الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفنان التشكيلي العراقي -بشير مهدي- و 8 شباط 1963

سلام إبراهيم
روائي

(Salam Ibrahim)

2019 / 4 / 9
الادب والفن


الفنان التشكيلي "بشير مهدي" و 8 شباط 1963

سلام إبراهيم

ليل البارحة أتصل بيّ من هولندا صديقي الفنان التشكيلي "بشير مهدي" بعد أن قرأ مقتتطفاً من فصلٍ من رواية أشتغل بها يتعلق بصبيحة 8 شباط 1963 اليوم الذي شرعَّ القتل والإخفاء ودفن الأحياء واغتصاب النساء في أقبية ومراكز "الحرس القومي" الذي رسم للشر العراقي المعاصر صورة لا تمحي من ذاكرة جيلنا والأجيال القادمة.
"بشير" يأتي صوته متقطعا عبر الهاتف بطيئاً، أشعر به ينوء وهو يحاول صياغة الكلام، بعد أن أصيب قبل أكثر من عشر سنوات بورمٍ في الدماغ أزلوه بعميلة كبرى، وبقوة روحه أستمر في الحياة، بنطق ثقيل وحركة بطيئة، لكن بروحٍ تعشق الحياة.
حللتُ قبل سبع سنوات أياما في شقته الواسعة التي تحولت إلى مرسمٍ، حيث غرقتُ بالفن ولوحاته العظيمة المعلقة على الجدرانِ، ومن زخم الأحاديث عن الرسم والمعنى أكتشفتُ تقارب رؤيانا في التجسيد الإبداعي، فقد وجدته يبحث في اللوحة عن ثيمة وموضوع تخص تاريخ محلي أو عالمي أو شخصي يتعلق بأوجه التناقض في كل شيء، الخير والشر، الحب والكره، ووو في معادلات خضنا في تفاصيلها تحت ظلال لوحاته التي تشّبحت في الليالي وعيّشتني حتى في المنام بأجوائها.
وهذا البحث في الثيم والمجتمع والتفاصيل يشترك مع فلسفتي وجهدي في كتابة النص القصصي والروائي.
لكن الأشكالية التي يعاني منها رسامٍ مثل "بشير" تتلمذ على يدّ فنانيين إيطاليين كبار، عمل معهم في مطلع شبابه في المدن الإيطالية، وهو الموهوب أساساً الذي لم يدرس الفن التشكيلي أكاديميا، بل كان يجري بدمه مثل السرد بالنسبة لي، وكنا معاً في إعدادية زراعة الديوانية أوائل سبعينيات القرن الماضي وأكملنا دراستنا وأشتغلنا كموظفين لكننا كنا نرسم ونكتب وننغمر في الثقافة والقراءة طوال الوقت عدا العمل، عدا أنني انغمرت في النشاط السياسي، وبشير بكّر في مغادرة جحيم العراق ليبدأ رحلة صقل الموهبة طوال عقود ليتجلى وَيشتهر وتَشتري لوحاته أشهر المتاحف في أوربا.
اتصل بيّ البارحة شاكياً من عدم قدرته على الكتابة والتعبير عن مشاعره في يومٍ مفصلي في حياة العراقيين 8 شباط ومفصلي في حياته الشخصية، ففي هذا اليوم الأسود كما وصفه بنطقه البطئ والصعب، أقتحم "الحرس القومي" بيتهم في محلة "الجديدة" وسط الديوانية، وأقتادوا والده وسط صراخ والدته وأخواته إلى مكان بدا مجهولا أول الأمر، ولما كان والده إنساناً بسيطاً مسالماً قريباً من اليسار فقد علموا بمكان توقيفه في مقر "الحرس القومي" الذي صارَّ معتقل تحقيق وتعذيب أولي يوزع منه المعتقلين على السجون أو مراكز تعذيب أشدَّ. وكان "مهدي" والد بشير من ضمن الجموع الشعبية التي طالها الاعتقال والتعذيب والإهانة. وقتها كان بشير كما أخبرني صغيراً لتوه بلغ الحلم. حال عودته ظهراً من المدرسة يحمل سفرطاساً فيه وجبة غداء ويقطع أزقة "الجديدة" الضيقة حتى الجسر، كان يروي لي بصوت بطئ متقطع وأنا أتخيله نحيلا، صامتا، هو أصلا بقى شخصية قليلة الكلام، يسمع أكثر مما يحكي، يمشي بخطى متعوبة جوار الجدران يعبر الجسر الخشبي وفي قلبه هلع من وجوه سيقابلها كالإمس قاسية، تستلم بحركة نشطة فيها عنف سفرطاس الطعام وتغيب خلف باب البناية الخشبي، فينتظر مكسور الخاطر متخيلا أباه المحجوز في غرفة وهو يستلم طعامه فتخنقه العبرة، البارحة وبشير يكاد يبلغ السبعين يصف لي بصوت تخنقه العبرة يصلني مخنوقا شدة ألمه في تلك اللحظات وهو يتنظر أواني الطعام الفارغة، مرة طلب من حارس قومي أن يسمح له بمقابلة أبيه لكنه نهره بعنف وصرخ:
- تشوف أبوك الشعوبي الخائن!. أيس بعد ما تشوفه للأبد!.
عشت يا سلام من تلك اللحظة رعباً لا أستطيع البوح به لإحدٍ، وتخيلتهم يقتلون أبي مثل القصص عن دفن أحياء وقتل آلاف يتناقلها الناس في المقاهي والمدارس والشوراع.
لكنهم بعد أشهر أطلقوا سراحه.
عاد "بشير مهدي" إلى العراق مثلي بفضل الاحتلال 2003 وراح يبحث عن مفاصل الأمكنة في ذاكرته، ولما كان رساما يبحث في ثيمة كما ذكرت والقيمة التشكيلية وخلقها هاجسه، فالمكان والتكوين هاجسه، فبحث أو هرع بتعبيرٍ أدق إلى المكان الأكثر أهميةٍ في نفسه، وهو المكان الذي أعتقلوا فيه أباه، عبر الجسر القديم وسلك طريق شاطئ النهر أمام مكتبة الديوانية المركزية ليدلف الشارع بين دائرة الري ودار المعلمين القديم متجها إلى مقر الحرس القومي القديم، الذي من غريب الصدف يسكنه قريب له. تخيلت لهفة وجنون عيني بشير وهو يتفحص بناء ذلك البيت القديم ويتخيل كيف كان أبوه مكبلاً في غرفة من هذي الغرف وهو يسلم الحارس الجلف سفرطاس الطعام، بصعوبة كان ينطق البارحة واصفاً تلك المشاعر العاصفة المدمرة وهو يتفحص الجدران وما بها من أثار. أكد لي أنه شاهد أثار أدوات التعذيب التي بقيت أثارها في جدران الغرف القديمة وقال لي أنه صورها فوتوغرافيا في تلك الزيارة وبعث لي لاحقا هذا اليوم تلك الصور التي كان قد صورها. لا أدري، احسست أن المخيلة تشكل وتهندس أمكنة الذاكرة، فمن غير المعقول ان تبقى أثار على جدار بيت قديم بعد قرابة أربعين عاما، لا أدري، لكن يؤكد بشير ذلك. كان يشتغل على المكان الذي رآه في مطلع مراهقته في ذلك الجو المرعب، والذي عاد وزاره بعد تلك المدة ودخل غرفه أول مرة، ليعود إلى مستقره الهولندي ويشتغل لوحته العظيمة التي تصور ذلك المكان حيث أمتزج فيها خيال الطفولة ورعب قصص القتلة القوميين وفزع المراهق وهو يتخيل أباه في غرف التعذيب، وبشير المتبلور في إيطاليا بمراسم فنانيين عظام، بكل ما يحمله الإرث الإنساني من تعذيب ورمزه في الحضارة الأوربية المسيح المصلوب، لوحة لشدة جمال الأداء ورهافة التشكيل والألوان وبالرغم من احتوائها على رموز كونية تتعلق بفكرة الأستغلال والتعذيب تبدو ظاهراً لوحة مصقولة الجمال شبابيك متقنة، حائط واضح وكأنه حي بأجره الحقيقي، ستارة ترفرف في الريح وكأنها في الحلم بألونها المتناغمة،
من الصعوبة على المتأمل للوحة بشير إحالتها على التجربة التي يقصدها، فبشير صارّ ساحراً لا يقبل بغير الجمال حتى وهو يصور أعنف التجارب، وهذا أيضاً ما صورته في رواياتي وقصصي بحيث سألني الكثير من المحاورين عن سرّ جمال لغتي بالرغم من عنف الثيم والمواضيع التي تناولتها.
لكن اللغة كلمات والرسم صورة وهذا الفرق.
لذا أتصل بي البارحة بشير كي أصور سردا ما ساهم به تشكيلا في شهادته على يوم 8 شباط والتاريخ الدموي. وبعث لي ما صوره في بيت الحرس القومي وصوره أبيه المعتقل وطبيعة التنفيذ.
موضوع جدير بالتأمل والدراسة








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المراجعة النهائية لطلاب الثانوية العامة خلاصة منهج اللغة الإ


.. غياب ظافر العابدين.. 7 تونسيين بقائمة الأكثر تأثيرا في السين




.. عظة الأحد - القس حبيب جرجس: كلمة تذكار في اللغة اليونانية يخ


.. روبي ونجوم الغناء يتألقون في حفل افتتاح Boom Room اول مركز ت




.. تفاصيل اللحظات الحرجة للحالة الصحية للفنان جلال الزكى.. وتصر