الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مقابلة ما بعد الوفاة مع سمير أمين Posthumous Interview with Samir Amin الحلقة التاسعة

ابراهيم منصوري

2019 / 4 / 8
مواضيع وابحاث سياسية


يسر مجلة "فك الترابط" (The Deconnection Review) أن تستضيف من جديد المفكر المقتدر سمير أمين في إطار الحلقة التاسعة من حوارنا الشيق معه.

رئيس المجلس العلمي للمجلة: نذكر قارئاتنا الكريمات وقرائنا الكرام أن الحلقة السابقة من هذا الحوار قد أسهب خلالها الأستاذ أمين في شرح مفهومه الهام للنمو اللامتكافئ (Développement inégal) وإيضاح مسلسل إقحام بلدان المحيط (Pays de la périphérie) في النظام الرأسمالي العالمي. وفي هذا الإطار، بين الأستاذ أمين أن النظام الرأسمالي ينحو دائما إلى الهيمنة على مختلف التشكيلات الاقتصادية والاجتماعية في المركز (Centre) كما في المحيط (Périphérie)؛ إلا أن الهيمنة الرأسمالية في بلدان المركز تؤدي مجملاً إلى تنمية متمحورة على ذاتها (Développement autocentré)، بينما لا ينجم عن التراكم الرأسمالي ببلدان المحيط أية تنمية ذاتية التمحور. وبما أن الأستاذ سمير أمين لا يغفل الجانب التاريخي في كل تحليل اقتصادي وسياسي واجتماعي، فيسعدني أن أطلب منه الإطناب في الشرح التاريخي للعلاقات بين المركز والمحيط.

سمير أمين: بطريقة مُبسَّطة جدا، يمكن إيجاز التطور التاريخي للنظام الرأسمالي في أربع مراحل أساسية:

أولا: بزوغ الراسمالية المستندة إلى الاقتصاد الاتجاري (économie de la traite) خلال القرنين السادس عشر والثامن عشر، والمتمثل في الرأسمالية التجارية (Capitalisme marchand) القائمة على التبادل (Echange) والاستعمال الواسع للنقود؛ مما ترتب عنه توسع هام لمسلسل إعادة الإنتاج النَّسْلي (Procès de reproduction lignager) تحت هيمنة الرأسمالية التجارية. وفي هذه الحقبة التاريخية، قد يبدو أن التبادل الاتجاري (Echange marchand) مُكمِّل للتبادل التقليدي (Echange traditionnel) الواسع انتشاراً ببلدان المحيط قبل الهيمنة الرأسمالية؛ إلا أنه من المهم الإشارة إلى أن التبادل الاتجاري ذي الصبغة الرأسمالية لم يدمر النمط النسلي، بل استطاع هذا الأخير أن يدمج النمط الجديد الدخيل رغم كل التناقضات بينهما. على امتداد الفترة بين القرنين السادس عشر والثامن عشر، كانت تجارة بلدان المركز مع أقطار المحيط تمثل أهم المبادلات التجارية على الصعيد العالمي، وهذا ما أدى إلى توسع ملحوظ في تراكم الرأسمال النقدي (Capital argent).

ثانياً: تطور الرأسمالية التنافسية أو التزاحمية (Capitalisme concurrentiel) خلال القرن التاسع عشر. خلال هذه الفترة، وبالرغم من أن المبادلات التجارية بين المركز والمحيط عرفت بعض الانخفاض، فإنها كانت تمكن بورجوازية المركز من الحصول على السلع الأساسية البخسة الأثمان والضرورية لإبقاء معدلات الأجور ببلدان المركز في مستويات متدنية، ومن ثمة تحقيق معدلات ربح مرتفعة. كما أن المبادلات التجارية مع المحيط كانت تمكن المركز من بيع سلعه المصنعة في مناخ متسم بتواضع الأجور ببلدان المركز وانخفاض الطلب الداخلي.

