الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


النظام الجمهوري وأفق الخلاص منه (2): الجيش ذروة سنام النظام الجمهوري وعموده الفقري

حسن مصطفي
(Hassan Moustafa)

2019 / 3 / 30
مواضيع وابحاث سياسية


هذا المقال تكملة لسلسلة مقالات تحت عنوان (النظام الجمهوري وأفق الخلاص منه)، والتي اتناول فيها تفنيد بنية النظام الجمهوري ووسائل سيطرته، الناعمة منها -والتي كانت تمثل محتوى المقال الأول- والعنيفة التي سأتطرق لتناول إحدى مكوناتها البنيوية الرئيسية في هذا المقال، وهي مؤسسة القوات المسلحة-الجيش-.

ثانيا : أدوات السيطرة العنيفة (الجيش والشرطة والقضاء والأجهزة الأمنية والمخابراتية)

أ- الجيش - ذروة سنام النظام الجمهوري وعموده الفقري

يمثل الجيش ذروة سنام النظام الجمهوري وعموده الفقري الحاكم منذ 1952 أي منذ استيلاء الحركة التي أطلقت علي نفسها الضباط الأحرار على السلطة وأطاحت بالملكية، ليتحول الجيش منذ ذلك الحين الى اللاعب الأبرز على الساحة السياسية المصرية، الأمر الذي أدى الى هيمنته الكاملة على الحياة السياسية، تلك الهيمنة التي مكنته من صياغة معادلة للحكم أو عقد اجتماعي استطاع فرضه على المجتمع باستخدام الشعارات القومية المعادية للاستعمار والتي كانت تناسب تطلعات وآمال جماهير المنطقة العربية أو حتى جماهير دول العالم الثالث بشكل عام في تلك المرحلة التاريخية، واقصد مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية وما تلاها من موجة تحرر وطني سادت معظم دول المستعمرات والتي واجهت الشكل التقليدي للاستعمار المباشر واستطاعت التغلب عليه، لكنها في نفس الوقت أُخضعَت وطوعَت لصالح التجاذب والتنافس بين معسكري الكتلة الشرقية بقيادة الاتحاد السوفيتي والكتلة الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية في الوقت الذي كان العالم برمته يتشكل وفقاً لهذه الثنائية القطبية، والتي أفضت في النهاية إلى إنتاج الاستعمار من جديد لكن بشكل مختلف عن صورة الاستعمار العسكري المباشر بل في صورة هيمنة وتبعية اقتصادية وسياسية تجعل من انظمة ومؤسسات وجيوش دول العالم الثالث الوطنية مجرد أدوات تُحَدد سياساتها وأهدافها ومن سيُدفع به لقيادتها بقرارات تتخذ في موسكو او واشنطن بحسب مصالحهم وبتعبير أدق لصالح رجال اعمالهم.

وهكذا وصلنا لما نحن عليه الآن : زمن العمل الاجتماعي لأغلب المصريين يُنهب لصالح الأجانب بحراسة الجيش المصري.

بالاضافة الى ذلك تم تأسيس وزراعة الكيان الصهيوني على أرض فلسطين في 1948 كقوة استعمارية عسكرية وكرأس حربة متقدمة للاستعمار البريطاني والذي كان يعلم أنه سيُضطر إلى التخلي عن استعماره لفلسطين عاجلاً أو أجلاً، فقد أخذ نجمه في الأفول كقوة استعمارية تقليدية لصالح بزوغ نجم الولايات المتحدة الأمريكية كقوة استعمارية صاعدة بعد خروجها منتصرة من الحرب العالمية الثانية بتحريرها أوروبا من النازية وهزيمتها لكل من ألمانيا وإيطاليا واليابان وفي نفس الوقت فهي حليف استراتيجي لبريطانيا، ما سمح بأن يحل النفوذ والهيمنة الأمريكية مكان الاستعمار البريطاني المباشر، لا سيما وأن كل من بريطانيا والولايات المتحدة كانتا تعيا أهمية المنطقة العربية لمصالحهم الجيوسياسية والاقتصادية لما تمتلكه تلك المنطقة من كنز استراتيجي حيث تحتوي المنطقة العربية على ما يزيد عن 56% من إجمالي النفط المكتشف في العالم وما يقرب من 30% من إجمالي الغاز المكتشف، فكان لابد من وجود حليف عسكري قوي يمثل كلب حراسة لمصالحهم الاستعمارية كى يضمن استمرارية سيطرتهم واستحواذهم على منابع النفط في تلك المنطقة الهامة- فمهمة الجيش والمجتمع الصهيوني هي "حراسة تخلف وتفكك الوطن العربي.. وكذلك يضمن مواجهة كل محاولة لنهوضه من خلال الدور العسكري (التدميري) المهدد لكل محاولة لبناء الصناعة وتطوير القدرات العسكرية (العربية) وتحديث المجتمع (العربي)"(1).

