الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مصر الحديثة وصراع الهوية

عبدالجواد سيد
كاتب مصرى

(Abdelgawad Sayed)

2019 / 4 / 1
مواضيع وابحاث سياسية


مصر الحديثة وصراع الهوية
إن مقولة مصر العربية الإسلامية هى مقولة كاذبة ، فمصر فى الواقع بلد ذو قوميتين ، قبطية مسيحية ، وعربية إسلامية، ذلك أن الهويات لاتمحى بالقوة ولكن بالإختيار، كما أن العدد ليس هو العنصر الحاكم فيها، ولكن الكيف وعمق الشعور بالهوية ، ولذا فلم يمكن لطغيان القرون الوسطى وهويتها العربية الإسلامية أن يمحو الهوية القبطية المسيحية الأولى ، فمازال الإثنان فى صراع حتى اليوم.
كانت اللغة القبطية هى النسخة الأخيرة من اللغة الفرعونية القديمة بعد تفاعلها مع لغة اليونان الوافدين، كما جاءت المسيحية من فلسطين ، لكنها إستقرت فى مصر وأصبحت ديانتها الوطنية بدلاً من الديانات الوثنية القديمة، ومن الإثنين اللغة والديانة إستقرت الهوية المصرية القديمة فى شكلها الأخير، القبطى المسيحى، ودخلت مع السيد الرومانى ، الذى خلف يونان الإسكندر ، فى حروب حياة أو موت، ظاهرها المذهب وباطنها قومية فرعون ، مما دفعها للتساهل مع الغازى العربى الجديد نكاية فى الرومان.
لم يكن الغزو العربى غزواً بربرياً كما إعتدنا أن نقول ، فقد كان يحمل معه لغة ودين ، وقبائل جاءت للإستيطان وليس لمجرد النهب والرحيل ، ولذا فسرعان ما وجد الأقباط المسيحيون أنفسهم فى حروب فناء جديدة مع الغازى العربى الحليف وتابعيه الأتراك ، أكثر قسوة من تلك التى خاضوها ضد الرومان، إنطووا فيها على أنفسهم وتحصنوا بالكنيسة والأسقف، وبالحاكم المسلم أحياناً، وتناقصت أعدادهم وإنصهر كثير منهم فى هوية الإسلام الجديدة ، لكن هويتهم الأصلية لم تزول، فالهويات كما قلنا لاتزول بالقوة ولكن بالإختيار، ولإنه لم يكن من الممكن الإستغناء عنهم فى إدارة بلادهم وزراعتها وهم الأعرف بها، ولاعن الفنون والحرف والصناعات التى برعوا فيها عبر الزمن، فقد ظلت هويتهم محفوظة ولو فى قاع مجتمع القرون الوسطى بكل ماحمل معه من قوانين الغاب. إن قصة مصر فى العصور الوسطى الإسلامية أصبحت معروفة لنا الآن ، ولاتحتاج لمزيد من الإستطراد، ومثلها مثل قصص العصور الوسطى فى كل مكان، كانت عصور سيئة فى تاريخ الإنسان، لكن قصة صراع الهوية فى مصر الحديثة، ومثل مجمل قصة مصر الحديثة نفسها ، فقد إتخذت مساراً من الصعود والإنحدار ، ومازالت تحتاج إلى مزيد من التأمل والتفكير.
إنه من الخطأ ان نقول أن الحملة الفرنسية قد جاءت إلى مصر ورحلت ، فالواقع أنها لم ترحل أبداً، فلم يكن محمد على ، ومن خلف كواليس التاريخ ، سوى والى إختاره الفرنسيون بالتفاهم مع شيوخ الأزهر ، وهكذا كان رفاعة الطهطاوى من إختيار شيوخ الأزهر الموالين لفرنسا، ولم يكن مونج المشرف على البعثة العلمية المصرية فى باريس ، سوى مونج رئيس المجمع العلمى الذى شكله نابوليون فى مصر ، وكذلك الكولونيل سيف ، أو سليمان باشا الفرنساوى مؤسس الجيش المصرى ، وكلوت بك مؤسس القصر العينى ، وشامبليون مكتشف أسرار اللغة المصرية القديمة ، وديليسبس، مؤسس قناة السويس، وكل ماحملت معها من رياح التغيير، كانوا كلهم رجال فرنسا ، فلم يكن من الممكن أن يحل جيل الثورة الفرنسية على أرض مصر بقيادة نابوليون دون أن يحدث بها تغيير، إن أحداث التاريخ الكبرى هى التى تصنع حياة الأفراد والشعوب ، ولم تكن مصر الحديثة إستثناءً من قواعد التاريخ ، فقد ولدت مصر الحديثة فى الواقع من رحم عصر الثورة الفرنسية، ذلك الحدث الكبير فى تاريخ أوربا والعالم، وحتى بعد أن حل الإنجليز محل الفرنسيين، فقد ظلت مصر الحديثة فى مهب رياح نفس الحضارة ونفس المؤثرات التى هزت طبيعتها الإسلامية القروأوسطية هزاً شديداً . كذلك كانت سياسات أسرة محمد إستجابة لذلك العصر، عصر الدولة القومية العلمانية الأوربية، ومن هنا إلتقى الأقباط والمسلمون فى كل أوجه الحياة المصرية الجديدة، فقد أعفى سعيد الأقباط من الجزية وسمح لهم بدخول الجيش، وكذلك بحق تملك الأراضى الزراعية وتولى المناصب العامة الذى إزداد فى عهد إسماعيل، ومن تلك التوجهات ظهرت الطبقة الرأسمالية الزراعية المسلمة القبطية التى