الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
عبد الغفَّار مكاوي.. التَّعدُّدُ الإبداعيُّ والثَّقافيُّ والنَّزاهة العقلية
أسامة عرابي
(Osama Shehata Orabi Mahmoud)
2019 / 4 / 14
الادب والفن
يجسِّد لنا درس أستاذ الفلسفة المرموق والمبدع القصصي والمسرحي والمترجم القدير د.عبد الغفارمكاوي (11من يناير 1930-24من ديسمبر2012) مثلًا نبيلًا على القيمة والمعنى الكامنيْن خلف إخلاصه الكامل لمشروعه الفكري والفلسفي ، والإعراض اليقظ عن محدثات المناصب والوظائف التي تنال من أخلاقيات الباحث وجدية توجُّهِه .. مقدمًا لنا صورة ناصعة لصاحب العقل النقدي القادر على تأمين استقلاليته الذاتية ومسئوليته الفكرية حيال كونية عصره وإنسانية إنسانه . لذا كان همزة وصل واتصال وحوار تاريخية ضرورية بين ثقافتيْن وعالميْن : العربي والغربي ، وجسر عبور وانفتاح نحو الآخر عبر ترجماته وكتاباته واختياراته في الشعر والفلسفة والفكر ؛ مما يشكِّل إعادة نظر في الأسئلة المطروحة منذ ما ندعوه بعصر الإحياء أو النهضة العربية في القرنيْن المنصرميْن، وتقديم إشكالياتها وحقلها العام في ضوء جديد يجلو أبعادها ويعيدنا إلى جنيالوجيا جذورها ، أي إلى نواتها الأولى التي لا تنفك تبزغ وتولّد المفارقات . عندئذ يُمسي بمقدورنا كتابة تاريخ آخر يحتفي بالتعدُّد ويؤمن بالاختلاف ويرى في ذلك كله نسغ حياة وبقاء.
من هنا لم يتوان د.مكاوي عن الاهتمام بتقديم أنضج ثمار الحضارة العالمية وتراثها الإنساني ، وأن يغوص بنا عميقًا في لجج التجارب الحية والآفاق الرحبة لـ هيجل وهوسرل وهيدجر ونيتشه وشوبنهاور وريلكه وهلدرلين وبريشت وفولفجانج شتروفه وتشيكوف وبراندللو ، وثورة الشعر الحديث ومدرسة الحكمة والبلد البعيد والنور والفراشة وَلِمَ الفلسفة؟ والمنقذ.. قراءة لقلب أفلاطون ، وأن يلفت نظرنا إلى أهمية الكشف عن البنى الأنطولوجية للوجود الفردي ، وأن يزيح النقاب عن كون الحقيقة عند هيدجر هي الحرية، وأن " الفلسفة لن تقدر أبدًا على دحض الفهم العام ؛ لأنه أصمّ عن لغتها ، بل لا ينبغي لها أن تفكر في دحضه ؛ لأن الفهم العامّ أعمى عن كل ما ترى أنه يمت إلى الماهية بسبب." ، على نحو ما لمسناه في فهمه العميق له وترجمته البديعة لكتابه نداء الحقيقة ، وأن يميط اللثام عن الأواصر الوطيدة القائمة بين الفلسفة والأدب بعد أن رأى في كل أدب عظيم فلسفة ، وفي كل فلسفة عظيمة أدبًا ، كما طالعناه لدى هوميروس وسوفوكليس ويوربيدز ودانتي وفولتير وديدرو وفلسفة عصر التنوير وفريدريش شيلر والمثالية الكانطية ودستويفسكي وهولدرلين وهيدجر وأبي تمام والمتنبي وأبي العلاء المعري وسواهم . غير أن أستاذنا د.مكاوي ألفى أن الفكر والشعر مرتبطان ، وأن التحليل الفلسفي للشعر العربي المعاصر سيساعد على بلورة الاتجاهات الفلسفية التي أثَّرت فيه وفي العقل والوجدان العربييْن في الثلث الأخير من القرن الماضي . بيْد أن أصالة أستاذ الفلسفة القدير د.مكاوي تتجلى في قدرته على طرح الأسئلة وتوظيف الفلسفة في سياق نهضة تروم ردم الفجوة بين الوجود والمنشود .. بين الواقع والمثال ، على نحو ما عالجه في مقالته المهمة التي كتبها عام 1974بعنوان "خواطر عن مصر"، تعليقًا على كتاب فولفجانج شتروفه الذي ترجمه باسم "فلسفة العلو"- الترانسندنس- وصدر عام 1975عن مكتبة الشباب قائلًا : إن الفكر المعاصر يضع الإنسان في موضع القلب من اهتمامه ، فهل آن الأوان لكي نهتمَّ بالإنسان بكِيانه العيني الحي الدافئ بدلًا من الاختناق في قبضة المجردات الهابطة علينا من أعلى؟ كيف نوفّق بين السرِّ الذي ورثناه في دمنا من الحضارة القديمة وبين اللوجوس؟ كيف نناغم بين التراث والتقنية التي لا غنى عنها ؟ كيف نتجنب آفات الروح الغربية من ضياع الروح والانغماس في روتين الآلة والعمل وانكماش الضمير مع تضخّمِ العضل ، ونظل مع ذلك معاصرين ومستعدين لتحدي العصر؟ كيف نجانس بين قيمنا وآمالنا ؟ وهنا يُجيب د.مكاوي بحسمٍ ووضوح مؤكدًا : ما زلت أذكر هذا البيت النادر من "فاوست الثانية" : "لا يستحقُّ الحرية والحياة إلا من يغزوهما كل يوم .. في كل لحظة .. في كل فعل .." لكن كيف ؟ بالمشاركة .. فالحرية الحقيقية ليست حرية من أجل.. بل حرية لأجل .. لأجل ماذا ؟ ويكمل مشدِّدًا: الحرية تؤكِّد التحرُّر من الباطن .. والمسئولية هي صميم التحرُّر.. والاتجاه إلى مشكلات أمتنا هو لبُّ المسئولية .. والشخص الحي المشارك الواعي بتفرُّد لحظته التاريخية هو حامل هذا كله . إذن كان أستاذنا د.