هكذا كانت نشأة وتأسيس الكيان الصهيوني وهذا الدعم الغير مشروط والغطاء السياسي الكامل الذي يحظي به الى يومنا هذا.

وبعكس التصور الشائع لدى الكثيرين لم تكن علاقة النظام الجديد عند نشأته سيئة بالولايات المتحدة الأمريكية، فقد أعلمت حركة الضباط الأحرار بشكل مسبق السفارة الأمريكية في القاهرة عن أن تحركاً عسكرياً سيجري للاستيلاء على السلطة في 23 يوليو 1952 وذلك في محاولة للحصول على سلاح وتمويل أمريكي، كما أن الموقف الأمريكي المعارض للعدوان البريطاني الفرنسي الصهيوني في 1956 كان السبب الأساسي في اندحار العدوان، كون أن الولايات المتحدة كانت قد اتخذت قراراً بأن الاستعمار المباشر قد ولى زمانه وأنها ستتولي هي دور المهيمن على المنطقة، كما أن النظام كان يحصل علي شحنات قمح بترتيبات تفضيلية من الولايات المتحدة وصلت الى 904 مليون طن بين عامي 1960 و1965 بقيمة إجمالية 731 مليون دولار، دفعتها مصر بالجنية المصري دون الحاجة إلى توفير العملة الصعبة، إلا أن خطاب عبد الناصر المعادي للولايات المتحدة وخوضه حرب في اليمن ضد مصالح حليفها الوثيق السعودية، أديا إلى توتر العلاقة بين النظام والولايات المتحدة وصولاً الى القطيعة الدبلوماسية الكاملة مع نشوب حرب 1967(2).

تلك كانت الأوضاع السياسية العالمية والجيوسياسية الإقليمية التي شكلت وانشأت النظام الجمهوري المصري.

وبحكم عدم وجود مرجعية أيديولوجية أو أي شكل من أشكال التناسق الفكري بين أفراد النخبة العسكرية التي استولت على الحكم كي تمثل لهم مرجعية في التعامل مع قضايا الحكم والاقتصاد- أخذت مواقف تلك النخبة في التذبذب عند كل منعطف تعرج عليه يميناً ويساراً بحسب أهواء وتوجهات القيادة المسيطرة عليها في هذا الوقت أو ذاك، لا سيما في ظل التغييب الكامل لأي مشاركة شعبية في صنع السياسات أو أي شكل من أشكال التمثيل الديمقراطية.

تحول النظام من التحالف الوثيق مع الاتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية وحالة العداء السافر مع الكيان الصهيوني و السياسات الاقتصادية ذات الطابع الاجتماعي، الى التحالف مع الولايات المتحدة وإعلان السلام والاعتراف بالكيان الصهيوني، وأخيرا ومنذ ذلك الحين وصاعداً عاد اقتصاد السوق في شكل الانفتاح الاقتصادي ليحل محل السياسات الاقتصادية ذات الطابع الاجتماعي.

كانت معادلة الحكم أو العقد الاجتماعي - إن صح التعبير- الذي استطاع النظام ترسيخه عبر منظماته السياسية التي أنشأها خصيصاً لهذا الغرض وبشكل متعاقب من اول هيئة التحرير 1953 ثم الاتحاد القومي 1957 الى الاتحاد الاشتراكي 1962 هي - الخبز مقابل احتكار النظام للحكم والحياة السياسية . أو بالتعبير الدارج "الخبز مقابل الحرية" بمعنى حد أدنى من الضمان الاجتماعي والكرامة الوطنية في مقابل مصادرة الحريات العامة واحتكار العمل السياسي عبر التنظيم الواحد المعبر عن النظام الرسمي، وقد صاحب ذلك قمع وسجن وتعذيب وحتى قتل المعارضين في السجون (3)، والذي وصل لذروته بقمع انتفاضة الطلبة في 1968(4).

