الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بين استراتيجيات الإصلاح النهضوي للشيخ وداعية الليبرالية، والنظريات التحديثية لداعية التقنية

فارس إيغو

2019 / 4 / 1
مواضيع وابحاث سياسية


يقول عبد الله العروي في الفصل الأول من كتابه الشهير "الأيديولوجية العربية المعاصرة" (1)، تحت عنوان "ثلاث شخصيات وثلاثة تعريفات": يمكن أن نميز ضمن الأيديولوجية العربية المعاصرة ثلاثة تيارات أساسية. يفترض التيار الأول أن أم المشكلات في المجتمع العربي الحديث تتعلق بالعقيدة الدينية ويمثله الشيخ ـ الإمام محمد عبده داعية الإصلاح الديني (1849 ـ 1905)، والثاني بالتنظيم السياسي ومثله داعية الليبرالية السياسية والتخلص من الاستبداد أحمد لطفي السيد (1872 ـ 1963)، والثالث يفترض أن هذه المشكلات تتعلق بالنشاط العلمي الصناعي ويمثله داعية التقنية والنزعة الوضعانية سلامة موسى (1878 ـ 1958) الذي دعا الى التصنيع والنظرة العلموية، باختصار الى أن التنمية هي الحل الذي سيؤدي الى إدخالنا في العصر؛ بمعنى آخر، الدخول الى عالم الممارسة مباشرة دون التلكؤ في النظريات والأيديولوجيات وصراعات الأفكار، وبمعنى ما هو يمثل الفكر الماركسي في أن التغير الذي سوف يطرأ في العوالم الإنتاجية، أي في الزمن المادي، سوف تحدث تغيراً على مستوى الوعي والأفكار، وليس العكس. وبلغة ماركسية: لقد إكتفى الفلاسفة بتفسير العالم، وقد آن الأوان لتغييره (الأطروحة 11 على فلسفة فويرباخ). وهذا الأخير هو الذي انتصر مع بداية الخمسينيات في القاهرة (1952)، بغداد (1958)، دمشق (1963)، صنعاء (1962)، ثم في عقد لاحق في الجزائر العاصمة (1965) وطرابلس الغرب (1969) والخرطوم (1970)، عدن (1970).
إن مقاربة التقنوقراطي، فهي مقاربة لا ترى الأنوار إلا من خلال تجلياتها المادية، مؤسسات وتكنولوجيا وتصنيع ومكننة زراعية، أي نتاجات ومنتوجات الحداثة العلمية وتطبيقاتها التكنولوجية، واعتبار الفكر والفلسفة والعلوم الإنسانية ترفاً فكرياً لا طائل منه للحاق السريع بالدول الصناعية المتقدمة، أي إن ما يهم التقنوقراطي في الغرب ليس هذا الجانب الأنواري في الحضارة الجديدة الذي يعود الى القرن السابع والثامن عشر، إنما ما أفرزه المجتمع الصناعي في أوروبا في القرن التاسع عشر.
وقد شهد العالم العربي في النصف الثاني من القرن الماضي صعود المد الاشتراكي في العالم وسادت في الخمسينيات والستينيات منه نظريات التحديث (الرأسمالية) ونظريات التبعية (العالم ثالثية والماركسية)، وهي تلتقي رغم إختلافات منازعها ومشاربها الأيديولوجية في النظرة الاقتصادية لعملية التنمية. واعتبرت الأحزاب الثورية الصاعدة في العالم العربي التنمية الموجهة والمخططة مركزياً من قبل السلطة أكثر إلحاحاً من الديموقراطية، فعُطلت الحياة السياسية والثقافية لصالح تعبئة كل إمكانيات الدولة والمجتمع لتحقيق غايات التنمية، فالتنمية في عرف هؤلاء القادة والأحزاب هي علة الديموقراطية، والنتيجة: خسرت الشعوب العربية المعنية كل شيئ، فلا التنمية أتت ولم تربح الشعوب الديموقراطية والحريات، وبقي الاستبداد فوق الرؤوس حتى جاءت رياح الربيع العربي العاتية، فاقتلعت ما استطاعت أن تقتلعه من نظم سلطوية فاسدة، دون حلول أنظمة بديلة ديموقراطية ـ باستثناء تونس ذات التاريخ الإصلاحي العريق.
بينما سادت في المغرب وتونس استراتيجية مزجت ما بين داعية الإصلاح الديني والسياسي الليبرالي، أي بين الشيخ محمد عبده وأحمد لطفي السيد، وهذه الخلطة الذكية هي التي بدأت تعطي ثمارها في تونس والمغرب، ممثلة بالتجربة المغربية الرائدة والتجربة التونسية الواعدة.
في السنوات الأخيرة، دخلنا في تونس والمغرب في علاقة مختلفة مع السياسي لم تكن لدينا في السابق؛ السياسي بالنسبة الينا كان مقترناً بالمقدس، وهناك فوبيا في العلاقة مع الحاكم أي كان مستواه، وهي وتمثُل خاطئ حول الفعل السياسي بما هو فعل له علاقة بالحياة المدنية أو ما يسمى بـ "المجال العمومي". لكن لا يبدو أن السياسة مورست بهذا الشكل المدني طوال مرحلة علّمت ذاكرتنا الجماعية.
إن رفع القداسة عن السياسي والفعل السياسي هو من شروط الحداثة السياسية، وإعادة الإعتبار للذات، ومن دونه لا يمكن الحديث عن ساحة عمومية، فالساحة العمومية التي نعيش فيها اليوم هي ساحة لا مدنية، حتى في المغرب وتونس هي ساحة في قيد البناء وليست منجزة، بل هي ما زالت هشة وتعترضها عواصف شديدة من أهمها: العدالة الاجتماعية والاقتصاد المتعثر والفساد الحكومي.