مكاوي حريصًا الحرص كلّه على ألَّا ينأى عن واقعه وألَّا يكون محايدًا تجاه الإنسان وقضاياه . بل إنه سعى مُذ بدئه الأول إلى بلورة نظرة فلسفية تتيح له التأمل الهادئ والتقليب المستمرّ في بنيات عالمه وطبقاته ورقائقه كما فعل نيتشه في الأفلاطونية ، مازجًا قلب الشعر وعقل الفكر بنظرة أخرى يُعَدُّ "الفعل" أو "العمل" عماد حياتها ومناطه سواء كان ذلك الفعل الذي يُغيِّر الوعي أو يُغيِّر الواقع أو كليْهما على حدِّ تعبيره . وظلَّ في كلِّ ميدان ومضمار دخل ساحته (القصة القصيرة .. المسرحية .. الشعر.. الترجمة .. تدريس الفلسفة.. دراسة الأدب الغربي) متملكًا أدواته ، باحثًا عن الحقيقة أنَّى كانت ، أمينًا لسؤاله الفلسفي الذي يرفض الوثوقية والإطلاقية ..تاركًا لنا نصًّا إبداعيًّا مفتوحًا يُنقّب عمَّا يمنح الأشياء قيمتها ومغزاها .ألم يقلْ لنا : إن الغاية المثلى عندي أن يصبح الفنُّ طبيعة حية كما تحاول الطبيعة أن تُصبح فنًّا . حسبنا أن نجرِّب ونجرِّب .. أن نكون الأبناء الأوفياء لسندباد وأوديسيوس وفاوست وكلِّ الحجاج لبيت المطلق . ولو عاشت لي قصة واحدة أو عمل واحد في ضمير قارئ واحد ، فسأغمض عيني في النهاية وهي قريرة .. وسأقول لنفسي : لم يضع العمر هباء. ولعل ذلك ما دفعه إلى إصدار كتابه (النبع القديم ..لوحات قصصية) 2006، سلسلة كتاب الهلال ، لينضمَّ إلى قافلة إبداعه الأدبي الذي أهدانا من بستانه النضر الفريد سبع مسرحيات، وخمس مجموعات قصصية، إثرمعالجته الشعر في صباه اليافع ونظمه بضعة دواوين قبل أن يُتمَّ الخامسة عشرة من عمره، ثمَّ انصرف عن الشعر تمامًا في الحادية والعشرين ( بعد أكثر من حبٍّ خائب لم يكتفِ برفضي بل رفض كذلك أشعاري) وفق ما يذهب، ولم يلبثْ أن حرق دواوينه هذه في نار الفرن على نحو ما رواه لنا في مقدمة كتابه "ثورة الشعر الحديث". غير أن الشاعرية لم تغبْ عنه ، ولم تُفارقْ كتاباته كافَّة فانكبَّ على دراسة الشعرالعالمي وترجمة بعض روائعه كما طالعناه في أسفاره المجيدة : سافو شاعرة الحب والجمال عند اليونان ، للحب والحرية ، أزهار من بستان الشعر الغربي قديمًا وحديثًا ، هلدرلين شاعر الغربة والاغتراب ، ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر ، البلد البعيد ، النور والفراشة مع النصِّ الكامل للديوان الشرقي لجوته ..إلخ .. بل لقد عَدَّ د.مكاوي كتابة القصة القصيرة امتدادًا للشعر الذي توقف عنه . ولهذا ( كانت معظم قصصي دفقات تنسكب في ليلة واحدة وجلسة واحدة . مفاجآت كالبروق وسط سمائي الملبدة بسحب الاكتئاب والدرس والتحصيل ). وقد قاده ذلك لا شك إلى محاولة التجريب في الشكل وتأصيله على نحو ما نهض به واضطلع في كتاباته الفلسفية التي صاغها في قوالب شعرية ودرامية عامرة بالمغامرة الفنية والجسارة الفكرية ومواصلة التقاليد التي عمد إليها رواد عصر التنوير العربي في الجمع بين الأفكار المجردة وقضايا الواقع العيني المباشر، مُرسِّخًا لفكرة مُفادها ( أن الفيلسوف يمكن أن يكون في صميمه فنانًا وأديبًا انتزع الفكرة المجردة من إطارها المحسوس وقنع بالنواة الجافَّة دون الثمرة الحية، وأن الفنان والأديب في حقيقتيْهما فيلسوف كسا الفكرة بالصورة الحسية وأحياها بالعاطفة الجياشة ) . لكن أستاذنا د.مكاوي يدرك ما بينهما من فروق فاصلة حيث ( لكلٍّ طريقتُه ورؤيتُه ومنهجُه بطبيعة الحال)، ( ولن يرضى الفيلسوف أن نجعله شاعرًا أو أديبًا، كما لن يسعد الأديب والشاعر أن نحشرهما مع الفلاسفة في نظام أو نسق فلسفي محدَّد.. ولكن المقصود أن التفاعل بينهما عميق وأكيد وإن يكن غير مباشر وشديد التعقيد، وأنه قد آن الأوان لرفع الحواجز السميكة وإزالة الأسلاك الشائكة التي طالما فصلت بينهما ). ولذلك فإن د.مكاوي عندما يعرِّف الفلسفة يرى أنها ( بالإضافة إلى الجانب العلمي المتخصِّص الذي لا غنى عنه .. هي قضية تحرُّر مستمرّ .. تحرُّر الوعي الذي يُمهِّد لتحرير الواقع وتغييره وتنويره حتى يُصبحَ مثل الجمال والحقِّ والخير حقائق يحياها الناس ويعملون لها ). الأمر الذي يلفت النظر إلى ماهية العلاقة التي يقيمها هذا التعريف وتجربته الحية في الفن والشعر بما يُتيحُ للقارئ أن يتأمل الغائية الكامنة فيهما، وأن يلمحَ موقع الفلسفة من سؤال الفن والشعر جريًا على مأثور عادة جوته في نظرته إلى سبينوزا ، ومالارميه في رؤيته لـ هيجل ، وماشادو في دراسته لـ برجسون ، وبورخس في إدراكه لـ شوبنهاور ، وهيدجر في التفاته إلى هلدرلين ...