الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ملء الفراغ بالجمال

أحمد الشطري
شاعر وناقد

(Ahmed Alshtry)

2019 / 3 / 26
الادب والفن


في ديوانه (مثل قارب مقلوب في الصحراء ) الصادر عن دار الكتب العلمية عام 2017. يقدم لنا الشاعر قاسم سعودي قصائده التي تفتح نوافذ تطل على الكثير من الجمال والدهشة. قصائد تفتح امام عينيك كتاب المأساة، والأحزان والحرمان؛ لتقرأه وتنظر داخل نفسك وحواليك؛ لتجدها تسير معك يدا بيد.
(لا أحب الشهداء كثيرا
لقد كسروا ظهر امي) الاهداء
بهذه التراجيديا الصادمة، يبدا قاسم سعودي رحلته في مجموعته هذه، التي تتسم نصوصها بلغتها البسيطة، ولكنها تبعد عن لغة الخطاب المباشر، اذ انها تمزج بين السردية، والشعرية باسلوب يغري القارئ بالسير معه بالسرعة الجنونية؛ لتتابع الحدث، ثم ما يلبث ان يصدمه بجدار خاتمة النص، التي تكسر كل افاق توقعاته. فتتشظى مع تلك الصدمة، تلك الصورة التي رسمتها مخيلته، وهو يلهث وراء عجلات الاحداث، والكلمات المتسارعة؛ لتتشكل صورة اخرى، ولكنها اكثر ابهارا، واعمق اثرا، واكثر استقرارا.
ان من اهم المثيرات الجمالية التي يقدمها لنا قاسم سعودي في نصوصه، هي تلك النهايات الصادمة، وهي تقنية نجح في ان يجعلها علامة بارزة في معظم نصوص المجموعة ان لم يكن جميعها.
يقول في نص (رصاصة طائشة):
اعرف جيدا لماذا كان منزل الجيران
بلا باب ولا نوافذ
كان الاب يقف بين جدارين
ويصنع من نفسه بابا
وفي الصباح كان اولاده يقفون بالتناوب
مرة جاءت رصاصة طائشة
فخسر البيت بابا صغيرا.
في هذا النص قدم لنا الشاعر مجموعة من العلاقات السيمائية الضمنية والمباشرة. فخلو البيت من الشبابيك والابواب، دلالة على حالة الفقر التي تعاني منها هذه العائلة، وتحول الأب والاولاد الى ابواب تعويضية، هو انزياح لما مترسخ في العرف الاجتماعي من كونهم الحارس، والمصد الرئيسي لمن في البيت، وما فيه اولا، وثانيا هو تناص مع الاستعارة التشبيهية في الحديث النبوي( انا مدينة العلم وعلي بابها). و في قوله ( فخسر البيت بابا صغيرا) قناع جميل وكناية ذكية لموت احد الاولاد بتلك الرصاصة الطائشة.
ومن الملاحظ ان نصوص مجموعة الشاعر قاسم سعودي هذه تزدحم بصور الفقر والحروب والموت والفقدان، ومن هنا ربما جاز لنا ان نعتبرها صرخة احتجاج عالية بوجه الخسائر الفادحة التي تسلب من الحياة رونقها، وتلبس وجهها الجميل قناعا من القبح الذي يترك في النفس حالة من الياس والتذمر. ولعلنا من خلال قراءة متمعنة سنلحظ ان بعض نصوص المجموعة تكاد ان تقفز على الترتيب الظاهري لها بل تكاد توحي لنا بانها كتبت بنفس واحد وهو ما ساهم في خلق ترابط نسقي بين تلك النصوص من خلال ما توحيه بعض الاشارات التي تحيل الى نصوص اخرى. ولعل في هذين النصين مثالا واضحا لما اشرنا اليه: ففي نص (يمشي وحيدا) يقول:
( في المقبرة
قالت العجوز : لماذا يمشي وحيدا هذا القبر
اجاب الولد: هذا ليس قبرا يا امي
هذا ابي يتعقب الشهداء كل ليلة.) ص89
يحيلنا هذا النص الى نص اخر متقدم عليه في الترتيب بعنوان (في غرفة الضيوف) يقول:
(ابي لا يتكلم مع احد
...
وعند حلول الليل يعود الى صورته في غرفة الضيوف
فلا قبر لديه
لقد تركوه في نهر جاسم) ص 29
وهو هنا يصور مأساة الشهداء الذين تركوا في ارض المعركة او الذين لا يعثر على جثامينهم ليكون لها قبر يدل عليها. تلك المأساة بالتأكيد هي مأساة ذويهم الذين يبحثون عن علامة تدل عليهم غير ان الشاعر اضافها الى أولائك الاموات ليكون وقعها اكبر على المتلقي او هي محاولة لجعل هؤلاء المفقودين (الشهداء) دائمي التفاعل مع الحياة ومجرياتها كنوع من الرفض للاعتراف بنهايتهم متخذا من عدم وجود علامة (قبر) تدل على نهاية حياتهم، ولذا فهو يتعامل معهم بكامل فعاليتهم ليس في هذين النصين فحسب بل في كثير من النصوص التي تتحدث عن الحرب والموت، وهو فعل وان كان قصديا في ظاهره الا انه – وكما يبدو- يتكأ على صوت مضمر داخل نفس الشاعر. وسواء كان الامر واقعيا ام تخيليا فهو يعكس قدرة الشاعر قاسم سعودي على تقريب المتخيل من الواقع المحسوس بشحن تلك الارواح التي غادرت الحياة بنبض الفعل الحياتي حتى نكاد ان نتحسس وجودها فيما بيننا.
ومما نلاحظه بوضوح هو كمية التساؤلات التي تحملها تلك النصوص وهي تساؤلات تتسم بالمفارقة غالبا:
(اين ذهب الجندي... ماذا حل بالأرملة؟) ص28
(سأجد ثوبا خفيفا لك وسجادة للصلاة ..لا. لا.. ماذا تفعلين بالصلاة هناك؟)42
(اخبريني الان كيف هي الحياة تحت الارض؟)ص 43
( انا جائع ... اين ضحكتك؟) ص114
(اي حمل ثقيل هذا يا الله
ان نعطي الحليب ولا نأخذ سوى الشهداء؟) ص120
هذه التساؤلات هي في الغالب استنكارية او تعجبية وهو تأكيد لحالة الادانة والرفض للواقع الاليم الذي يعاني منه الانسان العراقي على الاعم والشاعر على سبيل التخصيص باعتباره جزءاً متفاعلا ومتحسسا لمجريات ذلك الواقع.
ان نصوص مجموعة (مثل قارب خشبي مقلوب في الصحراء) تحمل الكثير من المثيرات الجمالية والسيميائية التي تمنح القارئ افاقا واسعة للتأمل والاستمتاع دون ان يشعر بالملل او النفور فلغتها الشفافة تنساب بعذوبة دون ان تعكرها غرابة المفردة او غموض الصورة او تقريرية الخطاب انها تملك عناصر الجذب ببراعة كبيرة وقدرة فائقة، واحسب ان هذه المجموعة هي اضافة كبيرة ومهمة للمنجز الابداعي في مجال قصيدة النثر العراقية والعربية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. انهيار ريم أحمد بالدموع في عزاء والدتها بحضور عدد من الفنان


.. فيلم -شهر زي العسل- متهم بالإساءة للعادات والتقاليد في الكوي




.. فرحة للأطفال.. مبادرة شاب فلسطيني لعمل سينما في رفح


.. دياب في ندوة اليوم السابع :دوري في فيلم السرب من أكثر الشخص




.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض