الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العلم وآفة العولمة

مجدى يوسف
(Magdi Youssef)

2019 / 4 / 8
مواضيع وابحاث سياسية


عقد مؤخرا مؤتمر البحث العلمى والتعليم فى مصر، وهو ما يدل على اهتمام الدولة بهذين المرفقين الحيويين، بل الأساسيين لرفعة هذا الشعب الذى علم البشرية منذ آلاف الأعوام. لكن الغريب أن تقييم البحث العلمى والتعليم فى بلادنا لا زال يقوم فى المقام الأول على ما يدعى المعايير "العالمية"، ويقصد بها الغربية، ومدى الاعتراف الغربى بهما. فلا شك أن التقدم الغربى فى مجال العلم الحديث قد بلغ شأوا كبيرا لا يمكن لأحد أن يتجاهله. لكنه فى مقابل ذلك أليس لنا أن نتساءل: من أين نبدأ ؟ من المعايير الغربية النابعة من المجتمعات التى أنتجتها، أم من حاجات مجتمعاتنا فى خصوصياتها النسبية، واختلافها عن المجتمعات الغربية التى أنتجت تلك المعايير والحلول ؟ وبعبارة أخرى: كيف نقيم البحث العلمى فى بلادنا ؟ أبالنشر فى كبريات المجلات العلمية المتمركزة فى الغرب فى المقام الأول ، وهو ما لا غبار عليه، أم بالتركيز أولا على البحث عن حلول لمشاكل مجتمعاتنا على اختلاف مواقعها فى مصرنا ؟ وبالطبع فى الحالة الثانية لا يمكن إلا أن نبدأ من حيث انتهى إليه الآخرون على مستوى العالم أجمع، لكن ليس لمجرد إعادة إنتاجه، وإنما لإعادة اختباره ابتداء من الاختلاف الموضوعى لأرضياتنا الاجتماعية الثقافية، وهو ما قد يحتاج إلى مسح دقيق للتعرف عليه. لكن لابد أن يكون هذا هو منطلقنا فى توظيف أى جهد بحثى، ومن ثم تعلمى، ولا أقول "تعليمى". وحتى لا يكون حديثى محض مجرد، سأضرب بعض الأمثلة من مختلف التخصصات الحديثة.
فلا شك أن تقدم البحث العلمى فى الغرب الحديث الذى نبعث إليه بأنبه بناتنا وأبنائنا لينهلوا منه لا يمثل مجرد نقلة نوعية فى المعارف المتخصصة، وإنما بالمثل "يكتم" على أنفاس معظم باحثينا بحيث يصبحون أشد "إيمانا" به من أصحابه الذين وضعوه أنفسهم. ومن ثم فهؤلاء يتصورون أن فى "نقل" تلك المعارف التخصصية بما حققته من تقدم فى الغرب، ما يحقق لنا ما نرومه من "تقدم" بالمثل. وهؤلاء يؤمنون تماما بمقولة أن العلم "بلا وطن"، ومن ثم فهو "عالمى"، فإما أن نأخذ به كما ابتدع فى الغرب، أو أن نتركه ونعيث فيما يدعى "التخلف الشرقى". وهؤلاء يرون أنه لا مماراه فى اتباع خطى الغرب فيما وصل إليه من تقدم علمى، ومن ثم اللهاث وراء اعترافه بما ننهجه على خطاه من بحث علمى. فنحن مثلا أخذنا بالمداخل الغربية فى الطب الحديث بحذافيرها ونهجها العلمى الطيبعى الذى لم يعترف بالأسباب النفسية الذاتية التى تؤدى للأدواء العضوية، إلى أن تغير هذا النهج فى أمريكا أثناء الحرب العالمية الثانية على يدى "أنا فرويد" ، كريمة العالم النفسى الشهير، فصرنا نأخذ بدورنا بالطب السيكوسوماتى (النفسى الجسدى) الذى روج له فى مصر منذ أوائل الخمسينات الدكتور مصطفى زيور، بينما لم نمسح أولا خصوصيات مجتمعاتنا المحلية المصرية والعربية المعاصرة حتى نستخلص منها ما نصدر عنه فى بحثنا عن علاج يتناسب مع اختلافنا الموضوعى عن المجتمعات الغربية. وقد يقول قائل: ألم يقم المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية بهذه المهمة ؟ أقول: لكن أدواته البحثية منقولة على نحو حرفى من المراجع الغربية، ومطبقة فى معظمها للأسف بصورة آلية على مجتمعاتنا المصرية. خذ مثالا على ذلك ما قام به من تطبيق ميكانيكى لأداة الاستبيان ل "إميل دوركايم"، واضع علم الاجتماع الفرنسى، على الظواهر الثقافية فى المجتمع المصرى، كفنون المسرح. لكننا نجد الأمر مختلفا فى البحث عن حلول لمرض السرطان فى بلد زراعى كمصر، إذ تبين أن ذلك المرض الخبيث ينتج إحصائيا فى مصر عن الإصابة بالبلهارسيا فى المجارى المائية، وهو ما يختلف فى أسباب الإصابة بهذا المرض الخطير عن أى من المجتمعات الغربية. من هنا أصبح لدينا "المعهد القومى للسرطان". لكن السرطان الحقيقى فى البحث العلمى والتعليم فى بلادنا يكمن فى التوجه لكل ما يعولم من معارف "تخصصية"، بدلا من أن نصدر أولا عن الأسئلة التى يطرحها علينا المجتمع المصرى بمختلف مشاكله المحلية. فلا بأس أبدا، بل يتعين علينا أن ننظر بصورة مقارنة لما حققه الغرب من حلول متقدمة فى أى من تلك المجالات، لكن بدء من هنا ، وليس تطبيقا اتباعيا للوافد من هناك مهما كان ذلك الوافد "متقدما". وهنا لا يجوز لنا أن نفصل بين البحث عما يشبع احتياجاتنا المحلية أولا، وما نطرحه على تلامذتنا فى مدارسهم من موضوعات يفترض فيها أن تحرك أذهانهم فى متابعة ما توصل إليه البحث العلمى الوطنى، وذلك بدلا من أن نحرص على أن نحشو أدمغة صغارنا بالمعلومات المصمتة التى تتكدس بها برامجهم الدراسية ، ثم نطلب منهم بعد ذلك أن يفكروا بصورة "إبداعية"، وليست "اتباعية" ، بينما هم لا يلاحقون المواد المقررة عليهم فى جفافها المجرد، وبعدها عن إشكاليات مجتمعاتهم المحلية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مدير المخابرات الأمريكية يتوجه إلى الدوحة وهنية يؤكد حرص الم


.. ليفربول يستعيد انتصاراته بفوز عريض على توتنهام




.. دلالات استهداف جنود الاحتلال داخل موقع كرم أبو سالم غلاف غزة


.. مسارات الاحتجاجات الطلابية في التاريخ الأمريكي.. ما وزنها ال




.. بعد مقتل جنودها.. إسرائيل تغلق معبر كرم أبو سالم أمام المساع