إلخ. وهنا يقول أستاذنا د.مكاوي في شهادته التي نشرتها مجلة "فصول" المصرية في عددها الخاصِّ عن القصة القصيرة : ( ربما ساعدت الفلسفة بطريقة غير مباشرة على ما يوصف بالعلو والنظرة الكلية والقدرة على تحليل المشاعر والمواقف والأفكار والتركيز على ما يسميه بعض فلاسفة الوجود بالمواقف الحدية كالعذاب والإخفاق والفراق والموت والذنب). ثمَّ يمضي محدِّدًا مفاتيح عالمه ودوائر حركتها فيقول : ( وأقول إنني قبل كتابة أي عمل قصصي أو غير قصصي أحاول جهد طاقتي أن يجمع ثلاث دلالات تعبر عن ثلاثة مستويات أو ثلاث دوائر متداخلة.. الدلالة الشخصية وإلَّا ما وجدت الدافع لكتابتها .. والاجتماعية وإلَّا فلمن أكتب ؟ والكونية وإلَّا فما قيمة عمل لا يفتح نافذة على المطلق، أو لا ينبعث منه شعاع ينفذ في ظلماته ). لهذا جاء أدبه مفعمًا بعطاء مترع بالصدق الفني والمسئولية التاريخية والحسّ الإنساني المرهف الذي يقدم لنا لحظة من لحظات الوعي النادر بالذات وبالمجتمع وبالعالم وبعلاقة الإنسان بالأشياء المحيطة به، وكيفية تأسيس علاقة جديدة مع الكينونة والكائن وأيلولة الفرد إلى حضور في الزمان بما يُعيد الاعتبار للذات الفردية في تعاملها مع الحياة في أبعادها اللانهائية في عصر التقنية والكليانية السياسية والاقتصادية وميتافيزيقا الموت المحايث لوجودنا العام . الأمر الذي دفع أستاذنا إلى اقتناص المفارقة من الموقف الفني والكشف عن الأسطوري في الحياة اليومية والماورائي في فضاء التجربة الإنسانية وانشطارها بين الواقع والمأمول. وبذلك استطاع في جُمَّاع كتاباته الأدبية أن يضعَ يده على طبيعة الأزمة العامة التي نعيشُها ومغزى المأزق الذي شهده التطوُّر الاجتماعي المصري في عقوده الأخيرة وانعكس بروافده على سيرورته السياسية وهياكله الرَّثة ، كما تُفصحُ عنها مثلًا مجموعتُه القصصية "أحزان عازف الكمان" التي صدرت عن دار شرقيات 2006، وأهداها إلى صديقه الجميل الراحل "عبد الرحمن فهمي" الذي كان يقرأ قصصه على أنغام العود والكمان . غير أننا نأخذ على قصصه مباشرتها وتوسُّلها إلى هدفها بنبرة عالية قائمة على السرد العليم كليِّ المعرفة الذي لا يدع فسحة للآثار المفتوحة والمتحوِّلة كي تفعلَ فعلها في توليد العلاقات الداخلية التي يتعيَّن على كلٍّ منَّا اكتشافها واختبارها. إلَّا أن هذا يتناغم وتصوُّرَه لطبيعة القصة القصيرة التي تقتربُ عنده من الشعر الغنائي والحوار المسرحي والمقال الفني، وقد تتسعُ للتقرير الصحفي والبحث العلمي والأرقام والحسابات الجافة، بل إنها قد تحتوي على رسومٍ توضيحية على نحو ما فعل الفنان المرحوم "يس العيوطي" في إحدى قصصه المتأخِّرة . ولهذا ستظلُّ القصة القصيرة فنًّا متجدِّدًا على حدِّ تعبيره.. تعبق بأريج الرومانسية وشجنها الأسيان وروحها الجسورة التي تجمع في إهابها بين المعيش والمحسوس اللذيْن يطبعان وجدانه بوهج الحب والتمرد ، هاتفًا مع "جورج سامي غطاس" في قصة "أحزان عازف الكمان": " ليكن الأمر ما يكون .. لن أتوقَّفَ عن العزف ولا عن الحياة .. سأواصل وأواصل رغمًا عن كلِّ شيء".. لكنه درس الرومانسية الألمانية وانفتاحها على الطبيعة والحياة على اختلاف صورهما وألوانهما ؛ مما دعاه إلى تكريس حياته كلّها للحرية بمعناها الواسع أي بكلّ تنوعها وتفاعلها مع المستقبل، وفي ارتباطها بالمعرفة الخلاقة، وبناء منظومة ثقافية وفلسفية تستوعب الحاضر وتتجاوزه ليبدأ التحرير الكبير للروح وللذات البشرية والقبض على الروح المجردة. مفيدًا من درس أستاذه الشيخ "أمين الخولي" الذي انتظم عضوًا في جمعيته "الأمناء"، عن أسبقية المنهج الأدبي على ما عداه من مناهج عند تناول الظواهر الدينية والوجودية وما تنطوي عليه من نظراتٍ جماليةٍ وتصويرٍ فنيٍّ بما يُسهمُ في تفكيك بنيتها والوقوف على أسئلتها المقموعة فيكافح المعرفة بماهيةٍ في الوجود، وهي المعرفة الأساسية التي تُدعى من قديم الزمان باسم "الفلسفة".. أو بتعبيره هو : " ورأيتُ وسمعتُ ذلك الفارس العظيم الذي طالما ربَّى العقول وحطّم الأصنام والأوهام : أمين الخولي الذي صنع جيلًا من "الأمناء" يتوسطهم كالقمر الذي تلتفُّ حوله النجوم ". وعلى هذا النحو، راح د.