ساهمت فى وضع أسس مصر الحديثة وردم هوة صراع الهوية من خلال إلتقاء المصالح والفرص المتساوية، ومع التراكم الفكرى الغربى ونظم التعليم الغربية وتوافد الأوربيين على مصر، بدأت مصر الحديثة فى تشكيل هوية جدديدة جامعة لكل الهويات ، ليس فقط للمسلم والقبطى ولكن أيضاً للجاليات الأوربية التى جاءت للإستقرار والعيش بها بكثافة ملحوظة. وهكذا بدأت مصر الحديثة الليبرالية الكوزموبوليتان التى أحبها العالم فى الظهور. ولم يكن من الغريب أن يتفوق التيار القومى العلمانى على تيار الجامعة الإسلامية الذى قاده جمال الدين الأفغانى فى القرن التاسع عشر، ولا أن ينتهى الأمر عند ظهور الأحزاب السياسية فى بدايات القرن العشرين بتفوق حزب الوفد الليبرالى العلمانى على الحزب الوطنى الإسلامى العثمانى ، ولا بثورة 1919 تتصدرها صيحة عاش الهلال مع الصليب، فى لحظة تاريخية ضاق فيها صراع الهوية إلى أضيق الحدود . لم يستطع تيار الإسلام السياسى الذى أعلن عن نفسه فى حركة الإخوان المسلمين سنة 1928م ضرب تجربة العصر الليبرالى الوليد ولاضرب وحدة الهوية الجديدة لمصر الحديثة، لإن المعادلة ظلت كما هى، وكما إستطاع ذلك المجتمع الليبرالى الوليد التغلب على جمال الدين الأفغانى خلال القرن التاسع عشر ، فقد إستطاع التغلب على حسن البنا فى بدايات القرن العشرين ، ولكن الأمر إختلف مع ثورة يوليو القومية العربية سنة 1952م.
سار جمال عبدالناصر فى عكس الإتجاه الذى نشأت عليه مصر الحديثة، فأصحبت القومية المصرية عربية ، والرأسمالية إشتراكية، والديموقراطية إستبداد، وأصبح الشمال مصدر الإلهام مصدر العداوة، ورغم إن إصلاحاته الإشتراكية هى التى دعمت حكمه وأكسبته الشرعية فإن القضاء على دور رأس المال فى التنمية كان خطيئة، كما كان فرض القومية العربية بالقوة خطيئة ، فالقومية إختيار لايفرض بالقوة وقد تصالحت معه مصر الحديثة بالمصالحة والإختيار القبطى العربى وليس بلى الذراع ، كما كان القضاء على الديموقراطية لصالح الإستبداد خطيئة أخرى، أما إعتبار الشمال مركزاً للعداوة وليس للإلهام فكان فى الواقع أعظم الخطايا، وفى النهاية كان إنجاز جمال عبدالناصر الأكبر هو القضاء على العصر الليبرالى وتجريمه ، والخصم التام من حسابه ، دون أن يماثله خصماً مماثلاً من حساب الإسلام السياسى، الذى عاد للظهور بعد رحيله دون أن يجد من يقاومه على الطرف الآخر، سوى النظام العسكرى المهترئ الذى أسسه ناصر ، العاجز عن صراع الأفكار، والذى لايعرف سوى لغة البندقية. ومن هنا تحديداً بدأت رحلة صعود الإسلام السياسى السريعة ، تسانده عوامل أخرى، إقليمية ودولية ، مكنته من أن ينفرد بالساحة دون مقاومة ، ومنذ ذلك التاريخ وحتى اليوم ، بدأت الوحدة الوطنية فى التفكك والإنهيار، وبدأ صراع الهوية يشتد شراسة حتى وصل إلى أقصى نقطة إتساع له اليوم ، فمع فشل ثورة 30 يونيو فى جمع المصريين على هدف حياتى طال إنتظاره بسبب إستيلاء النظام العسكرى عليها لنفسه، راحت عوامل صراع الهوية الأيدولوجى تضرب الجسد المصرى بقوة أكبر، فإنحاز كثير من الأقباط إلى تحالف الأقليات الذى تتزعمه إيران ، وإنحاز الإخوان إلى تركيا ، والسلفيون إلى السعودية ، وظل تيار الإعتدال المسلم القبطى وحده تائهاً يبحث عن هوية. وإلى هذا الحزب الأخير نتوجه بكلمة الختام ، لاداعى للتوهان ، مصر الحديثة ليست فرعونية ولاإسلامية ، مصر الحديثة هى إبنة التنوير الأوربى ، بكل تراثه السياسى والفكرى ، مصر نابوليون ومحمد على وسعد زغلول وسلامة موسى وطه حسين، ومازلت ماثلة أمامنا فى التاريخ القريب، وعلينا أن نعيدها إلى مسارها الطبيعى مرة أخرى ، قبل أن تتفكك إلى هويات تقاتل بعضها البعض، مثلها مثل باقى دول الإقليم .
عبدالجواد سيد








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مراسلتنا: مقتل شخص في غارة استهدفت سيارة بمنطقة أبو الأسود ج


.. مشاهد جديدة من مكان الغارة التي استهدفت سيارة بمنطقة أبو الأ




.. صحفي إسرائيلي يدعو إلى مذبحة في غزة بسبب استمتاع سكانها على


.. هجوم واسع لحزب الله على قاعدة عين زيتيم بالجليل وصفارات الإن




.. شمس الكويتية تسب سياسيي العراق بسبب إشاعة زواجها من أحدهم