داخل حدود اقليمها .

التعددية الثقافية و الحق في الاختلاف :

الثقافة " مجموع السلوكات الاجتماعية و الممارسات التي تتوارثها جماعة أو مجموعة من الأجيال المتلاحقة كتقنيات الأكل و القيم الأخلاقية و العرفية و الدينية و العادات اللغوية و الطقوس ، كما تتجلى في أشكال اللباس و المباني "13
يعرف " رالف بيلز " الثقافة بكونها " أساليب السلوك النمطية التي يتعلمها المرء من خلال عضويته في جماعة اجتماعية " .
و لعل من بين المبررات التي تقدم لتهميش ثقافات الأقليات ، و أحيانا ثقافة أغلبية مواطني شعب معين ،
تنهل من التمييز بين الثقافة المكتوبة و الثقافة الشفوية ، من تم الانتصار لما سمي ب الثقافة العالمة " على حساب الثقافة الشعبية التي يتم ازدراؤها . في هذا الصدد نرى ضرورة التوقف قليلا لتحديد العلاقة بين المعرفة و الثقافة .
إن الثقافة أوسع من حيث الدلالة من المعرفة ، فالمعرفة لحظة من لحظات الثقافة ، هي لحظة إنتاج التصورات النظرية حول موضوعات العالم الخارجي " 14
ليست الثقافة المكتوبة إذن إلا لحظة بسيطة من لحظات التعبير الثقافي ، لكن مع الأسف ، فإن تاريخ الثقافة المكتوبة حظي بعناية فائقة عكس تاريخ الثقافة الشعبية . و يساهم ذلك في تزييف الوعي تجاه ما أنتجته البشرية من تراكمات ثقافية فحين لا يكون في وسعنا أن نكتب تاريخ قسم من التعبير الثقافي لمجتمع و لشعب ما ، فنحن بذلك نفقد قدرتنا – و حقنا في – بناء وعي صحيح متكامل بتراكمه الرمزي ، الأمر الذي ينجم عنه ضعف في مستوى تمثلاتنا له " 15
و يعتبر عبد الله حمودي الثقافة بمثابة مركب يجمع بين " الثقافة العالمة" و" ثقافة معاشة " ، و هذه الأخيرة تشغل دور الوسيط الفعلي المشتمل على الأولى . 16
في هذا الصدد ، ينتقد حمودي الدكتور محمد عابد الجابري لكونه يكتفي بمفهوم ضيق للتراث و الذي " لخصه في الثقافة العالمة ، من دون النظر في العلاقة بين الثقافة و المفاهيم و المساطر التي انبنت عليها الحياة في المجتمعات العربية الحية ، و أساس الكل نظرة قومية للثقافة متأثرة بالتصورات البعثية ..." . 17
يبقى الدرس الأنتربولوجي مرجعية لا محيد عنها للترافع من أجل التعددية الثقافية . و رغم ارتباط الأنثروبولوجيا بالخلفيات الإيديولوجيا و الأطماع الاستعمارية في بداياتها ، إلا أن هناك " أنتربولوجيا مضادة " كما نجد عند ( أشلاي مونتاقيو ) حول أسطورة التفوق العرقي ، و كذا عند هيرسكوفيتش " و" رالف بيلز" و " رالف لينتون " حول النسبية الثقافية باعتبارها حقيقة واقعية ، و هي تدافع عن فكرة الاختلاف و الحق في الاختلاف و الاعتراف بالآخر ، المغاير ، الذي لا يستند إلى تشريطنا الثقافي ، إن على مستوى العقيدة أو على مستوى السلوك ، أو على مستوى الرموز "18
و يحدد هيرسكوفيتش " النسبية الثقافية باعتبارها مذهب فلسفي من مهامه : تقديم نظرة مضادة حول الثقافات ضد النظرة التي تقدمها الأنثروبولوجيا الاستعمارية ، فهي تنشد غاية انتاج أحكام موضوعية ضد
المواقف " الدوغمائية " المطلقة .
ففي الفصل الأخير من كتاب (هيرسكوفيتش) أسس الأنتربولوجيا الثقافية " ، يحاول مقاربة مفهوم الحق في علاقته بالعدالة و الجمال باعتبار امكانية تشكلها و تبلورها في إطار ثقافات كتعبير عن التسامح لا عن نزعة عدمية فهذا المبدأ يعتبر أكبر إسهام للانتربولوجيا الثقافية ، يدفع الإنسان خطوة إلى الأمام في البحث عما يجب أن يكون عليه و ذلك في ضوء الوقائع التي نعرفها عن الإنسان على ما هو عليه في وحدته كما في اختلافاته " .