عبد الغفار مكاوي يغترفُ من الأدب والفنِّ في مظانهما المشتتة وعبر مدارسهما وتياراتهما المتعددة مؤمنًا بأن (خدمة الحقيقة تتطلبُ أن يكون ما تنتجون أدبًا جميلًا وصادقًا قبل كلِّ شيء)، وأن عدم إيماننا بمستقبل الفنِّ والوطن والإنسانية (يُساوي الكفر بالتقدُّم وبقدرة الشعب على الإبداع )، مردِّدًا دومًا بيت "هلدرلين": ( أما حيث يكون الخطر .. فتلوح كذلك أسباب النجاة )‘ معقِّبًا عليه بقوله : ( وسننجو حتمًا ما بقيتْ لدينا القدرة على الغضب المقدس على أنفسنا ).. وعندما هتف "هلدرلين": ( لِمَ الشعراء في الزمن الضنين؟)، ردَّ عليه د.مكاوي قائلًا: ( لِمَ الحياة نفسُها في الزمن التعيس؟)، مذكَّرًا إيانا بقصيدة "هلدرلين" الجميلة عن "الربيع الجديد": ( لهذا أحتفلُ اليوم بالعيد .. وفي المساء في ظلِّ السكون .. تزدهرُ الروح حولي ولو جلَّل شعري المشيب.. مع ذلك أنصحكم يا أصحابي.. أن تعدّوا للمأدبة الغناء والباقات الوفيرة والأنغام.. وكأننا شباب خالدون ). بيْد أن أكثر ما يأسى له د.مكاوي أن جيله ( تشتَّت بين الكتابة الحرَّة والدراسة والترجمة والإعداد لأجهزة الإعلام )؛ حيث (حتَّمَ علينا قدرُنا التاريخيُّ أنْ يقومَ الواحدُ منَّا بأدوارٍ متعدِّدةٍ توزَّع في البلاد المتحضرة على أفراد عديدين).. لكن ستبقى سيرته الفكرية التى أطلق عليها اسم ( النبع القديم .. لوحات قصصية ) من أثمن هذه السير وأمتعها في رحلته الشعرية والفلسفية واستشرافها الرسولي. ويتألف كتابه هذا "النبع القديم" من قسميْن اثنيْن : جاء أولهما بعنوان " من نبع الشعر"، مغترفًا من روح صباه وذوْب طفولته التي ما برحت ترفُّ وتحلّق كحلمٍ لا يني يكشف عن حقيقته المحجوبة وعطشه الدائم للحياة وللحالمين من البشر من أضرابه وأترابه.. ناشدًا قرطبته الوحيدة.. البعيدة لتشعَّ بالحرية والعدل والصدق والأمل على بني وطنه. بينما حمل القسم الآخر اسم "من نبع العمر" مقلبًا صفحات حياته، متأمِّلًا حصاد رحلته مستقطرًا منه كلَّ ما هو أصيل ومضيء، مفعمًا بقلق البحث وأصالة السؤال الحي حين يصدر عن هموم فكرية جادة تتسلح دومًا بإرادتها العاقلة، محاولة استجلاء مغزى وجود حياتها كتحقّق لا يرى ذاته إلَّا عبر سيرورة لا تنتهي ولا تكفُّ عن إعادة النظر في كلِّ ما يتخلقُ ويُحاورُ مادتها الموَّارة بالحركة، رائيًا هشاشة عالمنا الإنساني وما رَان ويرين عليه من عجزٍ وإحباطٍ وخيباتِ أملٍ أعاقته وجيله عن تحقيق أحلامهما المرتجاة، متوسلًا إلى ذلك بحسٍّ للسخرية عالٍ ودالٍّ. غير أن د.عبد الغفار مكاوي أفاد فيما كتب وشيَّد من أبنية ورؤى، من عدد من قصائد الشعر الألماني مأنوسة بقصائد متفرقات لـ شارل بودلير الفرنسي، وسلفاتور كوازيمو وأنجارتي الإيطالييْن، وهوجوفون هوفمنستال النمساوي.. فضلًا عن رواية "أحمس بطل الاستقلال" للمرحوم عبد الحميد جودة السحار، وزيارات عَادَ فيها رفيقي عمره والجمعية الأدبية المصرية المرحوميْن عبد الرحمن فهمي وفاروق خورشيد؛ فاستوحى منها جميعًا ما ألهب خياله وأشعل جذوة طاقته، ودفعه إلى رسم تضاريس لوحاته عبر رؤيةٍ تشكيليةٍ جماليةٍ تنتظمُ الذات ضمن لعبة مرآة تعكسُ حركية الفعل وانفتاحَه على العالم.. فقدَّم لنا متتاليات قصصية تُخلّف الكثير من الظلال المندَّاة بروح المكابدة الصادقة التي تمتحُ من نبعه القديم ( النبع الذي يسميه الناس حينًا بالعين الضاحكة، وحينًا آخر بالباكية، وإنْ كنتُ أنا أفضِّلُ أنْ أسميَه النبع وحسب؛ لأنه يفورُ من قلب الأرض الغني بالأسرار) وفق ما يذهب إليه. من هنا؛ غدت هذه اللوحات أوالنصوص السردية استدعاء وتقصيًا للأصول، ومحاولة اكتشاف للطرائق أو الأشكال التي أرسى بها علائقه ووسم بميسمها كينونته. الأمرُ الذي حدا به إلى اصطفاء السرد حيث العالم– كما يقول كلوسوفسكي – شيء يُروى.. حدث مرويّ لا يوجد إلَّا في السرد وبه.. وما الدين والفن والعلم والتاريخ إلّا مظاهر متعددة من التأويلات، أو بالأحرى أشكال متنوعة من الحكاية ذاتها. عندئذ ما فتئ يتذكر سنوات يفاعته وتكوينه الأول وعيشه في جزيرة الروضة وعلاقته بأبيه وأمه وتوءميْه وسيره من مسكنه إلى شارع البحر الأعظم وإصغائه إلى صوت غناء يطرق سمعه من جهة النهر وعبوره الجسر أو المعدية البدائية التي بناها الأجداد قبل أن يولد والتداعيات التي أثارها الجسر الحديدي والأسمنتي الجديد الذي حلّ مكانه، وتقليب النظر وإنعام التأمل في ذلك الصبي الذي كان يحمل يومًا اسمه بعد أن تخلّى عنه الشعر وهو بعدُ في الحادية والعشرين من عمره متورطًا – على حد تعبيره – في المتاهة التي شدَّته إلى المحكمة ( فتهتُ منذ شبابي الباكر في صحراء العقل المجرَّد )، إلَّا أنه ( كلما لاح سرابٌ من بعيدٍ جريت نحوه وتصوَّرتُ أنه واحة أستظلُّ بها وأستريحُ من وهج القيظ ومرارة الحرمان فأحاول أن أرجع إلى النبع المنسي)، أي ( النبع الأصلي الذي كانت تشغلني عنه المهنة التي توَّرطت فيها ولقمة العيش التي لم يكنْ منها مفرٌّ وزحام المعرفة والثقافة الذي كنت مضطرًّا للمشاركة في أسواقه الصاخبة)؛ فعاد إلى نبعه ( الطاهر النقي)؛ كي ( ينهل منه ويغتسل من رماد العالم ويجد ذاته الضائعة ). أي أنه يجد خلاصه في الفنِّ عبر كتابة قصة أو مسرحية أو خاطرة أو مقالة فنية أو لوحة درامية قادرة على استنطاق المساحات البيضاء على الورق، محتشدًا لها كما أخبرنا من قبلُ ( بالصدق مع النفس .. بالحضور والامتلاء .. النضج والاستواء .. وتسعفني قراءاتي السابقة وربما تسلّلت خفية لما أكتب.. ونظرتي الكونية المفعمة بالشجن وخيبة الأمل.. وروح التفلسف التي تتسلّل إلى بعض قصصي وإعارتها جناحًا تُحلّق به قليلًا فوق تفاصيل الواقع أو تغوص في قلبه ). وبذلك أمست أوراقه هذه تدويرًا لأسس رحلته الفكرية وحرثًا لدلالاتها ، وصولًا إلى لحظة الانكشاف، أي البوييسيس بالاصطلاح اليوناني القديم، منضمة إلى نظائرَ لها وأشباهٍ صدرت له مثل : البلد البعيد ومدرسة الحكمة وشعر وفكر، لتجمع في الآن عينه بين الفكر والعاطفة .. الفلسفة والفن، وأن تُبيِّن ( للقارئ أن التذوق والتأمُّل كليْهما لا يستغنيان عن الحبِّ والتعاطف والمشاركة ) وفق ما يذهب إليه في تقدمة كتابه "شعر وفكر". وظلَّ د.عبد الغفار مكاوي وفيًّا لرومانتيكيته التي عاش في كنفها ردحًا من الزمان طويلا، وأخذتْ تطبعُ كتاباته بطابَعِها مسوِّغًا ذلك بـ ( الإحباط الدائم وخيبة الأمل المستمرة وغيبة الحرية واضطراب الظروف التاريخية والاجتماعية التي جعلت الحزن والحلم المستحيل إطارًا وجدانيًّا عاملًا له )، أي لجيله مما تجاوبت أصداؤه وعلت نبرته في غير مكانٍ وموضع ؛ حيث (المرض والتجاهل وخيبة الأمل ) في لوحة "الصبي الذي كان يحمل اسمي".. ( ومواجهة الغدر والتجاهل والإهانات الصريحة والخفية ) في لوحة "القارئة الحجرية والمومياء الحجرية".. (وعانيتُ من الهزائم وخيبات الأمل في العمل والحبِّ ما لا تُقاسُ به النجاحات النادرة والضحكات القليلة المغتصبة) في لوحة (الزمان زماني)..على سبيل المثال لا الحصر، ومن معطف الرومانتيكية جاء تعرفه إلى فيلسوفيْن أثيريْن لديه هما : شوبنهاور ونيتشه. لكن أهم ما يسم د.مكاوي بحقٍّ هو روح التجرد والإنصاف والنزاهة العقلية ونظافة الوجدان مهما تكأكأت عليه المحن والأرزاء ، منطلقًا في ذلك من نظرة هيدجرية ( نسبة إلى الفيلسوف هيدجر) التي رأتْ أنه إذا كانت الحقيقة عند نيتشه نوعًا من الخطأ، فإن ماهيتها تكمُن في طريقة التفكير التي قضي عليها بأن تُزيِّفَ الواقع كلما اتجه التصور (العقلي ) إلى تثبيت "الصيرورة" الدائمة؛ وبذلك تدعي أن هذا الذي تثبته هو الواقع، مع أنه لا يتطابق مع الصيرورة السيَّالة (المتدفقة)، أي أنه بالنسبة إليها مخالف للصواب، بل خطأ بيِّن. ناهيك عن وفائه النادر لأساتذته - أساتذتنا العظام : محمد فريد أبو حديد الذي أهداه وأصدقاءه قاعة من قاعات نادي المعلمين بميدان الأوبرا يعقدون فيها ندواتهم ويقرءون فيها ويناقشون قصصهم وقصائدهم؛ وأمين الخولي الذي أفسح له ولسواه النشر في مجلته "الأدب"؛ ود.محمد كامل حسين أستاذ الأدب الفاطمي الذي أفاد من ندوته التي كان يعقدها في بيته أيما إفادة؛ فاستعاد "ذاته الأدبية المطمورة تحت ركام أشكال القياس ونظرية المثل وكوجيتو ديكارت ونقد كانط " وفق ما يذهب إليه . فضلًا عن وفائه النادر أيضًا لرفاق رحلته المجيدة : د.شكري عياد ود.عز الدين إسماعيل ود.حسين نصار وصلاح عبد الصبور وعبد الرحمن فهمي وفاروق خورشيد وبهاء طاهر ويوسف الشاروني ود.نعيم عطية ود.أحمد كمال زكي، واضطلاعهم بإصدار الأعداد السبعة الأخيرة من مجلة "الثقافة" المحتجبة (سنة 1952) .. ولا أنسى بالطبع دوره البارز والمؤثّر في "الجمعية الأدبية" يومَ كانت في شارع قولة بحي عابدين، ثمَّ في شارع عرابي، وإغنائها بالدراسات الضافية الرصينة ومحاولة خلق حياة أدبية راقية بعيدة عن الشللية ومافياتها، وإتاحة الفرصة لأصحاب المواهب الحقيقية الأصيلة لتتنفَّس الحرية، وتنعم بديمقراطية الحوار. وهو درس غالٍ وثمين لأجيالنا الجديدة راجيًا أن تقرأ في ضوئه لوحة "الجسور" في هذا الكتاب الثري بالنظرات والدروس المستفادة لتدرك مغزى عبارة نيتشه التي اقتبسها أستاذنا الكبير من كتابه ( هكذا تكلم زرادُشت) : ما الإنسان إلَّا شيء ينبغي تجاوزه، فماذا فعلتم لكي تتجاوزوه ؟ الإنسان حبل مشدود بين الحيوان وبين الإنسان الأعلى.. حبل ممتد فوق هاوية.. معبر خطر.. مفترق طريق مخيف.. وأعظم ما في الإنسان أنه جسر وليس هدفًا أو غاية ).. وكذلك لوحة "هذا البلد مكاني .. هذا الزمان زماني " لنقف مليًّا عند سطوره التالية : ( إذا بقيت في هذا البلد فافعلْ – أقول افعلْ ولا أقول تكلَّم – وإذا تكلَّمتْ أو فكَّرتْ فليكنْ كلامُك وفكرُك دليليْ عملٍ وخطة فعل وتغيير وتحدٍّ لصور التخلُّف ومسوخ القبح ، وإذا غادرته إلى بلد آخر فربما لا تشعر فيه بالغربة التي حاصرتك في بلدك؛ فأنت تحمل شئت ذلك أو لم تشأ- أثقال تاريخه وألواح قيمه المظلومة المهدرة- في دمك، وتضع بلورته الصافية نصب عينيْك دائما فتزداد حبًّا له وقربًا من روحه وحقيقته). ثم لوحة "الرجل الصغير، والبدء والمصير"، وفيها دعوة صادقة للخروج من الأزمة التي تُحْكمُ الخناق على رقابنا وذلك بالعودة إلى (الإنسان العادي أو الرجل الصغير) الذي لا يُحدِّدُه د.مكاوي (بالطبقة الاجتماعية، بل بالانتماء إلى الأرض والتاريخ )، مطالبًا إيانا بـ (التوجه إلى ضميره)، واتخاذه ( مقياسًا ومعيارًا وميزانًا)، و( التطهُّر من تجاهلنا له وآثامنا في حقِّه وحقِّ ما نسميه بالفكر والعلم والتعليم والفنّ والأدب والثقافة )؛ فربما يكون ذلك ( بداية الطريق للعودة إلى ذواتنا الحقيقية التي لن تجدَ نفسها إلَّا عندما تتوحدُ بهذا الآخر العزيز، وتلتحمُ به في "نحن" واحدة صلبة متماسكة )، وما أحرانا أن نعيَ ونتدبَّرَ ذلك إذا كنا جادين حقًّا في تأسيس تاريخ مغايرٍ يعمد إلى بناء مستقبلٍ لا ينهضُ على منطق التماثل والتجانس .
مختارات من ترجمات د.عبد الغفار مكاوي الشعرية
الصراع مع الملاك لـ جاك بريفير
لا تذهبْ إلى هناك
كلُّ شيءٍ قد رُتِّبَ من قبلُ،
اللعبة زيِّفت .
وعندما يظهر في الحلبة،
تُحيطُه هالة من المغنيسيوم،
عندئذٍ ستدوِّي أصواتُهم :
"حمدًا لله" .
وقبل أنْ تنهضَ من مقعدك.
سيدقون لك جميعَ الأجراس.
سيقذفون في وجهك
بالإسفنجة المقدَّسة،
ولن تجدَ الوقتَ للتشبُّثِ بريشةٍ،
سيُلقون بأنفسهم عليك
وسوف يُصيبُك تحت الحزام
وعندئذ تنهار
وذراعاك مصلوبتان في غباء
في نشارة الخشب
ولن تقوى أبدًا على الحبِّ.
أنا ضائعة لـ جوتفريد بن
أنا ضائعة ، تفجَّرتُ من الغِلاف الهوائي ،
ضجة الأيون – أشعة جاما لام -
جزئ ومجال : أوهام لانهائية
على حجرك المعتم من نوتردام .
الأيام تمضي بك بلا ليلٍ ولا صباحٍ،
السنوات تتوقَّف بلا ثلجٍ ولا ثمرٍ
اللانهائي مهدَّد وخفي،
العالم مهرب.
أين تنتهي، أين تعسكر، أين تمتد أفلاكك؟
مكسب ، خسارة.
لعبة وحوش، أبد وأزل،
تفرُّ إلى قضبانها.
نظرة الوحوش : النجوم أمعاء حيوانات
موت الأدغال أصل الوجود والخلق،
العالم فتنة الفكر، والمكان والأزمان.
وما نسجتِ البشرية وما أبدعت،
ليس إلا دالة اللانهائية،
الأسطورة كذبت.
من أين، إلى أين؟ لا ليلَ، لا صباح،
لا تحية، ولا حداد،
تودُّ أنْ تقترضَ شعارًا – لكن ممنْ ؟
دائمًا أشدُّ صمتًا لـ جوتفريد بن
أنت في الممالك الأخيرة،
أنت في النور الأخير،
إن لم يكن نورًا
في الوجه الشاحب المحملق،
هناك الدموع دموعك،
هناك تتعرين من نفسك،
هناك الإله الواحد،
الذي يخلص من كل عذاب.
من بين أزمنة لا تُسمَّى
حطمك واحد منها،
نداءات، أغانٍ تصحبك
تسمع فوق الماء،
ظلال أشجار استوائية،
غابات من عمق البحر،
أماكن نشوى بالرعب
ندفعها إلى هنا
قديما كان شوقك،
قديمة كانت الشمس وكان الليل،
كلّ شيءٍ : الأحلام والأحزان
تبددت في التيه،
دائما أكثر انتهاء، دائمًا أكثر صفاء
تطوى في الأبعاد،
دائمًا أكثر صمتا، لا أحد ينتظر
ولا أحد ينادي.
سكون لـ جوته
سكون عميق يسود المياه.
وبلا حركةٍ يمتدُّ البحر،
والملاح ينظر مهمومًا
إلى السطح الأملس حواليه.
لا نسمة من أي ناحية.
سكون الموت المخيف.
في الفضاء الشاسع
لا تتحرك موجة واحدة.
القسم الثاني - الفصل الخامس من فاوست لـ جوته
هكذا أفتح الآفاق لملايين كثيرة
تعمرها بحرية ونشاط
وإن لم تكن آمنة مطمئنة
ويصير الوادي أخضرَ خصبًا،
ويستريح الإنسان والقطعان
فوق الأرض الجديدة.
وهنا في الداخل تترعرع جنة،
وإذا ما عربد الطوفان في الخارج حتى بلغ الحافة،
وراح يقرضها بأنيابه ويحاصرها بعنف،
سارع البشر سوية لسدِّ الثغرات.
هذا هو فصل الحكمة والمقال :
لا يستحقُّ الحرية والحياة
إلا مَنْ يُصرُّ على غزوهما كل يوم!
وهكذا يقضي الأطفال والرجال والشيوخ،
وقد أحاطت بهم الأخطار،
سنوات عمرهم الحافل بالنشاط.