ثالثاً: انتشار الرأسمالية الاحتكارية (Capitalisme monopolistique) خلال النصف الأول من القرن العشرين. مع تعاظم الشركات الاحتكارية (Les monopoles)، ونظرا لأهمية الحصول على المواد الأولية من معادن وغيرها، اضطرت تلك الشركات إلى بناء ملحقات لها ببلدان المحيط على شكل شركات صناعية تسوق منتجاتها في هذه البلدان وتصدر الباقي إلى جهات أخرى بما فيها أقطار المركز. وعلاوة على ذلك، فإن نُزوع الأجور إلى الارتفاع ببلدان المركز دفعت بالشركات الرأسمالية إلى التموقع ببلدان المحيط التي تتميز فيها الأجور بتدنّي واضح، مما أسهم إسهاماً كبيراً في تخفيف ظاهرة الميل النزوعي لانخفاض معدل الربح (Baisse tendancielle du taux de profit ) الذي نَظَّرَ إليه الاقتصادي الانجليزي المعروف David Ricardo قبل أن يسهب كارل ماركس في تحليله تحليلاً أعمق عند تمحيصه لتناقضات النظام الرأسمالي ومستقبله ارتباطاً بالعلاقات الجدلية بين قوى الإنتاج والعلاقات الاجتماعية للإنتاج والصراع الطبقي.

لقد تم زرع النظام الاستعماري (Système colonial) في بلدان المحيط، بالملاءمة مع الرأسمالية الصناعية الاحتكارية، مما يعني أن الرأسمالية قد اخترقت التشكيلات الاقتصادية والاجتماعية في المحيط بالاعتماد على العامل السياسي (Pénétration des formations économiques et sociales à travers la politique). ومما سبق ذكره، يمكن أن نقول إن التبادل الرأسمالي قادر على إعادة إنتاج ظروف الإنتاج الرأسمالي، ولكنه لا يستطيع أن ينتجها مباشرة، مما استدعى تنظيم حملات استعمارية تصبو في مجملها إلى تحقيق انتقال أسهل لنمط الإنتاج الرأسمالي إلى أنماط إنتاج ما قبل-رأسمالية، وذلك من خلال ضمان مردودية قسرية للعمل (Rendement forcé du travail) بالإضافة إلى استهلاك قسري (Consommation forcée) للسلع المنتجة، كشرطين أساسيين لتحرير العمل والسلع (Libération du travail et des marchandises)

رابعاً: رأسمالية الاستعمار الجديد أو ألرأسمالية النيو-كولونيالية (Capitalisme néo-colonialiste). في هذا الإطار، بدأ االنظام الرأسمالي يتقوقع داخل المركز، مكتفياً إلى حد ما بما توفره ظروف الأسواق الداخلية، وذلك بالاعتماد على الإنفاق الحكومي (Public Spending) على السلع الجمعية (Biens collectifs) والبحث العلمي والتقني (Recherche scientifique et technique) والتسلح الحربي (َArms Expenditures) والرفع من مستوى القدرة الشرائية لدى فئات واسعة من مجتمعات المركز الرأسمالي، وذلك عن طريق تحسين إنتاجية عوامل الإنتاج (Productivité des facteurs de production) التي أفضت إلى ارتفاع مداخيل الأسر (Households’ Incomes)، وخاصة بالموازاة مع التقدم التكنولوجي الهائل الذي عرفته بلدان المركز. ويعني هذا أن النظام الرأسمالي بدأ يوزع القدرة الشرائية يميناً وشمالاً من أجل تسويق فوائض الإنتاج، ومن ثمة تجنب أزمات استفحال الفوائض (Crises d’engorgement général ) المتربصة بالنظام، في تناقض تام مع تنبؤات الاقتصادي الليبرالي الفرنسي Jean-Baptiste Say الذي لم يكن ينقطع عن تصريحه المشهور: "كل إنتاج يخلق طلباً خاصاً به (Toute offre crée sa propre demande). وفي هذا الإطار، يخلق النظام الرأسمالي سلعاً كمالية جديدة (Nouveaux biens de luxe) سرعان ما تشتريها النُّخب ذات المداخيل المرتفعة والتي تتباهى بنمطها الاستهلاكي أمام الفئات الأقل ثراء، وقد أسهب الاقتصادي الأمريكي الجنسية النرويجي الأصل Thorstein Veblen في تحليل سلوك هذه النخب الموغلة في الاستهلاك، في كتابه الشهير "الطبقة المخملية" (The Idle Class´-or-the Class of Leisure)، أو، بلغة موليير، La classe oisive، أو La classe de loisir.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن السلوك الاستهلاكي للطبقة المخملية غالبا ما تقلده الفئات الاجتماعية الأخرى الأقل دخلاً، مما يشجع النظام على خلق سلع كمالية جديدة تناسب في البداية القدرة الشرائية للطبقات الاجتماعية الأكثر ثراء، ثم تقلدها الفئات الأخرى، وهلم جرا... في خضم هذا النظام الإنتاجي الاستهلاكي، تنتشر ثقافة التبذير (Culture de gaspillage) في إطار ما نسميه في الأدبيات الاقتصادية والسوسيولوجية بالمجتمعات الاستهلاكية (Sociétés de consommation)، أو ما يدعى في الوقت الحاضر بمجتمعات الاستهلاك الفاحش (Overconsumption Societies). إن هذه التحولات البنيوية على صعيدي الإنتاج والاستهلاك هي التي مكنت النظام الرأسمالي من الاعتماد على الذات داخل المركز وخفض تبعيته إلى المحيط على مستويي تصدير الرساميل والبحث عن أسواق جديدة للسلع المُنتَجة، مع التمادي في إنتاج معدلات تضخم زاحف (Inflation rampante) وناجمة عن ارتفاع الطلب الداخلي (Domestic demand)، مع العلم أن هذا التضخم يتم تصديره إلى بلدان المحيط؛ وهذا ما يسمى في الأدبيات الاقتصادية بظاهرة التضخم المستورَد (Imported Inflation).

