الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-أيام الإمام / البشارة-، أو قلقُ الذّات في مرآةِ التَّاريخِ

أسامة عرابي
(Osama Shehata Orabi Mahmoud)

2019 / 4 / 6
الادب والفن


"أيام الإمام / البشارة"، أو قلقُ الذَّاتِ في مرآةِ التَّاريخ
أسامة عرابي
عن دار إيزيس للإبداع والثقافة – كتاب المرسم الإبداعي الذي يشرف عليه الروائي والفنان التشكيلي أحمد الجنايني،ورئيس أتلييه القاهرة "منتدى الأدباء والفنانين والمثقفين المصريين" ، صدرت الرواية الأولى للكاتب المصري المتميز عاطف عبد الرحمن ، بعد ثماني مسرحيات ، وستة كتب لمسرح الطفل ، وستة أعمال للإذاعة تضمُّ مسلسليْن وبرنامجيْن درامييْن وسهرة إذاعية وسباعية ، بالإضافة إلى كتاب للتلفزيون المصري دعاه باسم "بلاد الحواديت"، بالإضافة إلى روايتيْه "ليالي عزبة البوهي، والتاسوع".. الأمر الذي يشي باهتماماته المتعددة ، وغنى شواغله المعرفية والفنية والجمالية . فما الذي يشير إليه عنوان الرواية بوصفه عتبة أولى، أو جسرًا بين الصمت والكلام ؟
إنها الأيام التي عاش بين ظهرانيها سعيد سالم مقيمًا في إحدى مقابر الإمام الشافعي ، أو تُرَب الإمام كما يطلق عليها سكانها، وفيها يحيا الناس في أحواش داخل المقابر، وذلك إثر انتقاله من المنصورة التي عمل في إحدى مديرياتها باحثًا قانونيًّا ، إلى الإدارة القانونية في ديوان عام الوزارة بالقاهرة ، بعد أن اكتشف رئيسه أن ما ( بينه وبين موادِّ القانون التي درسها يوازي علاقته بالكيمياء التي لم يدرُسْها ) وفق تعبيره. وفي أثناء هبوطه محطة رمسيس ، جمعته الصدفة المحضة بأحد معارفه القدامى الذي كان قد التقى به من فور نزوله إلى "مدينة الفوضى والأحلام " .. القاهرة ، وغاب اسمه عن ذهنه ، ليكتشف فيما بعد عبر صلاح السمان صاحب الحوش والحجرة التي أقام فيها بعد وفاة أمه ، أن اسمه سليمان الريس.. شاعر الشعب، على الرغم من أنه هو الذي قاده إلى تلكم المنطقة القاسية المحيطة بمسجد الإمام الشافعي العتيق التي تسبَّبت في كسر قدم كاتبنا الكبير إبراهيم عبد القادر المازني يومًا، ليستقرَّ بها مثله بين أمواج متلاطمة من البشر المسحوقين الذين يقبعون في قاع المدينة مشكِّلين تجمعًا بالغ التعقيد يضمُّ العناصر الرَّثة المعدمة كليًّا والفقراء الذين لا يستطيعون تأمين لقمة عيشهم وفئات الموظفين والمستخدمين ذوي الأجور المنخفضة وعمال المصانع من القطاع غير المعلن، بل بعض عناصر البرجوازية الصغيرة كبائعي المفرق مثلًا الذي يُعدُّ الكثيرون منهم – في الوقت ذاته- عمالًا متنوعين ومياومين يعيشون على ما يحصلون عليه من أجور عرضية غير ثابتة .