ولكم أودُّ أن أرى هذه الحشود
واقفة على أرض حرة مع شعبٍ حرٍّ.
حينئذٍ يحقُّ لي أنْ أخاطبَ اللحظة وأقول :
تريثي قليلًا فما أجملك!
وعندها لن تمحى في الآباد
آثار أيامي التي قضيتها على الأرض.
إني لأستشعرُ تلك السعادة القصوى
وأستمتع الآن بأسمى اللحظات.
الصمت لـ لوركا
أنصتْ يا ولدي للصمت.
صمت متموج؛
صمت
تنزلق الوديان خلاله،
والأصداء،
ويذل جباها
فوق الأرض.
قرطبة لـ لوركا
قرطبة
وحيدة وبعيدة
فرسٌ أسودُ صغيرٌ، قمر كبير
حبات زيتون في حقيبة سرجي
أعرف الطرق حقًّا
غير أني لا أبلغ قرطبة أبدًا
عبر المدى الفسيح، عبر الريح.
فرسٌ أسودُ صغيرٌ، قمرٌ أحمرُ
الموت يحدق فيَّ
من أبراج قرطبة.
آه ما أطول الطريق!
آه يا فرسي الشجاع!
آه .. الموت يخطفني
قبل أن أبلغ قرطبة!
قرطبة
وحيدة بعيدة .
أغنية لـ أنجارتي
من جديدٍ أرى فمك البطيء
(بالليل يتقدَّم البحر ليلقاه )
وأرى فرس فخذيْك
يسقط متهالكًا
بين ذراعيَّ اللتيْن كانتا تغنيان،
وأرى نومًا يُعيد إليك
نضارة جديدة وموتًا جديدًا،
والعزلة الشريرة
التي يكتشفها في نفسه كلُّ مَنْ يُحبُّ
كأنها الآن قبرٌ لا متناهٍ
سيفصلني إلى الأبد عنك.
الجزيرة لـ أنجارتي
هبط إلى شاطئ، كان يسوده المساء الأبدي
من غابات متفكِّرة سحيقة القدم
وتوغَّل بعيدًا،
وجذبه حفيفُ أجنحةٍ،
صعد من خفقة قلب الماء الصارخة
ورأى شبحًا (يسقط ثم يعود فيزدهر )،
وحين استدار ليصعد،
رأى أنها كانت حورية بحرٍ، وكانت تنام
منتصبة وهي تعانق شجرة دردار.
شعب لـ أنجارتي
فرَّ قطيع النخيل الوحيد
والقمر
اللامتناهي فوق ليالٍ جديبةٍ
الليل الأسحم
سلحفاة في حداد
تتحسَّس
لا لون يدوم
اللؤلؤة السَّكْرى بالشكِّ
(بدأت) تنبَّه الفجر
وعند قدميْه السريعتين
تثير الوهج
ها هي ذي تدوِّي
صيحات ريح شابَّة
خلايا النحل تنشأ في جبال
الأبواق الضالة.
ارجعي أيتها المرايا القديمة
يا خطوط الماء الخفية
بينما الآن
و...
براعم مرتفعات الثلج المقطوفة
تُحيطُ بالصورة التي تعوَّدَ عليها آبائي
تصطفُّ الأشرعة
في الهدوء الصافي.
آه يا وطني، كلُّ فصولك
صحَتْ في دمي
تتقدَّم آمنة وتُغنِّي
فوق بحرٍ جشعٍ.
باطموس لـ هلدرلين
ولهذا كانت قمم الأزمان
متراصَّة هنا وهناك،
وأحبُّ الأحباب يسكنون قريبًا،
منهكين فوق جبالٍ منفصلة.
أعطنا إذن ماءً بريئًا،
أعطنا جناحيْن؛ لنعبر إلى هناك
بحسٍّ نقيٍّ ثم نعود.
أغنية إلى ديوتيما لـ هلدرلين
أمضي الأيام على دربٍ غيرِ الدرب،
حينًا للشجر الأخضر في الغابة،
حينًا آخرَ للنبع،
للصخرة حيث الأزهار مفتحة الأكمام،
أنظرُ من فوق التَّلِّ إلى السهل
لكنْ لا أجدك أبدًا يا حبي،
في أيِّ مكانٍ لا أجدك أبدًا في النور،
تتطاير مني الكلمات وتذروها الأنسام
كلماتي الطيبة كانت في ماضي الأيام..
حقًّا كم أنت بعيدٌ، ناءٍ يا وجه النعمة
يخبو نغم حياتك
وأنا لا أملك أن أنصت..
يا أيتها الألحان الساحرة الصوت،
يا من أفرغتِ على قلبي الراحة من نبع الخلد
ومن كفِّ الأرباب العلويين
طال العهدُ وغاب. شبَّ الولد وشاب.
حتى الأرض- وقد كانت تتبسم لي -
عابسة الوجه.
الآن أقول : وداعًا، عيشي في خير.
روحي كلّ نهار ترحل عنك تعود إليك،
عيني تبكيك، تريق الدمع
تتمنى يومًا أن تصفو كي ترنو لك
فتراك هناك وتهنأ بك...
الحقيقة الحرة قصيدة مهداة من الفيلسوف هيجل إلى صديقه الشاعر هلدرلين
أقبل المساء، السكون من حولي وفي وجداني،
صورتك، أيها العزيز، تتمثّل لي،
وأتصوَّر بهجة الأيام الماضية.
لكنها سرعان ما تتوارى أمام آمال اللقاء العذبة
ويرتسم في خيالي مشهد العناق الحار
الذي أشتاق إليه من زمن طويل،
ثم أتخيل الأسئلة التي نتبادلها
وتأمُّلُ كلٍّ منا لصاحبه في الخفاء،
وكيف غيَّر الزمن من هيئته وملامحه وتفكيره،
وأتخيَّل متعة اليقين بأن عهد الوفاء القديم
مازال أشدَّ رسوخًا ونضجًا مما كان،
عهد الوفاء الذي لم يختمْه قسم
بل نذرناه للحياة من أجل الحقيقة الحرة وحدها.
باب للشاعر الإسباني خورخة جين
الباب موارب.
عمن يبحث هذا الضوء؟
الشفق سيَّال
يتلألأ عاجزًا
لمن هذا الصمت؟
مكان مقفل.