بينما الساحة العمومية في البلاد العربية الأخرى، خارج أجندات العمل السياسي، حتى في بلدان مثل العراق ولبنان تخلصت من السيطرة المباشرة للاستبداد.
حول الأوضاع في المغرب وتونس والإنفتاح السياسي الحاصل اليوم، وحكومات التناوب بين الإسلاميين والليبراليين والإشتراكيين والتوافقات الحاصلة بينهم، يقولون بوجود دينامية مغاربية خاصة بالمغرب وتونس (وعلى الأرجح الجزائر في طريقها للإلتحاق بهذا الباراديغم المغاربي) (2)، وهذه الدينامية الإنفتاحية لا يمكن أن ترد فقط الى الجانب السياسي، بل الى دور كبير تلعبه الفلسفة والجامعات في تونس والمغرب، وخصوصاً معاهد العلوم الإنسانية، التي كان لها دورها في تأهيل نخب كافية وجهت النظر الفكري والثقافي في إتجاهات عقلانية وتنويرية، وشكلت حضوراً بارزاً في تونس والمغرب. واليوم يعتبر الفلاسفة المغاربة والتوانسة هم الأكثر حضوراً في المشهد الثقافي العربي، وقد رسخوا في ثقافة هذين البلدين فكرة الإنفتاح، وتقبل الآخر، مما شكل أحد الركائز الأساسية لتلك النهضة السياسية في هذين البلدين، بالمقارنة مع البلدان العربية الأخرى.
ولا ننسى أن الفلسفة العربية الإسلامية استمرت مزدهرة بعد توقفها في المشرق بعد صدور "الإعتقاد القادري" عام 420 هـ/1030 م، وظهر في الغرب الإسلامي ثلاثة فلاسفة كبار هم: ابن باجة صاحب "تدبير المتوحد"، وابن طفيل صاحب أول رواية فلسفية تتكلم عن التطور العقلي للإنسان "حي بن يقظان"، ومن ثم الشارح الكبير ابن رشد الذي بوفاته توقف التفكير الفلسفي تماماً عن الإنتاج في كل أصقاع الإمبراطورية الإسلامية.
إن المغرب يمر بأزمة تغير إجتماعية وتنمية وحداثة، والحراك السلمي مؤشر على نضج المجتمع المغربي وأيضاً على نضج المجتمع المدني، ونضج السلطة المغربية. إن التظاهرات التي حدثت في أثر الربيع العربي في المغرب وسميت بحراك 20 فبراير 2011، ثم الحراكات المطلبية، وأخيراً حراك الريف، وكلها تجري بصورة سلمية مما يعبر عن نضج واضح في تعامل السلطة مع هذه الحراكات، فالاعتقالات محدودة، والمغرب يسير ببطء ولكن بثقة نحو الخروج من المجتمع الأحادي ذو السلطة التي تفرض رؤيتها على الجميع، الى مجتمع يحاول وبصعوبة أن يدير التعدد والاختلاف، وذلك ملتحقاً بتونس التي تتصدر كل العناوين في الإنتقال نحو المجتمع الديموقراطي والثقافة الديموقراطية في العالم العربي.
من يتابع الصراع الجاري في تونس والمغرب يدرك أنه في هذين البلدين يجري بناء هذا النمط من العيش الديموقراطي، لبنة لبنة، وخلال مراحل واستحقاقات ومحطات أساسية، كل محطة منها تحتاج نقاش عمومي مستفيض وطويل للوصول الى التوافقات الضرورية لإستمرار بناء الصرح الديموقراطي كثقافة وكنمط عيش مشترك، نحو مغرب كبير يدفع نحو الدمقرطة والحريات والعدالة، وما حدث في الجزائر في الأيام الأخيرة مع إنتفاضة الشعب الجزائري من أجل جمهورية ثانية في الجزائر تحترم حقوق وحريات المواطنين إلا مؤشر آخر على تلك المسيرة الصعبة والمؤلمة في إتجاه عالم مغاربي يخرج من الاستبداد والاستعباد.
(1) صدر الكتاب لأول مرة باللغة الفرنسية عام 1967، وقد تمت ترجمته الى اللغة العربية بعد سنوات قليلة، لكن هذه الترجمة اعتبرها العروي تتضمن أخطاءاً كثيرة، وقد قام العروي بنفسه بمهمة ترجمة الكتاب الى العربية عام 1995، وهي من إصدارات المركز الثقافي العربي في الدار البيضاء ـ المغرب.
(2) ويبدو أن قرار الرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز بعدم الترشح لولاية أخرى هي مؤشر على بداية تحول ديموقراطي حقيقي في موريتانيا، إن كانت الأمور لم تزل بحاجة لظهور مؤشرات أخرى تؤكد هذا الإتجاه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الصين تحذّر واشنطن من تزايد وتراكم العوامل السلبية في العلاق


.. شيعة البحرين.. أغلبية في العدد وأقلية في الحقوق؟




.. طلبنا الحوار فأرسلوا لنا الشرطة.. طالب جامعي داعم للقضية الف


.. غزة: تحركات الجامعات الأميركية تحدٍ انتخابي لبايدن وتذكير بح




.. مفاوضات التهدئة.. وفد مصري في تل أبيب وحديث عن مرونة إسرائيل