وقد استطاع عاطف عبد الرحمن أنْ يجوسَ بعيدًا في أحشاء عالم هؤلاء المهمشين ، وما يرين على حياتهم من انعدامٍ للتجانس والاستقرار الاجتماعييْن والنفسييْن مما يولّده الفقر واليأس وخيبة الأمل ونمو روح عدم الثقة بالمستقبل. ونجح كاتبُنا في تسليط الأضواء على مجمل التيارات والاتجاهات التي تتسم بها شرائح المدن الدنيا هذه ومن بينها الفوضوية بذاتيتها الحيوانية تقريبًا وعبادة الحرية المطلقة التي تتحوَّل أكثر ما تتحول إلى تعطشٍ للعنف والتدمير، ورفضها الأعمى لأيٍّ من النظم الاجتماعية التي يمكن إدراكُ عدم عدالتها بشكل سطحي وضبابي وعدم اعتدادها بالدولة. كما طالعناه ، مثلًا، في مشاهد المعركة التي دارت رحاها بين اللاعبين والمتفرجين حول لعبة سيجة ، استخدمت فيها الأيدي والأسلحة البيضاء الخفيفة كمطاوي قرن الغزال، بالإضافة إلى سيف كان مختبئًا داخل إحدى الأشجار الجافة الهزيلة ، لينتهي الأمر بصاحبه إلى صرعه به ، بدلًا من قتل غريمه به ، ثم يُحفظ محضر التحقيق "مثل كل مرَّة" ويُدوَّن عليه ضد مجهول ، بعد أن تأتي الحكومة – وهي التسمية التي يُطلقها البسطاء على البوليس – وتسأل كل من تقابله وينكر الجميع "أنهم شاهدوا أي شيء" ، وتفتح "قهوة كتكوت" ثانيةً بعد مرور يومٍ أو يوميْن ، ويعود كل شيء كما كان. وهنا تعمد الرواية إلى الكشف عمَّا يسم التدين الشعبي من تباينٍ وامتدادٍ بينه وبين أنماط السلوك الأخرى لجهة ضبط السلوكيات ، وتحوُّلِها إلى معايير وقيم قياسية في عمليات التقويم والحكم على الأشياء ، كما رأيناه في دهشة صلاح السمان من اقتراح سعيد سالم بالمناداة على سليمان الريس في غرفته ، قائلًا له باستنكار : ننادي ! فأدرك سعيد " المعنى الذي يقصده وهو الخطأ أن ترتفع أصواتنا بالنداء وسط هؤلاء الأموات .. ودهشت لهذا التناقض .. كلّ مظاهر صخب الحياة موجودة وسط المقابر ، ولكن حين ننادي فإننا يجب ألَّا نفعل ذلك " ! أو أن تقدِّم "قهوة كتكوت" لروادها الحشيش والبانجو ، وتعرض لهم أفلام البورنو، لكنها تُحجم عن تقديم البيرة والخمور لأنهما محرمان.. وظلَّ " كتكوت" يعامل سعيدًا بجفاء فترة غير قصيرة ؛ لأنه تجاسر وسأله عنهما ، فردَّ عليه بقوله : "إلَّا الخمرة يا بيه .. دي حرام ، واحنا في وسط حرمة الموتى .. إنت عاوزنا نروح من ربنا فين؟".
وبذلك يُزيح عاطف عبد الرحمن النقاب عن أن الوعي والسلوك الدينييْن لدى أفراد الفئات الهامشية لا يزالان معطًى مجتمعيًّا نفسيًّا ومكوِّنًا من تقاليدها الثقافية والحياتية، ولم يصل بعدُ إلى أن يتحوَّل إلى عامل تحريض وأدلجة وتفعيل سياسي .
