الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الدولة الشبح

تركي لحسن

2019 / 3 / 27
مواضيع وابحاث سياسية


لا يخفى على أحد أن تشكّل الدول الوطنية في المجتمعات العربية كان نتيجة للمؤامرات السرية التي أبرمتها الدول المستعمِرة مع القادة العرب الذين خانوا قضاياهم و باعوا ذممهم للمستعمر. مع الوقت تحولت حكومات الدول العربية إلى سفارات للدول المستعمِرة، و تحول القادة العرب إلى مرتزقة توجههم مخابرات الدول الاستعمارية. تنطبق أحداث هذه المأساة على الجزائر كذلك.
فالدولة الوطنية التي تشكّلت بعد الاستقلال و التي كانت تبشر بمستقبل أفضل، لم تكن في الحقيقة سوى امتداد للاستعمار الفرنسي الذي آثر أن يغير من إستراتجية الهيمنة و فضل أن يحكم عن طريق قادة جزائريين. ربما اعتقد القادة الذين حكموا الجزائر بعد الاستقلال أن مجرد إنشاء مؤسسات شبيهة بتلك التي أنشأتها الدول الغربية الحديثة، كفيل بأن يجعل منا دولة حديثة.
و ربما كانوا صادقين في نواياهم في تأسيس دولة عظيمة و حديثة تكفل لشعبها العيش الكريم و تحقق له الرفاه، لكن للأسف ليست النوايا هي من تصنع المعجزات و لا الخطابات هي من تشيِّد الحضارات، فقد تبنوا خطابات شعبوية ضخّمت آنا الشعب لدرجة جعلته يعتقد في أوهام لا تمت بصله لا لتاريخه و لا لواقعه المرير. فمصطلحات مثل، جزائر الأبطال، بلد العظماء، بلد التضحيات، الشعب الجزائري البطل، جزائر العزة و الكرامة، جزائر المعجزات، الشعب الأبي، الشعب الشجاع....كانت بمثابة المخدر الذي يسكّن آلام الشعب الجائع و المقهور و المظلوم.
لقد خلقوا دولة شبح أوهموا أنفسهم و أوهموا الشعب أنها قادرة على أن تلبي جميع حاجياته و تكون في مستوى تطلعاته، غير أنها كانت مجرد دولة أشخاص لا دولة مؤسسات، تخدم مصالح الأقلية الحاكمة. لكنهم من جهة أخرى أفلحوا في إيهام الشعب، الذي لم يكن يتجاوز بعد العقل الوجداني و العاطفي، بالخطاب الثوري المتجاوز.
قامت الدولة بالفعل بإنشاء مؤسسات و هيئات حكومية تحت شعار الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية، لكن في الحقيقة لم تكن لا جمهورية ولا ديمقراطية و لا شعبية، بل كانت سلطة غير شرعية تمارس حكمها من خلال نظام ديكتاتوري بوليسي أرهب الشعب و جوعه و أفقره. فأساليب و آليات الحكم في الأنظمة الشمولية تتمثل عموما في إنشاء مؤسسات وهمية فارغة من محتواها، لا تمارس وظائفها القانونية إلا على الجماهير الشعبية الفقيرة و الكادحة.
تمثلت هذه المؤسسات في كل السلطات، التشريعية، التنفيذية و القضائية، و حتى في السلطة الرابعة. وظفّ النظام كل هذه السلطات لحماية مصالحه الشخصية من خلال منح هذه المؤسسات جزء من الصلاحيات و الامتيازات تجعلهم يتوهمون أنهم حقا مؤسسات دولة لها كامل الصلاحيات. ومع الوقت شكّلت هذه الهيئات درعا و حصنا يحمي السلطة من الشعب.
يتفق أغلب المؤرخين و المضطلعين على تاريخ الجزائر الثوري، على أن اتفاقيات إيفيان كانت بمثابة الحبل السُري الذي لم ينقطع بعد الولادة، وظل حلقة وصل بين فرنسا و ممثليها في الجزائر لاستدامة الهيمنة و الاستعمار عن بعد. و هذا ما تؤكده تدخلات فرنسا في الشؤون الداخلية للجزائر و التي تصل في بعض الأحيان إلى درجة تعيين و إقصاء الوزراء.