الاختلاف الثقافي و ثقافة الاختلاف :

إن الاختلاف الثقافي ظاهرة وجودية منفصلة عن الذات التي تمارس النقد و التحليل و الحكم ، و يجسد التمايزات الثقافية الناتجة عن تعدد الخصوصيات الإثنو ثقافية و المجالية لمختلف الشعوب و المجموعات البشرية . و يستتبع ذلك اختلاف ثقافة عن أخرى بوصف تلك ظاهرة محسوسة و تشهد بها سمات عديدة في الثقافة نفسها ، أبرزها اللغة و المعتقدات و التاريخ و المنتجات المعرفية و الذوقية من علوم و آداب و فنون ، و كذلك أنماط السلوك و طرق التعبير إلى غير ذلك ..." 19
الاختلاف حسب "جيل دولوز" هو ذلك الوسيط الذي يصل بين المتناقضات و يصل بين الأشياء " بحسب ما تمليه شروط التعدد و التوليف غير المحددة قبليا ، إنه ما يمكن العناصر من أن تتحد ببعضها وتترهن ، و بهذا المعنى ، فهو من حيث هو المسافة و التباعد و التعدد ، وحده ما يجعل الموجود يتحقق ، و من هنا أهميته الأنطولوجية " . 20

و تتأسس فلسفة الاختلاف عند دولوز ، في مجملها ، على سؤال مركزي هو : كيف يكون الإثبات ممكنا دون هوية ؟ و كيف يكون الاختلاف ممكنا دون سلب ؟
في هذا الإطار تستدعي الضرورة تكريس ثقافة الاختلاف كمحدد أساسي و ضمانة رئيسية لتدبير الاختلاف و التعدد الثقافيين . فما المقصود بثقافة الاختلاف ؟
تعني ثقافة الاختلاف الثقافة المتراكمة نتيجة الوعي بالاختلاف و الصدور عن ذلك الوعي ، و دراسته و تحليله ، الأمر الذي يوجد تراكما معرفيا و خبرة إدراكية أو مجموعة من المعارف و الخبرات التي تتألف منها ثقافة نابعة من الاختلاف ." 21
إنها " ما ينتجه الفرد الباحث أو الذات المتأملة حين تقوم بالبحث في الاختلاف الثقافي أو تتأمله و تتخذ موقفا تجاهه 22

الاعتراف بالتعددية الثقافية في العهود و المواثيق الدولية :