لكن من بين ركام التشوُّه الاجتماعي والاغتراب وتدني الوعي وسلم القيم المرتبط به، يبرز "الوعي الشعبي الجمعي" من مكانٍ ما قصيٍّ بوصفه قوة فاعلة تُعينُ على الحضور في العالم ، في مواجهة الوعي الزائف الذي يسوِّغ لصاحبه الاستخدام الأداتي للعقل والوقوع في شَرك حالة فصامية تُفقده البوصلة الهادية. ومن ثمَّ ؛ يلعب "الوعي الشعبي الجمعي" دور الحارس للقيم المؤسِّسة لوجود الإنسان، والخالقة لمعناه بتحريرها ملكات الروح الرمزية وعمق البُنى السيكولوجية له. وهو ما دفع سعيد سالم إلى أن يتساءل عن ماهية أم آمال ومصادر تكوينها وعافيتها النفسية وجهاز مناعتها القوي الذي مكنها من الصمود والتصدي في مواجهة أعتى الظروف، وأن تحافظ على نقائها فلا تستوطنها ثقافة البؤس والتنابذ وغياب الحسِّ الجماعي. يقول سعيد سالم :" أي كائن هذه السيدة ؟ كيف وقفت وهي بنت صغيرة تُوفيَ زوجُها بمفردها في مواجهة هذا المجتمع الذي يعيش في المقابر؟ كيف تكوَّنت لها هذه القوة التي تستطيع أن تسيطر بها على المجتمع ؟ وكيف استطاعت أن تكوِّن هذه الحصيلة من المعرفة .. المعرفة التي تمكنها من التمييز بين الأخيار والأشرار؟ وكيف اختارت أن تكون في هذا النسق من الناس ، مع أن الناس من نسق زوجة عبد البر هم الذين يسودون في هذه الأيام .. سواء كانوا رجالًا أو نساء ؟ لماذا اختارت أن تقف إلى جوار القيم الصحيحة ؟ وكيف تستطيع أن تدير حياتها بلا معين ؟ كيف أوقفتني في اللحظة الفاصلة ما بين فعل قد أندم عليه وحوَّلته إلى فعل مقاوم بداخلي ؟". بل إن "العقل الشعبي الجمعي" هو الذي أثار ثائرة أم آمال على صلاح السمان الذي انساق وراء غوايات "كيت" الإسرائيلية التي أحكمت قبضتها عليه، وداعبت أحلامه في السفر "إلى بلاد أجنبية علَّه يجد فيها بحبوحة من العيش ومشاهدة ما يراه في الأفلام الأجنبية التي يعرضها تلفزيون قهوة كتكوت يوميًّا". وهنا يُلمح سعيد سالم إلى دور هذا الوعي الشعبي الجمعي في الحفاظ على الشخصية الوطنية المصرية ، من خلال تجذُّرها الحضاري في عمق الزمن ، وحضور التاريخ الملموس في عقلها ومخيلتها ؛ ليكتسب تجسُّده في استجابات الأفراد المتعددة المتنوعة ، وعلى نحو يجعل المرء واعيًا أشدَّ الوعي بموقعه في الزمن . لهذا لن تنسى أمُّ آمال أو حورية أن والدها كان أحد الجنود الذين استشهدوا في حرب السادس من أكتوبر عام 1973، وهي بعدُ جنينٌ في بطن أمها؛ لتخرج إلى الدنيا عقب الحرب بأشهر معدودات. ولن يبرح ذاكرتَها مصرعُ زوجها الجنايني الذي عمل لفترة من حياته بالقوات المسلحة قبل أن ُيسَرَّح منها عقب حرب اليمن، على يد أحد خبراء الصهاينة الذين استقدمهم صاحب المنزل أو صاحب العزبة التي يعمل بها لتعليم المصريين فنون الزراعة ؛ فاستهجن هذا الأمر : "إذ كيف سيعمل تحت إمرة إسرائيليين؟ وكيف له أن يقبل أن يعلّمه هؤلاء الزراعة التي ورثها في دمه عن جدوده لسبعة آلاف سنة مضت؟ وذات يوم تشاجر مع أحدهم حول طرق الزراعة ، وحاول ضربه بالفأس ، فما كان من الخبير الصهيوني إلا أن صدمه بالسيارة ، وسار على جثته بضع مرَّات للتأكُّد من أنه قد مات". وبذلك استطاع سعيد سالم أن يدرك بجلاء" كم عانت أم آمال من هؤلاء الإسرائيليين الذين سلبوها من وجهة نظرها كلَّ شيء .. الأب .. وميراثه .. والزوج.. وتركوها وحيدة هنا في غرفة داخل أحد أحواش المقابر.. تواجه الحياة بكلِّ ما فيها ، وهي لم تبلغْ بعدُ عامها الرابع عشر ..كان هذا منذ ما يقرب من عشرين عامًا.. لكن السؤال الذي ظلّلتُ أبحث عن إجابة له ولم تُردْ هي الخوض في تفاصيله : كيف أمكن لها وحيدة .. أن تبقى على قيد الحياة طيلة هذه الفترة ؟ إضافة إلى آلاف الأسئلة الأخرى التي يمكن أن تتعلَّق بهذه الفترة .. الفترة التي كوَّنت أم آمال التي أراها الآن أمامي ..". وبذلك تُمسي الشخصية الشعبية هنا بطاقاتها الحيوية المحرِّرة وبصلابتها وقوتها العصيتيْن على الاختفاء والتلاشي والتذويب ، تُمسي معادلًا موضوعيًّا لوجود إنساني جماعي حرّ يأبى الإرغام والسيطرة ، وينهض على التعالق والتواشج والخبرات الحية المتراكمة ؛ إذ الأفراد يمتلكون معرفة عملية بالعالم يستثمرونها في نشاطاتهم الإنسانية وممارساتهم البشرية التي تحدِّد الإكراهات الخارجية المؤثرة في التفاعلات والتمثلات . لهذا كان من الطبيعي أن يلتقي رأي سليمان الريس شاعر الشعب الذي يرتدي كوفية حمراء تتدلى من عنقه مُذيلة بعلم فلسطين، في كيت الإسرائيلية ، وأنها "بنت مش طبيعية أي مريبة ومشبوهة ، تقعد ع القهوة هنا وتحطّ عينها على واحد وتحاول تتصاحب عليه "، مع نفور أمِّ آمال منها وغضبها على صلاح السمان الذي قالت له بحدَّة وحسم : " إسرائيلية ؟ ماعادش ناقص إلا ده كمان"، بعد أن وعت وحفظت "كلّ ما تتوارثه الأجيال عن سيطرة اليهود على المال والسلطة والأفعال اللاإنسانية". ومن ثم ؛ بذل سعيد سالم جهدًا خارقًا في هذه الليلة لإقناعها بتغيير موقفها من صلاح "بعد أن أخرج من رأسه فكرة السفر إلى تل أبيب أو إلى أي مكان آخر ومزَّق الخطابات". وقد اعترف سليمان الريس لسعيد سالم أنه كان أول "من قال إن البنت دي إسرائيلية وإن عندها إيدز، وقد حاول تحذير صلاح منها، لكنه لم يعرْه اهتمامًا، إلا أنه حذَّر الموجودين في المقهى منها، وكان ذلك بناء على تخمينات أو شعور داخلي ينتابه، ولكنه الآن وبعد أن وضحت الحقيقة أمامه ومن خلال خطابات كيت نفسها، فقد قرَّر سليمان أن يواجه الأمر ويفضحها بناء على خطاباتها التي كتبتها بخطّ يدها.. وكاد ذلك أن يُحدث مشكلة ما بين الفتاة من ناحية ، وصاحب المقهى وسليمان من ناحية أخرى، وأوشكت الأمور أن تتطور وتأخذ أبعادًا أخرى، إلا أن الفتاة أمام الخطابات التي وضعها سليمان أمامها.. آثرت الابتعاد متعهدةً بألَّا تعود إلى هذا المكان مرة أخرى". وراح سليمان يربط بين حادثة كيت ومحاولات السفير الإسرائيلي إلياهو بن إليسار الذي كان مدير مكتب الإرهابي مناحم بيجن رئيس وزراء