الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
المؤرِّخ عُبادة كحيلة.. عاش أندلسَ الماضي والحاضرِ بين موسى أبي الغسانِ وسُليمان خاطر
أسامة عرابي
(Osama Shehata Orabi Mahmoud)
2019 / 3 / 27
مواضيع وابحاث سياسية
المؤرِّخ عُبادة كُحيلة
عاشَ أندلسَ الماضي والحاضرِ بين موسى أبي الغسانِ وسُليمان خاطر
أسامة عرابي
للمؤرِّخ الرَّاحل النابه، وأستاذ التاريخ الإسلامي المتميِّز بكلية الآداب- جامعة القاهرة، د.عُبادة كُحيلة (1939- 2014)، خمسة عشر مؤَلَّفًا علميًّا نضرًا وفريدًا:عن العرب والبحر..أندلسيات..تاريخ النصارى في الأندلس..الخصوصية الأندلسية وأصولها الجغرافية..قراءة جديدة في عهد عمر..دراسات في التاريخ والثقافة العربية، مهداة إلى المؤرِّخ د. رءوف عباس حامد..جمال حمدان عبقرية في الزمان والمكان..الحركة المصرية من أجل التغيير"كفاية"..إلخ، وأربعة كتب مترجمة : الغجر- تأليف : سير أنجوس فريزر، التاريخ مقدمة موجزة، تأليف:جون أرنولد، أطلس التاريخ الإسلامي بالاشتراك مع د.رءوف عباس حامد، تأليف : بيتر سلاجلت، الموت الأسود، تأليف : روبرت س.جوتفريد، وحرَّرَ وقدَّمَ ستة عشر كتابًا، وراجعَ عددًا من الكتب بالإنجليزية بالاشتراك مع د.رءوف عباس حامد، وحقَّقَ ديوان والده الشاعر الكبير الراحل عبد الرحمن رضا كُحيلة. وقدَّمَ لنا أنموذجًا حيًّا لأكاديميٍّ يعرف بدرسه العلمي، وبالأسئلة التي يطرحها، دوره الفكري والمعرفي وصيرورته في التاريخ.. الأمر الذي قاده إلى اكتشاف ما بين العلم والسياسة من علائقَ ووشائجَ، حرَّرته (العلم) من التخصص الضيق المنغلق على ذاته،ووصلته بأفقه الإنساني العامّ، مستعيدًا بوعي عميق الوظيفة السياسية للعلم والثقافة والكتابة. لهذا شارك في تأسيس"جماعة العمل من أجل استقلال الجامعات"التي تكوَّنتْ عام 2003 من الجامعيين الذين يؤرِّقهم ما بلغه التعليم والبحث العلمي من تردٍّ وانهيار، وانفصام روابطه بقضايا المجتمع، ووصول الجهلاء والفاسدين إلى مناصب الجامعة العليا، وسعوْا إلى إعادة الاعتبار إلى الجامعة المصرية بوصفها "بيت الحكمة" والعقل المفكِّر الذي يرسم للأمة خطاها، والحفاظ على استقلالها من الوصاية الأمنية، واتخذوا من حادث استقالة أستاذ الجيل أحمد لطفي السيد- مدير الجامعة المصرية- في 9 مارس 1932 احتجاجًا على نقل الدكتور طه حسين إلى وظيفة خارج الجامعة،اتخذوا منه رمزًا فعُرِفتْ بجماعة (9 مارس). كذلك كان د.عُبادة كُحيلة من أوائل مَنْ تنادوْا إلى بناء "الحركة المصرية من أجل التغيير" (كفاية) التي تألَّفتْ عام 2004، وأصبح عضوًا في لجنتها التنسيقية في بداية عام 2009؛ هادفًا مع رفاقه من خلال شعار"لا للتمديد..