ولا شك في أن الحروب المتعاقبة من اول العدوان الثلاثي 1956 ثم حرب 1967 التي كانت حرب من طرف واحد ثم حرب 1973 والتي أُرغم النظام على خوضها تحت ضغط مظاهرات الطلبة 1972، قد مكنت جميعها النظام الجمهوري من ترسيخ سياسات القمع والأرهاب للسيطرة على المجتمع برفعه شعار (لا صوت يعلو فوق صوت المعركة) تلك المعركة التي كانت أخرها حرب 1973 التي خاضها النظام مُرغماً كما أسلفنا والتي كان الهدف منها هو تحريك الموقف العسكري بشكل محدود للسماح بحدوث تسوية سلمية للصراع مع الكيان الصهيوني، الأمر الذي تبلور واتضح بعد ذلك في اتفاقية السلام المشبوهة التي أبرمها النظام مع الكيان الصهيوني في 1978.

تكونت مع نشأة النظام الجمهوري طبقة حاكمة جديدة قوامها هو كبار ضباط الجيش وكبار الموظفين والمسؤلين في الدولة الذين تمتعوا بقدر هائل من الصلاحيات والامتيازات بفضل غياب الرقابة الشعبية أو أي شكل من أشكال المحاسبة، تلك الامتيازات التي راحوا يوزعها شمالا ويمينا على أقربائهم ومحاسيبهم بصفتهم المحتكرين للسلطة وللثورة في البلاد، هؤلاء المحاسيب والأقارب هم الذين نراهم اليوم يكونوا جزءا هاما من رجال أعمال الطبقة الحاكمة المصرية بترابط شبكة جهنمية من المصالح والمصاهرة والتي بنيت في الأساس منذ خمسينيات وستينيات القرن الماضي(5).

في الخمسينات والستينات ظلت معادلة (الخبز مقابل الحرية / لا صوت يعلو فوق صوت المعركة) تكون وتراكم ثروات هائلة لطبقة الحُكام الجدد التي نشأت مع نشأة النظام الجمهوري - والذي ظل في نفس الوقت محافظاً على حد أدنى من التوازن الاجتماعي.

في السبعينات حدث تغيير جوهري في دور الجيش في الحياة السياسية والاقتصادية مع تبني سياسات الانفتاح الاقتصادي تباعاً 1974 - 1975 - 1976 وصولا لعقد اتفاقية السلام مع الكيان الصهيوني في 1978 وتحول عقيدة الجيش وجنوده من القتال الجذري مع الاستعمار الصهيوني إلى الانكفاء على قمع وظلم الداخل المصري - من مثيل قمع انتفاضة الخبز في 1977 ودهس ثورة يناير 2011 .

أعلن قادة الجيش والجمهورية المصرية أن حرب 1973 كانت أخر الحروب بالنسبة للنظام الجمهوري مع الكيان الصهيوني - ثم اتجهوا لخوض حروب لصالح الاستعمار في العراق واليمن الخ.

كما اقتصر دور الجيش بسيناء على منع تهريب الأسلحة للمقاومة الفلسطينية عبر الحدود الشرقية ومنع الاتخاذ من سيناء نقطة انطلاق لمهاجمة الاحتلال الصهيوني من قبل الثورة الفلسطينية المسلحة (6).

بكلمة واحدة أصبح دور الجيش العسكري هو (حماية أمن الكيان الصهيوني) فهذا ما نصت عليه اتفاقية السلام المشبوهة وبالطبع كان يعني ذلك الارتماء في أحضان الولايات المتحدة -أحد أطراف الاتفاقية المشبوهة والضامن الرئيسي لها- ولعب دور التابع الذليل والقبول بكل أملائاتها من اول شكل ونمط الاقتصاد إلى شكل التدريب العسكري والمناورات المشتركة بين الجيشين المصري والأمريكي في مقابل الحصول على معونات مدنية وعسكرية كجزء من اتفاقية السلام.