إسرائيل الأسبق، لقاء المثقفين المصريين وتطبيع العلاقات معهم. فلم يجد النظام الساداتي غير حفنة من مثقفي الدرجة العاشرة يقبلون الجلوس معه. لكنه ما إن رآهم وعرف قدرهم، حتى رفض معلنًا أنه ينشد لقاء الكتَّاب الحقيقيين من طراز نجيب محفوظ ويوسف إدريس وسواهما، فعلَّق أحدهم بمرارة :" حتى بعد ما بعنا شرفنا الوطني مش عاجبهم "! وبهذا فشل لقاء مقهى ريش ( فيه ناس ساعتها رفضت مجرد فكرة وجودها معاه في مكان واحد ونقلت على القهوة هنا.. – يقصد مقهى زهرة البستان عمق ريش الإستراتيجي - وفيه ناس قالت تقعد تشوف هوه عاوز إيه .. اتكلموا معاه شوية .. لكن بعدها هُمَّه كمان ماجوش ريش؛ اللي راح على "علي بابا" ، واللي راح "إيزافيتش".. واللي فضل هنا.. فضل بس في القهوة هنا.. وريش بقت زي ما انت شايف ). لكن سليمان الريس شاعر الشعب وذاكرة الوطن كما وصفه سعيد سالم بحق، يدرك أن إسرائيل مشروع استعماري لن يهدأ ولن يتوقف عند حدّ ، وأن كيت لن تترك صلاح السمان وستستخدمه في شراء أحد العقارات القديمة في شارع البستان؛ ومن ثمَّ شراء المساكن التي غادرها اليهود قبل هجرتهم من مصر إلى إسرائيل لإيجاد موطئ قدم لهم في بلادنا.
وبذلك تُميط رواية "أيام الإمام / البشارة" اللثام عن محاولات الاختراق التي ينهض بها عدونا الصهيوني تجاه مثقفينا، في توازٍ مع التحوُّلات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي أصابت بنية الحياة في مصر، مسترشدة بنموذج النيوليبرالية الأمريكية المحتكم إلى منطق السوق الحرة وقوانينها ؛ مما أدى إلى ( أننا لا نأكل من الطعام إلَّا ما يصلح للتصدير، أي ما يرفضه أبناء الشعوب الأخرى )، وتحققت نبوءة نجلاء زميلة سعيد سالم بانتشار( مراكز الكُلى التي ستكون في خلال سنوات قليلة في كل قرية ، وفي كل مدينة ، وفي كل محافظة ) من جرَّاء تلوث مياه الشرب، فضلًا عن قيام أصحاب الفدادين الخمسة التي وُزِّعت عليهم بموجب قوانين الإصلاح الزراعي ببيعها؛ نتيجة مطاردات بنوك التسليف والتنمية الزراعية لهم بالمديونيات. ومن ثمَّ ؛ قامت أسرة سعيد سالم ( كبيرة العدد ببيع قراريطها الثلاثة ونصف لصالح الورثة، والإنفاق على توزيع أنصبة الأولاد لصالح زواج البنات)، وأكمل سعيد تعليمه بالعمل ليلًا في بعض المهن التي أكسبته خبرة لم يستفد منها. من هنا ؛ يكشف هذا التوازي والتلازم بين فرض التطبيع من جهة، وبين تجريف البُنى المصرية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، يكشف عن استراتيجية المصالح الجيو- سياسية الأمريكية وسياسات مؤسسات بريتون وودز ومجموعة البنك وصندوق النقد الدولييْن لإجماع ما بعد واشنطون. لهذا تغدو ظاهرة التهميش التي تحياها منطقة الإمام الشافعي عَرَضًا لحُزمةٍ من السياسات النيوليبرالية التي أفضت إلى تراجع دور الدولة، وصعود طبقة اجتماعية جديدة ارتبطت ثرواتها الحديثة بخصخصة مرافق الدولة وبتحرير الاقتصاد وارتفاع معدلات الفقر والبطالة.