لا للتوريث" إلى انتشال البلاد من وهدة الاستبداد الشامل في الداخل، وإنهاء احتكار الحزب الحاكم السابق للسلطة والثروة، وإعلاء سيادة القانون وسلطة القضاء، والعمل على أن تستردَّ مصرُ مكانتَها الرِّيادية التي فقدتها بتوقيعها اتفاقيتي كامب ديفيد. فوضع كتابه "الحركة المصرية من أجل التغيير..كفاية" ليكون"شهادة حاضرة لمن رآها رأي العين؛عين الكاتب وعين المؤرخ في آنٍ"وفق تعبيره، موضحًا دورها أو شراكتها في ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011، وما أحدثته من حراك أثمر فصائل أخرى من بناتٍ لها وأخوات، أسهمن في إذكاء جذوة ثورة هي أجمل الثورات في تاريخ مصر وأنبلها. من هنا؛ جاءت عضويته في مجلس إدارة الجمعية المصرية للدراسات التاريخية"، ومسئوليته عن نشاطها الثقافي خدمة لتاريخ مصر وإغنائه بالدراسات العلمية التي تجلو حقيقته وكنهه؛ فعمد والدكتور عاصم الدسوقي المديرالسابق لفعالياتها الثقافية إلى إعادة هيكلتها وتطويرها؛ من خلال تقديم محاضرتيْن شهريًّا من أكتوبر- مايو، وندوة سنوية تستمرُّ في العادة ثلاثة أيام، وهو ما حفظه لهما المؤرخ الوطني د.رءوف عباس حامد رئيس مجلس إدارة الجمعية في سيرته الذاتية ذائعة الصيت "مشيناها خطى" بقوله : "كان لكلٍّ منهما فضلُ الارتقاءِ بمستوى الخدمات الثقافية التي تقدمها الجمعية بالإعداد الجيد للموسم الثقافي كلّ عام، وفتح منبر الجمعية أمام أصحاب الرؤى الجديدة من مختلِف المدارس والتوجهات دون تمييز(سوى التمييز بين الغث والسمين)، كما نجح كلٌّ منهما في الإعداد الجيد لندوات الجمعية؛ فنظَّم عاصم الدسوقي ندوتي "المصريون والسلطة" و"الدين والدولة في الوطن العربي"، ونظَّم عُبادة كُحيلة ندوة "التقاء الحضارات في عالم متغير..حوار،أم صراع؟" وندوة"الثورة والتغيير في العالم العربي"؛ وكلُّها ندوات أعادت للجمعية حيويتها ونشاطها اللذيْن افتقدتهما منذ ترك رئاستها د.أحمد عزت عبد الكريم"، ويُضيف د.رءوف مؤكدًا:"وقد وضعها هذا النشاط في موقعٍ متميِّزٍ على ساحة الدراسات الخاصة بالشرق الأوسط على المستوى العالمي؛ فأصبح نشاطُها العلميُّ يحظى بالمتابعة والمشاركة من جانب متخصصين متميِّزين من أوربا وأميركا، كما أدرجت مجلتُها العلمية في الدليل الدولي للمجلات العلمية". وبذلك استطاع د.عُبادة مع زملائه :عادل غنيم وعبد المنعم الجميعي وأيمن فؤاد سيد ونللي حنا وعاصم الدسوقي ومنى بدر، وسواهم من شباب الباحثين الذين دخلوا المجلس من أمثال : نجوى كيرة وأحمد زكريا الشِّلق ويحيى محمد محمود وغيرهم، استطاعوا نقل بؤرة اهتمامها من النظرة الإسكولائية إلى التاريخ، واعتماد المناهج الرسمية التي تُضفي قدسية على الوقائع، وبطولية على الشخوص التاريخيين، إلى تنويع المقاربات التي تعكس موقفًا نقديًّا؛ من أجل سبرٍ أعمقَ للتاريخ الإنساني، وتعرُّف المرء على عصره، والوعي بأحداثه، وتمثّل المفهوم الثقافي للديمقراطية. وبذلك انتقلت الجمعية من طورٍ إلى طور، بعد أن أسهم د.