كما جرى الاسوأ، بحيث جرى استخدام الجيش ليس فقط لإخضاع وظلم الشعب المصري، لكن كان للجيش كمؤسسة اجتماعية دور هام في عملية التدجين الاجتماعي للمصريين، فقد استمر التجنيد الإلزامي للمصريين رغم انتهاء الحرب وجرى اشغال الجنود بالنشاط الاقتصادي والانتاجي.

انشأ السادات جهاز مشروعات الخدمة الوطنية في 1979 بقرار جمهوري ليمثل الواجهة القانونية للنشاط الاقتصادي للجيش، ليتحول الجيش منذ ذلك الحين إلي شركة تجارية ضخمة تهدف إلي الربح يديرها عدد من كبار القيادات العسكرية المضمون ولائهم سواء للطغمة الحاكمة أو حتيِ للمنظومة العالمية والتي يلعب فيها الكيان الصهيوني دورا محوريا، فتلك القيادات العسكرية التي وصل أعضائها في الأساس للمناصب القيادية بالتراتبية في الترقيات العسكرية والتى تم ربطها منذ توقيع اتفاقية السلام المشبوهة بالدورات التدريبية التي تمنح للضباط في الولايات المتحدة الأمريكية والتقارير التي تعدها أجهزة المخابرات الأمريكية عنهم من خلال التقييم في تلك الدورات والتي قد تسمح أو لا تسمح بأن يصل هذا او ذاك من الضباط لمنصب قيادي داخل المؤسسة العسكرية، الأمر الذي يفضي في النهاية إلي التأكد من وصول عناصر منتقاة بعناية فائقة ومضمون ولائها للطغمة الحاكمة ولمن ورائهم كما اسلفنا للمناصب القيادية العليا في المؤسسة العسكرية.

اصبح الجيش التاجر المحتكر الأول في كل شئ بعدد هائل من الشركات التي تصنع كل شئ من أول المعجنات والمياه المعدنية والمخبوزات وحتى كحك العيد والاسمنت والألبان والسيارات الفارهة، وبالطبع ينتج عن ذلك أرباح لا حصر لها وفى نفس الوقت فأن ميزانية الجيش وحجم نشاطه الاقتصادي من الاسرار العسكرية والغير خاضعة لأي جهة رقابية، ومن خلال أستخدام مجندين الخدمة العسكرية الإلزامية كعاملين بدون أجر أو بأجور رمزية والخاضعين أثناء عملهم في المنشأت الصناعية والتجارية للجيش لتعسف وجور القوانين العسكرية رغم عدم قيامهم بأي أعمال متصلة بالأعمال العسكرية، ما يجعل من عملهم أقرب إلى السُخره التي تم حفر قناة السويس من خلالها إبان حكم الخديوي اسماعيل، ليس ذلك فقط بل وأيضا باستخدام أحقر الوسائل الاحتكارية التي يمكن أن تتصور والتي كان منها افتعال ازمة لبن الاطفال في الأسواق لكي تتمكن شركة تابعة للجيش من الاستحواذ عليِ السوق واحتكار استيراد لبن الاطفال.

أضف إلي ذلك عدد هائل من النوادي والفنادق والمنتجعات الغير خاضعة بالطبع لأي شكل من أشكال الضرائب (7) والتي تقدم خدماتها للعسكريين بأسعار رمزية تقريبآ كنوع من أنواع الضمان الاجتماعي للعسكريين، لضمان رفاهيتهم ورفاهية عائلاتهم وذلك لفهم النظام العسكري واستيعابه أن ولاء الضباط له مرتبط بعزلهم عن ما يتجرعه أغلبية الشعب من بؤس وعوز بسبب سياسات الافقار الممنهج التي ينتهجها النظام وذلك هو الضمانة الأساسية لبقائه.

هكذا تحددت ملامح مسار تدجين شعب باكمله. كما استولى الجنرالات عبر قوة عمل الجنود على أرباح ونصيب هام من كعكة الانفتاح الاقتصادي.

تُقدر حصة الجيش بنحو 40% من حجم الاقتصاد المصري (8) ، وقد وصل هذا التوسع العملاق للنشاط الاقتصادي للجيش إلي ذروته بأصدار السيسي قانون يسمح للجيش بإنشاء شركات بمشاركة رأسمال أجنبي الأمر الذي يتيح للشركات العملاقة متعددة الجنسيات الدخول الي السوق المصري بمشاركة الجيش لنهب الاقتصاد المصري وإفقار المصريين(9).