لكن يبزغ من بين رماد القيم السياسية والأخلاقية التي أفرزها عهد الانفتاح غير السعيد ( مثل نموذج زوجة عبد البر التي تُصرُّ على أن تقف بقميص نوم أحمر شفاف يكشف عن جسدها أكثر مما يستر؛ مغازلةً الرجال وطالبي المتعة الرخيصة ) يبزغ نموذجُ أمِّ آمال بوصفها ضميرًا حيًّا وشاهدًا على إشعاع قيم مصرية أصيلة أريدَ تغييبُها وطمسُها في هذا العصر الانبطاحي، وضابطة لإيقاع الحالة المصرية بأبعادها المعنوية والأخلاقية والروحية والجمالية وفتحها على احتمالات قصوى، كما تجلّى في استنكارها سلوك زوجة عبد البر في التلسين على نساء الحوش الشريفات، ولكنها مع ذلك رفضت التشهير بها، واكتفت بالعلقة الساخنة التي أعادتها إلى صوابها المفقود.. وغضبها من سعيد سالم حين تناول المخدر عند عبد البر وزوجه، قائلة له بحدة : زي ما أنا فاكراك راجل .. خليك راجل .. فاهم ؟ راجل، ثم ضربته بيدها على كتفه وكأنها تختبر رجولته.. ألم تضربْ سُليمان الريس قبله عندما علمت بعلاقته بزوجة عبد البر؛ لأن "الشرف عندها حاجة كبيرة قوي" على حد تعبيره.. وتقاطع صلاح السمان حين عرفت علاقته بكيت الإسرائيلية، ثم صفحها عنه عندما وعدها بإغلاق ملفها نهائيًّا.. وانتقامها من الرجل النحيف الذي أهان جسد زوجه حتى بدت وكأنها شُرِّحت بموسى من شدة النزف، وإصرارها على ألَّا يبيت ليلته في غرفته عقابًا له... إلخ ؟ بَيْدَ أن أمَّ آمال عززت حضورها الفاغم القوي "بقوة المعلومات" التي حصلت عليها من عملها السابق بوصفها "أباظية" ( فحافظت عليها ولم تحاولْ أن تبوح بها، لكنها كانت تستخدمها أحيانًا عندما تشرع في تأديب امرأة. ولهذا كان الرجال يلجئون إليها وهم على علمٍ بأنه لا توجد امرأة تستطيع أن تقاوم أمَّ آمال. ومع الوقت ازدادت قوتُها وفرضتها على الرجال. ولهذا لا يستطيع أحدٌ هنا أن يردَّ طلبًا إلا بإرادتها). وهنا تُعين قوة المعلومات أم آمال على إشاعة العدل وضبط المعادلة بين الفردي والجمعي دون تسلّط ولا ابتزاز.
وقد حمل عاطف عبدالرحمن كاميرا راحتْ تُراقبُ وترصدُ وتجوبُ المسكوت عنه في متتاليات بصرية تمتحُ من تجارِبَ شخصيةٍ وعينيةٍ وومضات الحياة، بمنأى عن الأفكار الجاهزة والصور النمطية، وأخضعها لوعي نقدي قادرعلى طرح الأسئلة، وإثارة حوار واسع حولها. وبذلك تحوَّل المكان "منطقة الإمام الشافعي" إلى عينةٍ ممثِّلةٍ تُسهمُ في تشريح الواقع المصري على مختلف الصُّعد، ورصد حركته، ومنحنى هبوطه، عبر شرائحَ متباينةٍ من البشر بمصائر أبطاله وحيوات شخوصه؛ الأمرُالذي مكَّنه من ولوج سيرورة الحياة، وبلورة ديناميةٍ نفسيةٍ تعي مأساوية وجودها الإنساني، واختلال علاقتها بالعالم. كما تحوَّل مقهى "زهرة البستان" الذي يلتقي فيه سُليمان الريس شاعر الشعب بأصدقائه الحالمين بالتغيير نحو الأفضل، ويعيشون حالة إنسانية رائعة تُتيحُ لهم إدارة حوارات وتقديم مقاربات تتمحور حول الوطن وتحديات تطوره الديمقراطي، ويضع بعضٌ منهم الكوفية المذيَّلة بعلم فلسطين على كتفيْه في إشارةٍ إلى مركزية القضية الفلسطينية في وعيه العربي، أقول تحوَّل مقهى زهرة البستان إلى فاعليةٍ أدبيةٍ جوهريةٍ من فاعليات وجودنا، وملمحٍ ثقافيٍّ طالعٍ من خياراتٍ محدَّدةٍ ترسم طبيعة العلاقات بين الكتَّاب والفنانين وما يسمها من أدوارٍ واتجاهاتٍ تُحدِّد طرائق تعاملنا مع المكان، ونظرتنا إلى الثقافة. وبذلك يأتي استخدام الأسماء الحقيقية للأماكن والشوارع لخلق ذاكرةٍ تفتحُ حوارًا مع أنفسنا وتاريخنا، فتستحيل إلى مجموعة من المرايا المتقابلة التي تنداحُ فيها الحكاياتُ في دوائرَ تُعينُنا على صياغة فهمنا للحاضر.