إبراهيم نصحي رئيسها السابق في تجميد نشاطها وتقليص دورها في المشهد الثقافي المصري العام؛ مما أدَّى إلى إحجام أعضائها عن الحضور والمشاركة، حتى إن أحد المحاضرين- كما يقول د.رءوف عباس في سيرته الذاتية المذكورة سالفًا- لم يجدْ من الجمهور سوى ثلاثة أفراد، فجمع أوراقه وانصرف! لذا رأى د.عُبادة كُحيلة أن وظيفة المثقف الوطني الفاعل تتلخص في"تنظيم السخط العام وترشيده، وأن يظلَّ إيجابيًّا يحمل مشعل التنوير بتجلية الغوامض، وإظهار الحق من الباطل"، كما جاء في مقدمة كتابه "ورقات في الزمن الصعب"(2008)، ووجده ينسحب على مفكرين وعلماء وقادة سياسيين من طراز : جمال حمدان ورءوف عباس وأديب ديمتري وأحمد نبيل الهلالي وأحمد فؤاد بلبع ومن إليهم..فاضحًا دعاة الانكفاء على الذات من المثقفين النيوليبراليين، كما لمسناه في ردِّه على أحدهم ويدعى محمد البدري الذي نشر مقالًا في جريدة "أخبار الأدب" في 8 من فبراير 2004 بعنوان"المصريون ليسوا عربًا"، سعى فيه إلى نزع الهوية العربية عن وطنه، مؤكدًا أن الهدف من مقاله (د.عُبادة) هذا "ليس الدفاع عن العروبة، وإنما هو توضيح ما عليه أعداء العروبة وخصومها من تهافتٍ في أحيان، وما هو أكثر من التهافت في أحيانٍ أخرى وأحيانٍ"، قائلًا له بملء فِيه : "أيها الكاتب : أنا مصري عربي..أعتزُّ بتراث آبائي من المصريين القدماء، كما أعتزُّ بتراث آبائي من العرب النبلاء".. نازعًا منزعَ د.جمال حمدان في تشديده على أهمية البُعد الإفريقي والآسيوي على الصعيد القاريّ، والنيليّ المتوسطيّ على المحور الإقليميّ، داخل إطار عربي كبير؛ حيث "العروبة وجود.. ولكن الأبعاد توجيه.. أن تكون الأبعاد هي اتجاهات البوصلة.. فإن الأساس العربي هو جسم البوصلة ذاته".. لذا يُقرِّر أن "مصر جزء من مِنطقة عربية واحدة، أحدث بها الجفاف ابتعادات جزئية، لا تمنع أن تكون البلاد العربية بيئة متوسطية، وأن تصبح مصر والعراق والمغرب نظائر جغرافية، كما أن الوحدة السياسية لا تأتي، بالضرورة، من الوحدة الطبيعية، وإنما من الوحدة البشرية، وهي متوافرة عند العرب".. ويُضيف : "إن أعظم أمجاد مصر تحقَّقت في إطار العروبة... معارك صلاح الدين وقطز وبيبرس أعظم من معارك تحتمس ورمسيس، والتوسع الفرعوني في مساحته، لم يصلْ إلى توسع القرن التاسع عشر. وإذا كانت مصر عربية؛ فهي زعيمة العرب، أهَّلها لذلك ضخامة حجمها وتجانسها واستيعابها لعينات من كل قطر عربي، سبقها إلى الحضارة الحديثة، وموقعها بين آسيا العربية وإفريقيا العربية، لا حدود له مع غير العرب، وتصديها للصليبيين والمغول... ثم إسرائيل...مصر بين العرب أولوية بين أكْفاء...العرب بغير مِصر، "هاملت" بغير الأمير".. أو بتعبير د.