رئيس المجلس العلمي للمجلة (مُقاطِعاً): ولكن نمط الإنتاج الرأسمالي بنسخته النيو-كولونيالية الجديدة أصبح يعتمد على الرأسمال البشري والفكري أكثر مما يستند إلى الموارد الطبيعية والمالية والرأسمال المادي (Capital physique). كيف ترى، أستاذي أمين، العلاقات بين مركز النظام الرأسمالي ومحيطه في خضم هذه التحولات المتسارعة والمرتبطة بتطور الرأسمال البشري والفكري؟

سمير أمين: لقد أصبتَ، سيدي رئيس المجلس العلمي، عندما أثرت هذه النقطة الهامة. بالفعل، منذ عقود خلت، أصبح النظام الرأسمالي يعتمد أكثر فأكثر على الموارد البشرية الأحسن تكويناً ودربة (Ressources humaines hautement qualifiées)؛ وهذا يعني بالطبع أن الرأسمالية أصبحت تعتمد على إنتاج حثيث من حيث الموارد البشرية (Production intensive en ressources humaines) عوض الاعتماد على إنتاج حثيث من حيث الرأسمال المادي (Production hautement capitalistique).

كلما ظهر ابتكار تكنولوجي جديد يمكن من تجنب استعمال المزيد من المواد الأولية والخامات المعدنية الآتية من بلدان العالم الثالث، كلما فقدت الأقطار الفقيرة مكانتها في المعادلة التجارية العالمية، مما يكبدها خسائر أفدح من حيث كميات الخامات المصدرة وأسعارها. ومن هنا يتبين التحول الجدري في العلاقات بين المركز والمحيط، وعلى مستويات مختلفة:

• انكماش حجم المبادلات التجارية بين المركز والمحيط: فكما وضحته في كتابي المعروف " Le développement inégal "، فإن حصة بلدان المحيط في الصادرات العالمية قد انتكست من 31% سنة 1950 إلى 21% عام 1960، قبل أن تتدحرج إلى 18% سنة 1970. وبصفة عامة، فإن ما يقارب 80% من التجارة العالمية يجري بين بلدان المركز الرأسمالي، مقابل 20% للتجارة بين بلدان المحيط، مع العلم أن حجم تجارة أقطار المحيط مع المركز الرأسمالي يناهز 80% من مجموع مبادلات المحيط مع أقطار الدنيا كلها.