صوت ينادي، لعله وعد
من المجهول. مشاعر.
لأيِّ شمسٍ مثل هذا الهدوء؟
ويظهر التحوُّل،
يتجه في هواء
فارغ مقنع.
باطن. الجدران بلا شكٍّ
تُخفي المجهول.
هنا ؟ شجرة جوز، كأس.
صمت يعزل نفسه.
عادي، مهذب جدًّا
عطر وردة يومية
الباب مغلق : بعيدًا.
هذا الضوء، أهو رسول؟
والآن : عين في عين...
لغة الألوان لـ بول إيلوار
أعرفك يا ألوان الرجال والنساء
زهورًا نضرة، ثمارًا عطنة، هالات منثورة
موشورات موسيقية، كتل ضباب أبناء الليل
ألوان، وكلّ ما يفتح عيني مضيء
ألوان، وكل ما يدفعني للبكاء كئيب
ألوان العافية، الرغبة، الخوف
وعذوبة الحب تضمن المستقبل
ألوان جريمة وجنون وتمرُّد وشجاعة
والضحك في كلِّ مكان يُعرِّي السعادة،
وأحيانًا العقل الذي يبصقنا كأغبياء
ودائمًا العقل الذي يُعيد خلقنا كعظماء،
خفق الدَّم على كل دروب العالم،
ألوان : ليحفر اليأس الليل كما يشاء،
ولتسود الألغاز المؤرقين حتى العظام،
فالأحلام تشرق بالجمال والخير.
إن يُقمِ الشتاء في ركن من قلبي،
ففي الركن الآخر أرى بوضوح وأرجو وأبتهج
بالألوان.
أعكسُ أخصبَ جسدٍ سوف يدوم،
أكافح، أسكر بالكفاح من أجل الحياة .
في نصاعة الآخرين أشيِّد انتصاري.
اللامحدود لـ ليوباردي
غاليًا على نفسي كان على الدوام هذا التَّلُّ الموحش
وهذا السياج الذي يسدُّ منافذ الرؤية
من كلِّ جانبٍ من جوانب الأفق البعيد
غير أنني عندما أجلس وأنظر،
تتمثّل لفكري الأماكن الشاسعة هناك
والصمت وراءها يفوق قدرة البشر
والسكينة العميقة العميقة،
فيوشك قلبي أن يتزلزل من الرعب
وكلما سمعت الريح تعصف بهذه الأغصان
وجدتني أقارن بين الصمت العظيم هناك
وبين هذا الصوت،
وأتفكَّر في الأبدي،
في الأزمان التي ماتت ولا تزال الآن حية
وفي الصوت الذي يتردد منها.
وهكذا يغوص فكري في اللامحدود
وأشعر بعذوبة الغرق في هذا البحر.
قصائد من كريت : خزف (ا)
نثار ركام
ونثار كلام
إطراق حمار
حقل الزيتون سلام
هذا ما تعطيك اليوم
ساعة نجم.
خزف (2)
لو كنا أخلصنا الجهد وسوَّينا الفخَّار
كما فعل القدماء
لوجدنا أوعية تكفي
لاستيعابِ الحظِّ المقسوم من الأقدار
بيْنا نجلس محنيين
وفي أيدينا شقفةُ طين
تلتفُّ تدور
يتسرَّب منا الحظُّ المقدور
خلف الظهر
في جوف الأرض المكنون.
باخيا أموس
ستة بيوت أو خمسة
نافذة يتحدَّر منها الضوء
ينعكس عليها ظلُّ البطل
الجالس في كرسيه
البطلة تحمل كأسًا
تمتدُّ ذراعه
- في آخرها تتوهج عين السيجارة -
وتحاول أن تلمسها.
خلف الأسطح
في الجهة الأخرى
تنزلق الزهرة
خلف حوافِّ الجبل المسنون
وبقية سطح العالم
يظلم في إبطاء.
حلم الخبز
في الحلم
رأيت الدجال
-المسخ الأعور-
يغويني :
الصخرة كانت منذ القدم
بلون الخبز
فصارت خبزًا
فوق الصخر
على المنحدر
استلقيتُ
على جنبي الأيمن :
لأن الصخر
عندئذ صار
الجنب الأيمن
خبزًا
بيْنا بقيَ الأيسر
إنسانًا
واستيقظت.
كاتو زاكروس
فتات معابد
في فم حوت
تعوم كريت
نحو الشرق
إن هَلَّ الصبح
شهقت في الصدر
ريح الأنفاس
تنساب الشمس
بين الأسنان
من قلب كريت
يمتدُّ لسان
ترعى الأغنام
يصعد إنسان
يلهث عطشان
يسعى للظلّ
والظلّ يفكِّر :
هل هذا القصر
هو بيتي العامر
في الزمن الغابر
لمَّا أن غبنا
في جوف الحوت؟
كاتو زاكروس
ماذا يتبقَّى
إلا الأحجار
تسحقها سحقًا
قدم الأقدار؟
يوم بلا شعر
تغفو الورقة
الجمل عنيدة
تنثر ملحًا
تصغي لحديث في استرخاء
تصلح وضع النظارة
تتطلع نحو البحر
مازال البحر هو البحر -
وعلى بالك
يخطر شيء
شيء فيه جديد بكر
لكن ما أكثر ما قالوه
وما كتبوه.
الورقة مازالت تغفو
بيضاء مدببة الطرف
تنتظر - كما ينتظر - الضيف .
تُذكِّرك هذه القصيدة بما يُقال عن الشاعر الرمزي العظيم "مالارمه" من أنه كان يقضي الأيام والليالي الطوال محدقًا في ورقة بيضاء عذراء موضوعة أمامه، وكأنه ينتظر كلمات في مثل نقائها وعذريتها وعدميتها المطلقة الصافية من كل أثر من آثار المادة .
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. مخرجة الفيلم الفلسطيني -شكرا لأنك تحلم معنا- بحلق المسافة صف
.. كامل الباشا: أحضر لـ فيلم جديد عن الأسرى الفلسطينيين
.. مش هتصدق كمية الأفلام اللي عملتها لبلبة.. مش كلام على النت ص
.. مكنتش عايزة أمثل الفيلم ده.. اعرف من لبلبة
.. صُناع الفيلم الفلسطيني «شكرًا لأنك تحلم معانا» يكشفون كواليس