عُبادة كُحيلة : "مادامت مِصر عربية، فإن قدرها في الوحدة العربية، وهو قدر يفرضه عليها أمنها". غير أن دفاع د.عُبادة كُحيلة عن الثقافة العربية الإسلامية لم يُنحِّ التاريخ ليُحلَّ التراث مكانه، أي إنه لم يُحوِّل زمننا المتواصل إلى لحظات انتقائية، وبُرهات متقطعة، بل تناوله بتجرُّدٍ علميٍّ متحرِّرٍ من وطأة الموروث ونزعة تمجيد الذات؛ ليقدِّمَ لنا الأحداث بموضوعية، ويصوِّر لنا القوى الفاعلة فيه أفرادًا كانوا أو جماعات بشرية، في سياق سيرورةٍ ترمي إلى نهضة تنتشل الماضي من ظلمة الانحطاط ، وتُفضي به إلى زمن الحداثة والتقدُّم.. مؤمنًا بأن"الفكر الإنساني نهر دفَّاق، شاركت في رفده شعوب كثيرة وأمم في أزمنة قديمة وحديثة"، مُبيِّنًا أن"الثقافة العربية والعلم العربي كان لهما تأثيرُهما الوافرُ في ثقافة العالم وعلمه"، وأنهم- العرب-"تعاملوا مع هذه العلوم بمنهجٍ نقديٍّ، وصحَّحوا ما وقفوا عليه من أخطاء، وأضافوا إليها إضافاتٍ جمَّة"، ولدى انتقال هذه العلوم – بعد أن صارت عربية - إلى أوربا في نهايات العصور الوسطى وبعدها، كانت عاملًا حاكمًا في نهضتها، حتى إن جورج سارتون يحعل العلم خلال هذه الفترة وبعدها علمًا عربيًّا بامتياز، وقدَّمَ لنا (د.عُبادة) ما يُسوِّغ هذه الرؤية ويبرِّرُها، كما جاء في دراسته الضافية الرصينة "الإنسانيات عند العرب ورحلتها إلى أوربا"، متوقفًا عند منتصف القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي، أي عندما وصلت الحضارة العربية الإسلامية إلى أوْج بهائها وعطائها في ميادين الأدب والتاريخ والجغرافية والفلسفة، مبينًا أن من المؤرخين العرب مَنْ كان يُدوِّنُ تاريخه بعيدًا عن سلطة الدولة؛ حدَّ أن ابن إسحق أتى في تاريخه بأشعار لابن الزُبعري في بدرٍ وأحُدٍ؛ مما حدا بابن هشام إلى أن يُلطّف من حدَّةِ هذه الأشعار في مختصرِه، وكان بعضٌ ثانٍ يُعاودُ وثائق الدولة وكبار المسئولين فيها، وانفردوا عن معاصريهم الأوربيين بالتوقيت والسنين والأشهر والأيام، وهو ما لم تعرفْه أوربا قبل بداية العصر الحديث، بينما تفرَّد بعضٌ ثالثٌ بمعرفة لغات أخرى غير اللغة التي يدوِّنون بها، واهتموا اهتمامًا فائقًا بتأثير البيئة في صنع أحداث التاريخ، وضرب لنا مثلًا بابن حيان القرطبي رغمًا عن دثور بعض أسفاره مثل كتابه "المقتبس"، فإنه وضع لنفسه منهجًا محدَّدًا يبدأ بالحديث عن الأمير أو الخليفة وملامح شخصيته، ثمَّ يُترجم لرجال دولته وتطوُّر العمران في عصره وأخبار العلم والعلماء، ثم يتناول الأحداث حسب السنين، فإذا كانتِ الحادثة تستغرقُ عدَّة سنواتٍ، فإنه يُواصلها إلى نهايتِها، ثمَّ يُعاود النسق الحولي، ويُترجم بعد ذلك للأعيان وينتهي بالوَفَيَات، وهو في هذه الإبَّان يُقابل بين التقويميْن الهجري والميلادي، وبين الروايات، وينحازُ إلى العقل