يوضح ذلك لماذا وصفت الجيش في صدارة حديثي عنه بأنه ذروة سنام النظام الجمهوري وعموده الفقري، لأنه يمثل القويَ المادية الوحيدة التي تمتلك أدوات القمع من أسلحة ومعدات عسكرية تتيح لها التدخل العنيف لقمع أي تحرك شعبي يهدد سيطرتها ونفوذها في حالة لم تتمكن الشرطة من احتوائه، حدث ذلك في انتفاضة الخبز 1977 وفي انتفاضة الأمن المركزي 1987 وبالطبع كان التعبير الأمثل عن ذلك هو القمع الواسع الذي استخدم ضد ثورة 25 يناير 2011 وما تلاها من مجازر ممنهجة نفذتها قوات الجيش بكل أريحية (10)، بل حتى قيامها بأعمال دنيئة علي طريقة شبيحة بشار الاسد في سوريا مثل كشوف العذرية والتعذيب الممنهج (11)، وصولا لمشهد الإنقلاب العسكري الكامل على الثورة في يوليو 2013 وما صاحبها و تبعها من مجازر ممنهجة (12)، لم يكن الغرض منها هزيمة فصيل سياسي بعينه (الأخوان المسلمين) فقط بل كان الغرض الرئيسي منها هو اغراق المجتمع والثورة في الدم بل وتوثيق مشاهد القتل الجماعي وبثها في كل القنوات التلفزيونية بهدف ترويع المجتمع وإخضاعه بعد أن أعطت سنوات المد الثوري 2011-2012-2013 للقويِ الثورية وللمجتمع بشكل عام بعض المكتسبات من مساحات للتحرك ومنابر لنشر الأفكار مما سمح بهامش من الحرية لم يشهد المجتمع المصري مثله في تاريخه، هذا الهامش الذي سلب مرة أخرى وبشكل كلي على وقع صعود الثورة العسكرية المضادة التي قادها عبدالفتاح السيسي وزمرته العسكرية والتي كان الصوت الاعليِ فيها لدويِ الرصاص وصليل مجنزرات الجيش في الشوارع.

ولا يمكن فهم عدم تدخل الجيش منذ البداية بشكل حاسم لقمع انتفاضة يناير 2011 إلا على ضوء ثلاثة أسباب رئيسية:

ابب الأول هو سبب عسكري يرتبط باستراتيجية وقائية شائعة في معظم بلدان العالم الثالث محورها الرئيسى هو أن عدم الاحتفاظ بمعدات وقوات برية في المنطقة المركزية وتحديدا في العاصمة (القاهرة) يقي نظام الحكم من محاولات انقلاب قد يقوم بها ضباط مغامرين من الرتب المتوسطة أو حتى الدنيا، لذلك يقتصر التواجد العسكري في القاهرة على قوات الحرس الجمهوري وقوات نخبة من الوحدات الخاصة والمظليين بتسليح من خفيف لمتوسط، مما يعني من ناحية أن ميزان القوى يميل بشكل حاسم لصالح جماهير الثورة بحكم التفوق العددي الهائل الذي يعادل عنصر تفوق التسليح للحرس الجمهوري والقوات الخاصة وأيضا الروح المعنوية المرتفعة لعنان السماء لجماهير الثورة المقاتلة الخارجين للتو منتصرين من معركة أطاحوا فيها بجهاز الشرطة، ومن ناحية أخري فأن إندلاع المعارك في القاهرة بين الجماهير المقاتلة للثورة وقد استنشقت رئتيها نسيم الحرية الممزوج برائحة البارود والغاز المسيل للدموع من ناحية وبين الحرس الجمهوري وقوات النخبة المدافعين عن ديكتاتور بائس بلغ من العمر أرذله من ناحية أخري كان لا شك سيمثل ذلك حافزا قويا للشرفاء من الجنود والضباط من الرتب الدنيا والمتوسطة في الوحدات خارج القاهرة للانشقاق عن النظام وإعلان مناصرتهم للثورة وجماهيرها المقاتلة من ما كان يعني إمدادات من الذخائر والمعدات والقوات كانت كفيلة بحسم المعركة لصالح الثورة بشكل كامل وفي وقت قياسي.