تنص المواثيق الدولية على الحقوق اللغوية و الثقافية للشعوب ومن ضمنها الأقليات القومية و الشعوب الأصلية ( أقلية كانت أو أغلبية ) .و تنص المادة الثانية من الاعلان العالمي لحقوق الإنسان على أن لكل إنسان حق التمتع بجميع الحقوق و الحريات المذكورة في هذا الاعلان ، دونما تمييز من أي نوع ، و لاسيما التمييز بسبب اللون ، أو الجنس ، أو اللغة ، أو الدين ، أو الرأي سياسي أو غير سياسي ، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي ، أو الثروة ، أو المولد أو أي وضع آخر " .
أما العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية ، فيقر في المادة الأولى بحق الشعوب في تقرير مصيرها السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي .
عرفت المنظومة الحقوقية الدولية تقدما ملحوظا في الآونة الأخيرة في إقرار الحقوق الثقافية في شموليتها ، و طبعا ، كان ذلك نتاج نضالات الشعوب ، و ترافع ممثلي الشعوب الأصلية و منظمات المجتمع المدني أمام المؤسسات الحقوقية الدولية .
فقد عرفت سنة 2011 صدور إعلان اليونيسكو العالمي بشأن التنوع الثقافي ، و تؤطره أربعة محاور أساسية . فالمحور الأول يهم موضوع الهوية و التنوع و التعددية ، و التنوع الثقافي حسب الإعلان بمثابة تراث مشترك للإنسانية جمعاء. و يخلص المحور الأول إلى أن التعددية الثقافية هي الرد السياسي على واقع التنوع الثقافي .
أما المحور الثاني فيتعلق بالتنوع الثقافي و حقوق الإنسان ، فهذه الحقوق ضمانة لتكريس التعددية الثقافية ، كما أن الدفاع عن التنوع الثقافي واجب أخلاقي لا ينفصل عن احترام كرامة الإنسان .
و يعنى المحور الثالث بعلاقة التنوع الثقافي بالإبداع ، بينما يؤطر المحو الرابع مسألة التنوع الثقافي و التضامن الدولي .
و من مكتسبات الحراك الحقوقي الدولي " إعلان الأمم المتحدة بشأن حقوق الشعوب الأصلية " و الذي اعتمدته الجمعية العامة في 13 شتنبر من سنة 2007 .
و يؤكد الإعلان على مساواة الشعوب الأصلية مع الشعوب الأخرى ، و إقرار حق جميع الشعوب في أن تكون مختلفة مع احترامها بصفتها هذه . فهذا الاختلاف و التنوع هو بمثابة تراث مشترك للإنسانية .
إن " سيطرة الشعوب الأصلية على التطورات التي تمسها و تمس أراضيها و أقاليمها و مواردها ستمكنها من الحفاظ على مؤسساتها و ثقافتها و تقاليدها و تعزيزها ، و من تعزيز تنميتها وفق تطلعاتها و احتياجاته " .
و تكمن أهمية التنوع الثقافي و تكريس حقوق الشعوب الأصلية ، حسب الإعلان ، في مساهمة معارف و ثقافات الشعوب الأصلية في تحقيق التنمية المستدامة و المنصفة للبيئة و في حسن إدارتها .
و تنص المادة الثانية من الإعلان على أن الشعوب الأصلية و أفرادها أحرار و متساوون مع سائر الشعوب و الأفراد ، و لهم الحق في أن يتحرروا من أي نوع من أنواع التمييز في ممارسة حقوقهم ، و لاسيما التمييز استنادا إلى منشئهم الأصلي أو هويتهم الأصلية " .
و للشعوب الأصلية و أفرادها الحق في عدم التعرض للدمج القسري أو لتدمير ثقافتهم ( المادة 8) .
و يقر إعلان الأمم المتحدة بشأن حقوق الشعوب الأصلية على ضرورة التزام الدول بالقيام بتدابير فعالة لتكريس حقوق الشعوب الأصلية و منع التمييز ضدها .
كما نص على الحق في ممارسة الشعوب الأصلية لتقاليدها و عاداتها ( المادة 11) ، وكذا ممارسة و تنمية و تعليم تقاليدها و عاداتها ( المادة 12 ) ، علاوة على الحق في إحياء و استخدام و تطوير تاريخها و لغاتها و تقاليدها الشفوية و فلسفاتها ، و نظمها الكتابية و آدابها ، و نقلها إلى أجيالها المقبلة ...( المادة 13 ) .

خاتمة :

من خلال ما تقدم ، نخلص إلى أن العدالة الثقافية تكتسي أهمية بالغة في التأسيس لمجتمع المواطنة و الديمقراطية . تجد فيه جميع الثقافات و اللغات حقها في إطار المواطنة اللغوية و الثقافية الذي يتأسس على " التوزيع الثقافي و اللغوي
لأفراد المجتمع على قاعدة الاعتراف بالمساواة في الحقوق و الواجبات ، و على أسس تعاقد ثقافي – لغوي بين الدولة و المواطن . 23

غير أن مطلب الحق في الاختلاف و التعددية الثقافية ليس بالأمر اليسير ، فغالبا ما تعيقه توجهات فكرية محافظة ، أو تصورات تنهل من مرجعيات قومية ضيقة ترى الاختلاف باعثا على التفرقة .
و الدليل على ذلك ما عرفه ملف الأمازيغية في المغرب ، في بداياته و لا يزال ، من تهميش و تضييق و قمع .
و رغم دسترة الأمازيغية في دستور 2011 كلغة رسمية إلى جانب العربية ، إلا أن هذا الترسيم ظل موقوف التنفيذ لارتباطه بشرط صدور القانون التنظيمي للأمازيغية الذي لم يرى النور بعد . و يؤكد ذلك استمرار العقليات المحافظة و الشوفينية في تدبير السياسات العمومية ، و التي تقف حجر عثرة أمام التقدم .