وينبذُ الأساطير، ويُقارن بين وقائعَ جرت بالأندلس ووقائعَ أخرى جرت في المشرق، ويقسو على بني أمية على الرغم من كونه وأهله من صنائعِهم،ويُديمُ النَّظر في وثائق الدولة والرواية الشفوية، ولم يستنكفْ أنْ ينقلَ عن المستعربين من نصارى الأندلس، ومدوَّنات نصرانية دثرت بعدُ؛ مما يُرجِّح درايته باللاتينية الدارجة (عجمية أهل الأندلس)، ويصوغ هذا كلَّه في عبارةٍ أدبيةٍ راقية، وأسلوبٍ لا يُدانيه فيه أحد.. فضلًا عن حرصه على دفع الأوهام والأغاليط حول مكتبة الإسكندرية القديمة، واضطلاعه بتصويبِها على نحوٍ علميٍّ يستندُ إلى حقائق التاريخ التي لا يُماري في صحتِها إلا مَنْ في قلوبِهم مرضٌ، كما صنع في تعقيبِه على مقال المستشرق المعروف "برنارد لويس"، وادعائه قيامَ العرب بإحراق مكتبة الإسكندرية، وهو ما شاع في أورباعندما تمَّتْ ترجمة كتاب ابن العبري المعروف بأبي الفرج الملطي "تاريخ مختصر الدول" في سنة 1663، وبيان مدى زيفِها وعَوارِها،على الرغم من أنَّ هذه القصة- وفق ما يذهب د.عُبادة كُحيلة- تعرَّضت للنقد المنهجي من قِبل عددٍ من المؤرِّخين الأوربيين- وهو ما يؤكِّد عليه برنارد لويس- أولهم رينودو في مطالع القرن الثامن عشر، ثم جيبون في أخرياتِه، كما تعرَّض لها في القرنيْن التاسع عشر والعشرين عددٌ آخرُ من هؤلاء المؤرِّخين؛ منهم كازانوفا وجريفيتي، وأهمُّهم بتلر في كتابه "فتح مصر" الصادر عام 1902، ونهض بترجمته قبل سبعين عامًا ونيِّفٍ كاتبُنا الكبيرُ محمد فريد أبو حديد. ويذكر بتلر أن هذه القصة لم تظهر إلَّا بعد نحوٍ من ستمائةِ عامٍ من الفتح العربي لمصر، ولا نجد لها أثرًا عند المؤرِّخين السابقين- مسلمين ومسيحيين-، وأن يحيى النحوي، وهو شخصية محورية فيها، مات قبل الفتح بسنوات طويلة، ثمَّ إن المكتبتيْن- مكتبة الموسيون ومكتبة السيرابيوم- كانتا قد درستا قبل مائتيْن من السنين، وإذا كان لا بدَّ من إحراق المكتبة، فيمكن أن تُحرق في مكانِها، لا أنْ تنقلَ إلى الحمامات، وأخيرًا فقد درجتِ الحالُ في الإسكندرية منذ القرن الرابع الميلادي على أنْ تكونَ الكتبُ أو كثرتُها من الرَّق، وهو مادة لا تصلح وقودًا. كما يستشهد د.عُبادة كُحيلة بكتاب المؤرخ الثبْت مصطفى العبادي"مكتبة الإسكندرية القديمة"، وفيه يذكر أن قصة الحريق المزعوم، ظهرت في بلاد الشام إبَّان الحروب الصليبية، وذلك بعد تدمير الصليبيين المكتباتِ الإسلامية الزاهرة، وأخصُّها مكتبة طرابلس، ولمَّا كانتْ لهذا التدميرِ تبعاتٌ سلبية، فإنهم اختلقوا قصة حريق عمرو بن العاص مكتبة الإسكندرية القديمة، وسرعان ما ذاعت هذه القالة المكذوبة. ويستطرد د.