السبب الثاني وهو سبب عسكري أيضا يرتبط بالسبب الأول لكن من زاوية أخري، وهو أنه وفي حال ما نجح النظام في استدعاء قوات من خارج القاهرة للدفاع عن نفسه وحسم المعركة لصالحة بعد هزيمة قوات الشرطة و انخراط قوات الحرس الجمهوري وقوات النخبة في قتال الجماهير الثائرة، فإنه بالأحري سيقوم باستدعاء قوات من الجيشين الثاني والثالث الميدانيين، وفي هذه الحالة وبانخراط قوات من وحدات الجيشين الثاني والثالث في القتال داخل القاهرة لقمع الثورة فإن ذلك كان سيترك تلك الوحدات بجبهة خلفية غير مؤمنة وهي جبهة المحافظات والمدن التي تقع فيها قيادات تلك الجيوش وتمركز قواتها الرئيسي، لا سيما وأن تلك المحافظات والمدن تمتد من بورسعيد شمالا مرورا بالإسماعيلية وحتي السويس جنوبا والتي شهدت جميعها انتفاضات جماهيرية ضد النظام مثل القاهرة والإسكندرية كما شهدت مواجهات مع جهاز الشرطة أدت إلى القضاء عليه في تلك المحافظات والمدن هي الأخرى ما يعني أن في حال ما منيت القوات التي استقدمت إلى القاهرة لقمع الثورة بهزيمة وتصاعد العنف فلن تتمكن حتى من الانسحاب إلى أماكن تمركزها الرئيسية وقد تبتلعها بأسلحتها ومعداتها أمواج الجماهير الثائرة الهادره ما قد ينبئ بتفلت زمام الأمور نهائياً من بين يد القيادات العسكرية، ولا ننسيَ أن أول شهيد في الثورة المصرية هو الشهيد مصطفي رجب (21 عام) قتل في السويس في مساء 25 يناير 2011 برصاص الشرطة واشتعال الموقف في محافظات والمدن القناه الي حدوده القسوي.

كل هذا كان يعني أن الدخول في مواجهة عسكرية مفتوحة بهذا الشكل في القاهرة وأمام حجم المشاركة الجماهيرية الهائل سواء في القاهرة أو في باقي محافظات الجمهورية كان سيؤدي وبلا شك إلى تجذير الحركة الجماهيرية بشكل أعمق بدلآ من وأدها والقضاء عليها، كما سيؤدي ذلك إلي توجيه غضب الجماهير في اتجاهه الصحيح وهو العداء السافر للمؤسسة العسكرية وقياداتها، هذا العداء الذي كان مقتصرا إلى ذلك الحين لدي الكثير من جماهير الثورة على حسني مبارك ونجله ووزرائه ومسؤليه وأعضاء حزبه (الحزب الوطني الديمقراطي)، الأمر الذي كان ينبئ بمواجهة غير محسوبة العواقب بالنسبة للقيادات العسكرية في ذلك الوقت، لا سيما إذا ما وضعنا في الاعتبار عنصر حاسم وهو انشقاق الشرفاء من العسكريين ممن سيرفضوا أن تلوث ايديهم بدماء ابناء جلدتهم والذين سيتخذون مواقف معادية لقياداتهم الخائنة ومناصرة للثورة وجماهيرها المقاتلة مما كان سيشكل ضربة قاسمة للنظام والقوات والمدافعة عنه.