هوامش المقال :

- محمد الأشهب ، فلسفة الحق عند هابرماس منشورات كلية الآداب ، جامعة محمد الخامس، الرباط - أكدال ، سلسلة ندوات و مناظرات رقم 156 ، ص 184
2- محمد الأشهب ، الحق في العدالة في الخطاب الفلسفي المعاصر ، مؤلف جماعي ما العدالة ؟ معالجات في السياق العربي ، المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات ، ص 139
3- عزيز الهلالي ، عزيز الهلالي ، من الاعتراف إلى التبرير… حوار نقدي بين نانسي فريزر وأكسيل هونت وراينر فورست ، ثقافات.
فيلسوف ألماني ، من رواد الجيل المعاصر لمدرسة فرانكفورت . - 4
5- مذهب في الفلسفة السياسية ، ظهر في أمريكا في بداية التسعينيات و يشير لمجموعة من المفكرين ( ساندل ، مكانتاير، شارل تايلور...) ، و يؤكد على دور أهمية الجماعة في صقل الروح الوطنية كيفما كانت هذه الجماعة ، و قد انتقد هذا المذهب تصور راولز اللبرالية بشدة .
6- محمد الأشهب ، " العدالة في سياق التبرير عند راينر فورست " مداخلة قدمت لأول مرة بالألمانية في معهد الدراسات المتقدمة بلشتنبرغ كوليغ بجامعة غوتنغن سنة 2014 و قدمت باللغة العربية بمدينة أكادير سنة 2017.
7-Rainer Forst, Justification and critique , translated by Ciarm Cronim ,Polity press ,2014
8- فيلسوف كندي ، نال شهادة الدكتوراه في جامعة أكسفورد سنة 1987 ، من مؤلفاته :" اللبرالية و المجتمع و الثقافة و " المواطنة متعددة الثقافة " و القومية ، التعددية الثقافية و المواطنة " ، و أوديسا التعددية الثقافية " ... الخ.
9- أحمد عزوز و محمد خاين ، العدالة اللغوية في المجتمع المغاربي بين شرعية المطلب و مخاوف التوظيف السياسوي، المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات ، ص 16.
10- ويل كميليكا ، أوديسا التعددية الثقافية : سبر السياسات الدولية الجديدة في التنوع " ، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام ، سلسلة عالم المعرفة ، عدد 378 ، المجلس الوطني للثقافة و الفنون و الآداب ، الكويت ص186
11- Linguistique Justice for Europe and for the World(Oxford: University Press , 2011)
12- أحمد عزوز و محمد خاين ، مرجع سابق ، ص 17-18
13- سليم دولة ، ما الثقافة ، منشورات المستقبل ، ط2 ، الدار البيضاء 1990 ، ص 41
14- ع الإله بلقزيز ، في البدء كانت الثقافة ، نحو وعي عربي متجدد بالمسألة الثقافية ،إفريقيا الشرق ، الدار البيضاء ، 1998 ، ص 44
15 - ع الإله بلقزيز ، مرجع سابق ، ص 47
16 - عبد الله حمودي ، الرهان الثقافي و هم القطيعة ، إعداد و تقديم محمد زرنين ، منشورات جامعة محمد الخامس أكدال الرباط ، دار توبقال للنشر ، الطبعة الأولى ، الدار البيضاء ، 2011 ، ص 11
17 - عبد الله حمودي ، المرجع نفسه .
18- سليم دولة ، مرجع سابق ، ص 62
19- سعد البازعي ، الاختلاف الثقافي و ثقافة الاختلاف ، المركز الثقافي العربي ، ط2 ، الدار البيضاء ، 2011 ، ص 13
20- عادل حدجامي ،فلسفة جيل دولوز عن الوجود و الاختلاف، دار تبقال للنشر ،سلسلة المعرفة الفلسفية ، الطبعة الأولى 2012 ، ص 198
21- سعد البازعي ، مرجع سابق ، ص 9
22- سعد البازعي ، مرجع سابق ، ص 10
- 23 - أنظر : مبارك حنون ، الوضع اللغوي بالمغرب في أفق العولمة : نحو إيكولوجيا لغوية ، مجلة فكر و نقد ، العدد ، 1999








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. قصة قتل مو?لمة والضحية الشاب باتريك.. ???? من القاتل؟ وما ال


.. لا عيد في غزة.. القصف الإسرائيلي يحول القطاع إلى -جحيم على ا




.. أغنام هزيلة في المغرب ومواشي بأسعار خيالية في تونس.. ما علاق


.. رغم تشريعه في هولندا.. الجدل حول الموت الرحيم لا يزال محتدما




.. لحظات مؤلمة.. مستشفيات وسط وجنوب غزة تئن تحت وطأة الغارات ال