عُبادة فيسجِّلُ أن السببَ الأهمَّ في جعل ابن القفطي الذي ارتبط ببلاد الشام وبالأسرة الأيوبية الحاكمة، يُوردُ هذه القصة على نحوٍ مفصَّلٍ في كتابه المذكور آنفًا، هو ما قام به صلاح الدين الأيوبي بعد سقوط الخلافة الفاطمية من تفريق لخزانة كتبِها وبيعِها بالمزاد العلني؛ مما أدَّى إلى تعرُّضِه لحملةِ نقدٍ شديدةٍ، فأضحى على رجال العهد الجديد، ومنهم ابنُ القفطي، أن يروِّجوا لقصة حرق ابن العاص مكتبة الإسكندرية تبريرًا لما أقدمَ عليه صلاحُ الدين، خصوصًا أن بيعَ الكتبِ أهونُ من حرقِها.غيرَ أن المؤرِّخ د.عُبادة كُحيلة الذي يتبنَّى منهج التاريخ – الوقائع والأفكار، الذي يُعنى بالوقائع من حيثُ إطارُها العامُّ، ويُعنى بالأفكارِ من حيثُ قدرتُها على اكتشاف موضوعية السياسة والتاريخ، أوْلى اهتمامًا استثنائيًّا بالتاريخ الأندلسي ودور الطوائف أو ممالك الطوائف في ضياع الأندلس، وكان من أوائل من عُنوا بدراسة المقدمات التي أفضت إلى هذا الضياع، وسقوطها الواحدة تلو الأخرى في أيدي المرابطين من حكام المغرب، أو في أيدي الإسبان، مع استثناء مملكة سرقسطة التي امتدَّ بها العمرُ إلى أوائل القرن السادس الهجري/الحادي عشر الميلادي، بعد أن ألفى شغورَ المكتبة العربية من كتابٍ يُعالجُ هذه المقدماتِ؛ كما قدَّمَ رؤيا جديدة لدور البحريين الأندلسيين والوجود الإسلامي في إقليم بروفانس،إثر رؤيته "ما تميَّزتْ به الأندلسُ من خصوصيةٍ معينةٍ، داخل الإطار العام للحضارة الإسلامية؛ فقد افترق مسارُ هذه الحضارةِ في الأندلس عن مسارِها في أقطارٍ إسلاميةٍ أخرى غير الأندلس"؛ إذ إن "التراث الثقافي الذي وقف عليه المسلمون بعد قدومِهم إلى شبه الجزيرة، قد لعبَ دورًا وافرًا في طبع الحضارة الإسلامية بطابَعٍ خاصٍّ، من مظاهرِه أنْ دخلتِ اللغة العربية – والعامية الأندلسية- بعضُ الألفاظ اللاتينية (أو الرومانثية)، كما دخلت الشعرَ العربيَّ بعضُ التأثيراتِ المسيحية والأيبيرية القديمة، نقفُ على نماذجَ منها في شعر ابن دراج (ت421)، وابن شهيد (ت426)، وابن زيدون (ت463)، كما نقفُ عليها أيضًا في شعر الموشحات والأزجال". ولفت نظرَهُ الشعورُ بالزهو الذي شعرَ به الشعبُ الأندلسيُّ إزاء أندادِه المسلمين بالمشرق، وحيال أندادِه المسلمين بالمغرب، كما تُعبِّرُ عن ذلك رسالة مشهورة للفقيه الكبير والأصولي أبي محمد بن حزم. هذا الشعور العارم بالأندلسية – كما يقول د.عُبادة- كان يؤدِّي إلى إقامةِ علاقاتٍ تحتيةٍ بين مسلمي الأندلس وبين نصارى الشمال، وهي علاقات في مجملِها طيبة يسودُها التسامحُ، ولم يكنِ الأندلسيُّ –فيما يذهب ليفي بروفنسال- القادمُ من دارِ الإسلامِ يجدُ غضاضة من المقام في دار الحرب، وكذا كانتْ حالُ قرينِه النصرانيِّ القادمِ من هذه الدارِ إلى دارِ الإسلام. بل إن المسلم المُدجَّن الذي تحوَّل ولاؤه السياسيُّ إلى النصارى، لم يكنْ يشعرُ عادة بتحوُّلٍ كبيرٍ في حالِه، خصوصًا أن جيرانَه ومَنْ يتعاملون معه