السبب الثالث هو سبب سياسي في المقام الأول وله شقان الشق الأول هو أن جماهير الثورة المصرية لم يكن على أجندتها الاستيلاء على الحكم كما لم يوجد فصيل سياسي من الفصائل والأحزاب التي أعلنت دعمها للثورة يطرح نفسة كبديل للسلطة القائمة أو يعمل علي الاستيلاء على الحكم بقوة دفع الجماهير المنتفضة في الشوارع والميادين، أي أن الشعار الرئيسي الذي رفعته جماهير الثورة من اليوم الأول (الشعب يريد إسقاط النظام) تم تمييعه من قبل السياسيين الحزبيين واختزاله أو تحويره لشعار مطلبي هو (عيش - حرية - عدالة اجتماعية) ولم يطرح أي فصيل أو حزب سياسي القضية الأهم التي تواجة الثورة وهي قضية السلطة، من يستحوذ على السلطة، ففي خريطة الأحزاب المصرية من أقصي اليسار إلى أقصى اليمين لم يطلب أي حزب السلطة لنفسه بأسم الجماهير المنتفضة بل سعي قسم كبير من تلك الأحزاب للدخول في مفاوضات مع السلطة العسكرية وأكتفت باقي الأحزاب بالشجب والتنديد، ما يعني أن السلطة العسكرية التي زفرت بالسلطة السياسية مع تنحية مبارك في 11 فبراير 2011 لم تشعر بتهديد حقيقي لسلطتها عن طريق حزب سياسي ينازعها السلطة ويطرح نفسه كبديل لها بقوة دفع الجماهير المنتفضة، بل وجدت أحزاب وفصائل سياسية ترغب في التحالف وإبرام صفقات مع السلطة الجديدة تسمح لهم بتحقيق مكاسب وتوسيع نفوذهم كالإخوان المسلمين والأحزاب الليبرالية والناصرية والقومية ومن لم يتحالف مع السطة الجديدة كالاشتراكيين الثوريين لم يطرحوا أنفسهم كبديل للسلطة ولم يسعوا لأنتزاع السلطة بقوة الدفع الهائلة التي أوجدتها الثورة وعبر جماهيرها المنتفضة بل اكتفوا بأدانة التحالفات الجديدة الناشئة ودعم التحرك العفوي للجماهير دون تدخلهم بشكل واعي في المعركة الدائره بين السلطة الجديدة القديمة وبين جماهير الثورة بحجة النأي بالنفس عن المهالك والحماية الذاتية في موقف لا يمكن وصفه سوي بالانتهازية "النزيهة" بحسب بوصف فريدريك إنجلز في إنتقاد مشروع برنامج ارفورت (13)، ما يعني في محصلة الأمر أن القيادة العسكرية لم تشعر بالحاجة الى سحق الجماهير المنتفضة في الشوارع والميادين عسكرياً بل كان الأمر بالنسبة لها هو تطويق تلك الجماهير بالاحزاب العميلة التي ستتولي هي تفريقهم دون الحاجة الي التورط في معارك مفتوحة.

الشق السياسي الثاني هو الدافع أو الرغبة في خوض معارك عسكرية أو حسم الصراع عسكرياً لصالح النظام القديم (حسني مبارك وحاشيته) وهو يتمحور حول السؤال التالي: عن ماذا كانت ستدافع القيادة العسكرية في ذلك الحين لو تورطت في قتال الجماهير الثائرة التي أحتلت الشوارع والميادين وسحقت جهاز الشرطة، هل ستقاتل من أجل ديكتاتور طاعن في السن اعتزل الحكم منذ فترة وأوكل لابنه وزوجته إدارة شؤون الدولة؟… أم ستقاتل من أجل أبن الرئيس الذي كان يعد ليصبح وريث أبية لمقعد الرئاسة وهو القادم من خارج صفوف العسكريين بل والمتحلق حوله مجموعة من رجال الأعمال الذين يزاحمون المؤسسة العسكرية في النشاط الاقتصادي ويحدوا من نفوذها وسطوتها في هذا المجال ؟… الشاهد أن لم تكن هناك مصلحة حقيقية للقيادات العسكرية في قمع الجماهير وقتالها في ذلك الوقت بل العكس كان صحيح ففي مساء 28 يناير 2011 تلاقت مصالح القيادات العسكرية التي نشرت قواتها في الشوارع مع الجماهير التي كانت تحتل الشوارع هي الأخرى، فالجماهير كانت راغبة في الاطاحة بمبارك ونجله الذي كان يعد سيناريو التوريث من أجله وأيضاً القيادات العسكرية وتحديداً قيادات الصف الثاني كانت ترغب في ازاحة مبارك وقطع الطريق على نجله للوصول للرئاسة مما يسمح بالوصول أحد أفراد هذا الصف الثاني من القيادات العسكرية للمنصب الرفيع الأول في الدولة وهو منصب رئيس الجمهورية.