غير أن رواية "أيام الإمام / البشارة" تنوس بين الحياة والموت.. بين المأساة والملهاة.. لتُفصحَ عن دروبٍ مُفضيةٍ إلى طبقاتٍ متعدِّدةٍ للواقع، في سعيها إلى التقاط حقيقة وجودها بوصفِها ذاتًا حرة، حيال عالم عقّد أواصر التعاطف بين الإنسان والآخرين. ألم يقل لنا الصوفية : بُنيَ الحبُّ على الجَوْر، ولو أنصفَ فيه المعشوقُ لسَمُجَ ؟ لهذا يموتُ أصدقاءُ سُليمان الريس ورفاق دربه واحدًا إثر واحد.. ثم يأتي موتُه الفاجع على يد بلطجية النظام وشبيحته الأوغاد مع موت حورية أو أمِّ آمال أو انتحارها، في اللحظة التي بدأ فيها حبُّها لسعيد سالم يُعلنُ عن نفسه، ليتداخلَ الحلمُ بالكابوس – كابوس الحياة. وهنا تبلغ الرواية ذروة شاعريتها؛ حيث تختلط الرغباتُ المكبوتة، بالصراعات الداخلية الصامتة، بالتحدي القاتل مع النفس. حتى إنَّ أمَّ آمال عدَّت غياب سعيد سالم هروبًا وخذلانًا لحبٍّ لم يعرف طريقه إلى التحقق والإشباع، فانطوتْ على أحزانِها الخاصَّة تلعقُ جراحَها المكلومة وقد خضعت لناموس المصائر القاهرة ؛ أو كأن الإنسان لا يكتملُ إلا بالموت، أمَّا الحياة فقانونُها النقصانُ الكاملُ ! لذا ربما طاف بخلدها أنها تسرَّعت حين منحتْ نفسها لسعيد سالم؛ فأدركت أنها لم تعُدْ تستندُ إلى شيء يُبرِّرُ ما كان لها من سطوة، فغذَّت خطاها صوب الموت؛ علَّه يُنجيها من عقدة الذنب! وبذلك يُمسي الموت عنصرًا مكوِّنًا لوعينا بالذات، وبالمخاطرةِ بالحياةِ فحسب تتحقَّقُ الحرية ! بعد أن اكتشفت أن الحياة لا يمكن الاحتفاظ بها إلا عبر الألم، وأن المعاناة هي نواة الذاكرة الصلبة الرافدة لكلِّ التجربة الإنسانية، على امتدادِها الزمنيِّ.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مخرجة الفيلم الفلسطيني -شكرا لأنك تحلم معنا- بحلق المسافة صف


.. كامل الباشا: أحضر لـ فيلم جديد عن الأسرى الفلسطينيين




.. مش هتصدق كمية الأفلام اللي عملتها لبلبة.. مش كلام على النت ص


.. مكنتش عايزة أمثل الفيلم ده.. اعرف من لبلبة




.. صُناع الفيلم الفلسطيني «شكرًا لأنك تحلم معانا» يكشفون كواليس