من هؤلاء النصارى كانوا على درايةٍ بالعربية أو يتحدثون بها وقد يُجيدونها. الأكثر من ذلك، كما يُلاحظُ مؤرِّخُنا، أن بعضَ النصارى حارب مع المسلمين مرتزقة، ومن المسلمين مَنْ كانوا يفعلون ذلك فيحاربون مع النصارى، ولدينا مثالٌ واضحٌ في ملحمة السيد la poema . de mi o ci d وقد عُنيَ بدراسة "كتاب التواريخ" لباولوس أوروسيوس بعد ترجمته إلى اللغة العربية، وكان قد نقل عنه عددٌ من مؤرِّخي الأندلس وجغرافييه، ومنهم ابنُ جلجل والبكري والحميري وابن خلدون، بل نقل عنه أيضًا مؤرِّخٌ مسلمٌ غيرُ أندلسيٍّ هو المقريزي.. وقد احتفظتِ الترجمة العربية بطابَعٍ دينيٍّ واضحٍ يتناسبُ وروحَ التسامحِ السائدة في ذلك الوقت.. مؤكِّدًا أن نهضة الأندلس الفكرية العظيمة في القرن الرابع الهجري- العاشر الميلادي، كانتْ بتوجيهٍ من الخليفتيْن عبد الرحمن الناصر والحكم المستنصر، شاركَ فيها نصارى الأندلسِ المستعربون الذين نقلوا على نحوٍ أساسيٍّ ما يهمُّهم ويهمُّ المسلمين في الوقت ذاته من كتبٍ في مجالاتٍ كثيرةٍ. وقد خصَّ المؤرِّخُ محمد عبد الله عنان الذي أغنى المكتبة العربية بدراساتِه العميقةِ لتاريخِ الأندلس، وتراجُمِه لابن خلدون ولسان الدين بن الخطيب والحاكم بأمر الله، بدراسةٍ مهمَّةٍ تكشفُ عن ثقافتِه الموسوعيةِ، وحَيْدتِه وموضوعيتِه،متسائلًا بحقٍّ : هل مصادفة ينتهي محمد عبد الله عنان من تأريخِه لثغرٍ عربيٍّ ضاعَ، في وقتٍ يضيعُ ثغرٌعربيٌّ آخرُ؟ لهذا سَحَّ د.عُبادة كُحيلة دموعه، وهو يدلفُ إلى جامع قرطبة، وبكى وهو يتطلعُ إلى مِفتاحِ إشبيلية الكائنِ في أحدِ متاحفِها، وكذلك وهو يُنصتُ إلى الدليل في أفياء الحمراء، يقول : إن هذه المدينة صارتْ بعد الاستردادِ سكنًا للصوص والرّعاع والغجر، يقول : بكيتُ.. وبكيتُ.. وبكيتُ.. وتذكرتُ موسى أبا الغسان (البطل الأندلسي الذي رفضَ أن يُذعنَ للاستسلام الذي ارتضاه "عقلاء قومه"، وقتلَ عددًا من الإسبان حتى قُتلَ)، وتذكرتُ أيضًا سليمان خاطر( البطل المصري الذي رفضَ أن يُذعنَ للاستسلامِ الذي ارتضاه "عقلاء قومه"، وقتلَ عددًا من الصهاينة الذين اقتحموا موقعَهُ العسكريَّ بغتة، حتى قُتلَ). ويُضيفُ قائلًا : الاثنان معًا على تباعُدِ الزمانِ والمكانِ، عبَّرا عن فكرةٍ واحدةٍ، وعن موقفٍ واحدٍ، والاثنان معًا أدانا العجزَ، وأدانا اللافعلَ،وكأنهما يقولان : إذا كان لابُدَّ من الموت، فلنمتْ واقفين. إن أندلس الحاضر تضيع منا، ونحن عنها ذاهلون. كذلك اهتمَّ المؤرِّخ د.