الدولة في معناها الصحيح هي مجموعة من المؤسسات كل منها تمتلك سلطة رمزية تستخدمها بغرض التسيير العقلاني لثروات البلاد، ثم توزيع هذه الثروات على الأفراد بشكل عادل وفق مبدأ الفعالية و الاستحقاق. أما الدولة عندنا فهي مجموعة من المؤسسات التي تمتلك سلط رمزية تستخدمها بغرض الهيمنة و استغلال ثروات البلاد ثم تقسيم الجزء الأكبر منها على الأقلية المهيمِنة، و توزيع المتبقي على الشعب المهيمن عليه.
إن المفعول السحري للهيمنة التسلطية لدولة العصابة ليس ناجما من التحكم في مصدر الثروات، و لا حتى في خضوع الفئات الانتهازية التي تطمع في الحصول على نصيب من هذه الثروات، بل في استذماج الأفراد لمفهوم السلطة الرمزية الناجمة عن منطق علاقات القوة الذي يحكم بنية هذه الدولة، و ممارساتهم ( الأفراد ) اللاشعورية التي تخضع لمنطق الهيمنة .
منطق الهيمنة هذا سيتحول مع الوقت إلى أشكال مٌمئسسة، مموضعة و مشروعة تفرز هيرارشية اجتماعية تتكون أساسا من طبقتين، طبقة مهيمِنة و طبقة مهيمن عليها، تنعكس في المخيال الاجتماعي للطبقتين بمفهوم مشوه يستتر تحت مصطلح الدولة و الشعب.
حين يتشرب الأفراد منطق السلطة الرمزية و ما تمارسه من هيمنة بتواطىء من الفئة المهيمن عليها، و حين يستذمج المواطنون قواعد اللعبة و ما تفرزه من آليات و قيم تعمل على شرعنة السلطة و ديمومة علاقات الهيمنة، حينها لن يكون من المجدي تغيير الأشخاص، أي استبدال الفئة المهيمِنه بفئة أخرى، ما دامت البنية قائمة و محافظة على آليات عملها.
و ها نحن نتأكد الآن بعد هذه الانتفاضات الشعبية التي هزت البلاد و أرعبت السلطة، من حقيقة هذه الدولة الشبح التي لا زال الجزائريون يخمنون و يتجادلون و يبحثون عن حكامها الحقيقيون. لم يعد يخفى على أحد أن الجزائر، ومنذ الاستقلال، محكومة من قبل العسكر، و أن هؤلاء هم يتحكمون في زمام الأمور و يوجهون السياسيين إلى الوجهة التي يريدون. لكن يبقى السؤال المطروح عن حقيقة هذه العصابة التي استطاعت أن تحكم شعبا لأكثر من خمسة عقود دون أن تسقط أقنعتها و ينكشف وجهها الحقيقي.
زال مفعول السحر، و أصبح بصر الشعب الجزائري اليوم حديد. وها هو الآن يريد أن يحول الدولة الشبح إلى حقيقة، و ينتفض في وجه النظام انتفاضة العبد الشجاع الذي كانت آليات القهر و الهيمنة تقيد شجاعته، و يهزّ بصراخه المرعب أركان النظام الفاسد، و يلقن للعالم درسا في الثورة البيضاء.
آن الأوان مع هذه الهبّة الشعبية و العزم الجماهيري، لكي يأخذ الشعب، من ما سيفرزه من نخب و كفاءات، بزمام الأمور لتصبح الجزائر جمهورية ديمقراطية شعبية بالمعنى الحقيقي و الفعلي للكلمات.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حماس وإسرائيل.. محادثات الفرصة الأخيرة | #غرفة_الأخبار


.. -نيويورك تايمز-: بايدن قد ينظر في تقييد بعض مبيعات الأسلحة ل




.. الاجتماع التشاوري العربي في الرياض يطالب بوقف فوري لإطلاق ال


.. منظومة -باتريوت- الأميركية.. لماذا كل هذا الإلحاح الأوكراني




.. ?وفد أمني عراقي يبدأ التحقيقات لكشف ملابسات الهجوم على حقل -