• اعتماد بلدان المحيط في صادراتها على المواد الخام: ذلك أن حصة صادرات المحروقات والمعادن من المحيط إلى المركز تتعدى 40% من صادرات المحيط الكلية، مع العلم أن أكثر من 75% من صادرات المركز إلى باقي العالم تتكون من سلع ذات قيمة مضافة مرتفعة لأنها، بكل بساطة، تعتمد في إنتاجها على وسائل تقنية ذات إنتاجية معتبرة.

• نزوع المساعدات الأجنبية والاستثمار الأجنبي المباشر إلى التقلص داخل بلدان المحيط، إذا استثنينا الاستثمارات المباشرة في قطاعات إستراتيجية كالنفط والغاز والمعادن المختلفة. كما أن إعادة توطين الأرباح المتأتية من هذه الاستثمارات تؤدي في النهاية إلى نزيف مالي في صالح المركز وعلى حساب المحيط، حتى أن المرء يتساءل بإلحاح: "مَنْ يُمَوِّلُ مَنْ؟" (Qui finance qui ?)، وخاصة أن هذه الوضعية الغريبة غالباً ما تفضي إلى استفحال المديونية الخارجية الجاثمة على بلدان المحيط والتي تكرس تبعيتها للمركز وتعرقل استقلالها الاقتصادي والسياسي.

• انهيار نِسَب التبادل (Détérioration des termes de l’échange)، أي الانخفاض المتواصل لنسبة أسعار السلع المصدرة إلى أسعار السلع المستوردة. وسيفهم القارئ هنا أن تدهور نِسَب التبادل سيظل ينخر اقتصاديات المحيط ما دامت صادراتها بالأساس تشمل سلعا ذات قيمة مضافة ضعيفة بينما تضطر إلى استيراد سلع يتم إنتاجها ببلدان المركز بالاعتماد على وسائل تكنولوجية متطورة، وبالتالي فهي تحوي قِيَماً مضافة مرتفعة. وبالطبع، فإن هذا التبادل اللا متكافي (Echange inégal) ناتج أساساً من اختراق نمط الإنتاج الرأسمالي لتشكيلات اقتصادية واجتماعية محيطية ما قبل-رأسمالية (Formations économiques et sociales périphériques précapitalistes)، وهذه هي الإشكالية الكبرى التي تستدعي فك الارتباط بين المركز والمحيط إذا أردنا فعلاً أن تحقق الأقطار المحيطية التنمية الاقتصادية والاجتماعية المنشودة. وأشكركم مرة أخرى جزيل الشكر على تفضلكم بإطلاق اسم "فك الارتباط" على مجلتكم الموقرة والتي استضفتموني من خلالها لتجاذب أطراف الحديث حول مواضيع شتى.

رئيس المجلس العلمي للمجلة: باسم مجلة "فك الارتباط"، أود مرة أخرى أن أشكر الأستاذ الباحث المقتدر والمفكر المتميز سمير أمين على إجاباته المستفيضة على أسئلتنا وعلى سعة صدره. في الحقلة العاشرة من هذا الحوار، سنواصل النقاش مع الأستاذ أمين لسبر أغوار العلاقات بين مركز النظام الرأسمالي ومحيطه. إلى ذلك الحين، دمتم ذخراً للسعادة والهناء، وإلى اللقاء.

سمير أمين: أنا الذي علي أن أشكركم أجزل الشكر على دعوتكم الكريمة وأسئلتكم الوجيهة؛ وإلى اللقاء في الحلقة القادمة التي أنتظرها بأبرد من الثلج، حتى لا أقول بأحر من الجمر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شاهد حجم الدمار الهائل الذي أحدثه إعصار ميلتون في أنحاء فلور


.. استراتيجيات جديدة.. كيف تعتزم إسرائيل إرباك إيران عسكريا؟




.. تقديرات إسرائيلية أولية بإطلاق أكثر من 20 صاروخا باتجاه خليج


.. سفن حربية تركية تبدأ إجلاء رعايا وأجانب من بيروت وسط الغارات




.. صحة غزة: استشهاد 63 شخصا جراء غارات الاحتلال على مناطق متفرق