عُبادة كُحيلة بتاريخ الغجر وتبيان أصولهم ؛ فوضعَ مؤلَّفًا عنهم حمل اسم "الزُّط والأصول الأولى لتاريخ الغجر" (1994)، ساعيًا فيه إلى استكمال ما نهض به قبل مائة عام أو نحوِها مستشرقٌ هولنديٌّ كبيرٌ هو "دي خويه" للوصل بين مَنْ نعرفُهم اليوم بالغجر، ومَنْ عرفناهم في السَّابق بالزُّط ، وترجمَ كتابًا عنهم باسم"الغجر" للسير أنجوس فريزر، أهداه "إلينا حتى لا نتحوَّلَ جميعًا إلى غجر".. وقد دفعته إلى ذلك - التأليف والترجمة_ محدودية ما قرأه عنهم في أعداده وفي امتداده لدى الأبِ أنستاس ماري الكرملي وبعضِ باحثينا ممن تخصَّصوا في الأنثروبولوجيا والأنثروبولوجيا الثقافية، بالإضافة إلى ما أحاطَ بالغجر من غموض، وما درجتْ عليه الحالُ عندنا- في وطنِنا العربي- من حراكٍ اجتماعيٍّ مرنٍ، كان يُفضي في أحيانٍ إلى حجب الصفة الغجرية عنهم أو عن البعض منهم، على حد تعبيره. وقد وقفَ على حلقة الوصل بين غجر اليوم، وزط الأمس فيمنْ كانوا يُعرفون ببني ساسان أو الساسانيين،"حفلَ بهم وبأخبارِهم بعضٌ من شعرِنا، وأخصُّه القصيدة الساسانية لأبي دُلف (ت حوالي 390هجرية) وإحدى بابات (تمثيليات) ابن دانيال (ت 711هجرية)، كما حفلَ بهم بعضٌ من نثرِنا، وأخصُّه مقاماتُ الهمذاني (ت 398هجرية) ومقامات الحريري (ت 516هجرية) ومقامات أخرى غيرها". وربما أفاد د.عُبادة كُحيلة من الدراسة الرائدة التي وضعَها الباحثُ الفرنسيُّ الشهيرُ"جان كلود شميت" المعروفة باسم"تاريخ الهامشيين" التي سلَّطتِ الأضواءَ الساطعة على الأدوار التي يضطلعُ بها الهامشيون ومنهمُ الغجرُ، بعد أن ذهبَ الاهتمامُ فحسب إلى الأدوار التي قامت بها نخبُ السلطة والثروة والثقافة؛ فانطلاقًا من المركز فقط – كما زعموا- تشعُّ الحقيقة التي تُعَدُّ معيارًا للصواب لديهم. وكان قد بدأ يتبلورُ بين الحربيْنِ العُظمييْنِ تاريخٌ اجتماعيٌّ واعٍ يُعنى بالهوامش، ونشأتْ مجلة "الحوليات"، وهي مجلة التاريخ الاقتصادي والاجتماعي التي لعبتْ دورًا كبيرًا في تطويرِ إشكالياتٍ جديدةٍ كما يقولُ المؤرِّخُ الفرنسيُّ جاك لوغوف، وفرضَ على الدراسات التاريخية بعد الحرب العالمية الثانية أنْ تغيِّرَ توجهاتِها ونظرتَها؛ فتطوَّرتِ الأعمالُ الجماعية، وأصبحَ الانفتاحُ على العلوم الإنسانية مطروحًا.
أجلْ..عاش د.عُبادة كُحيلة حياته مخلصًا للبحث العلمي، لا يملكُ شيئًا ولا يملكه شيء، مُحبًّا للحياة، مُلقيًا بنفسه في خضمِها؛ مما يُذكِّرني دومًا بمقولة طه حسين في نهاية "الأيام" : لو استؤنفَ الأمرُ من حيثُ ابتدأ لاستأنفَ مسيرته التي سارها، لم يُغيِّرْ منها شيئًا، ولم يُنكرْ منها قليلًا أو كثيرًا".. رحمه الله.
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. ما مدى أهمية تأثير أصوات أصحاب البشرة السمراء في نتائج الانت
.. سعيد زياد: إسرائيل خلقت نمطا جديدا في علم الحروب والمجازر وا
.. ماذا لو تعادلت الأصوات في المجمع الانتخابي بين دونالد ترمب و
.. الدفاعات الجوية الإسرائيلية تعترض 3 مسيّرات في سماء إيلات جن
.. فوضى عارمة وسيارات مكدسة بعد فيضانات كارثية في منطقة فالنسيا