ما يعني أن إندلاع الانتفاضة في يناير 2011 وانتشار قوات الجيش في الشوارع رأت فيه قيادة المؤسسة العسكرية وبالتحديد قيادة الصف الثاني فرصة مواتية لإرغام مبارك الأب على التخلي عن سيناريو التوريث الذي كان يأمل فيه مبارك الابن، الأمر الذي كان يلبي الطموح الشخصي لهؤلاء القادة ويمنحهم فرصة الوصول لقمة هرم السلطة في مصر، بالشكل الذي وجد تعبيره الأمثل في شخص عبد الفتاح السيسي بدموية وانحطاط غير مشهودة، بالإضافة إلى ذلك وجدت المؤسسة العسكرية في الثورة المصرية فرصة مواتية أيضا لتعزيز سيطرتها الاقتصادية والسياسية على المشهد العام ككل، وهذا ما تشهد عليه واقع الأيام السوداء التي نحياها اليوم بعد مرور تسع سنوات علي اندلاع الثورة والسيطرة الكاملة للمؤسسة العسكرية على كافة مناحي الحياة في المجتمع.

يتبع…

1- سلامة كيلة، المسألة الفلسطينية (من سراب حل الدولتين إلى الدولة العلمانية الواحدة)، كتاب الهلال، دار الهلال 2017.
2- مجموعة باحثين، في تشريح الهزيمة: حرب يونيو 1967 بعد خمسين عاماً، دار المرايا للإنتاج الثقافي2017.
3- قتل المناضل الشيوعي شهدي عطية الشافعي تحت التعذيب في سجن أبى زعبل الذي كان معتقلا فيه مع 47 من رفاقه في 1959.
4- أحمد عبد الله رزة، الطلبة والسياسة في مصر، سيناء للنشر 1991.
5- يوجد مقطع فيديو مدته 4 دقائق على youtube بعنوان (المعني الحقيقي لكلمة عصابة) يرصد جزء من ترابط شبكة المصالح والمصاهرة التي تحدثت عنها، رابط الفيديو: https://www.youtube.com/watch?v=M9U1c579qb8&t=10s
6- أعلنت الثورة الفلسطينية المسلحة عام 1965 من منظمة التحرير الفلسطينية وخاضت معارك جبارة مع الصهاينة من كل دول الجوار الأردن، لبنان وسوريا ماعدا سيناء المصرية.
7- وفقاً لقرار وزير الدفاع رقم 68 لسنة 2015 بشأن إعفاء وحدات القوات المسلحة من الضرائب، الجريدة الرسمية.
8- تقرير منظمة الشفافية الدولية الصادر في مارس 2018، ويمكن مشاهدة نبذة عن التقرير في الرابط التالي: https://www.facebook.com/watch/?v=920643011393836
9- وفقاً لقرار رئيس الجمهورية بقانون رقم 446 لسنة 2015، الجريدة الرسمية.
10- مجزرة مجلس الوزراء والعباسية وماسبيرو ومسرح البالون.
11- أحد الضالعين الرئيسين في جرائم التعذيب وكشوف العذرية التي حدثت في المتحف المصري في 9 مارس 2011 والذي اعترف بإجرائها في مقابلة مع أمين منظمة العفو الدولية هو عبدالفتاح السيسي رئيس المخابرات الحربية والاستطلاع في تلك الفترة والرئيس المصري الحالي، راجع الروابط التالية: العفو الدولية: الجيش المصري أجبر فتيات على اختبار العذرية | DW
ضابط مصري:"اختبارات العذرية للمتظاهرات للتوقي من تهم الاغتصاب" | DW
12- مجزرة الحرس الجمهوري ورمسيس الثانية و ميداني رابعة والنهضة.
13- لينين، الدولة والثورة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيل تهاجم أردوغان.. أنقرة توقف التبادلات التجارية مع تل


.. ما دلالات استمرار فصائل المقاومة باستهداف محور نتساريم في غز




.. مواجهات بين مقاومين وجيش الاحتلال عقب محاصرة قوات إسرائيلية


.. قوات الأمن الأمريكية تمنع تغطية مؤتمر صحفي لطلاب معتصمين ضد




.. شاهد| قوات الاحتلال تستهدف منزلا بصاروخ في قرية دير الغصون ش